الرأى عندى أن حركة الاصلاح الدينى فى القرن السادس عشر كانت تعنى عند لوثر «الفحص الحر للانجيل»، أى تأويل النص الدينى من غير معونة من سلطة دينية تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، ومن ثم تمتنع الدوجماطيقية التى تعنى توهم امتلاكها، ومع امتناعها لا يحق لأحد أن يتهم غيره بالالحاد. وإثر انطلاق هذه الحركة تعددت المدارس اللاهوتية إلى الحد الذى أفضى إلى نشأة علم لاهوت علمانى فى النصف الثانى من القرن العشرين. ففى عام 1965 صدر كتاب لهارفى كوكس عنوانه «المدينة العلمانية» دار عليه جدل حاد صدر فى كتاب عنوانه «جدل حول المدينة العلمانية» (1966). والعلمانية، عند كوكس، تعنى انتقال المسئولية من السلطة الكنسية إلى السلطة السياسية. وتأسيساً على ذلك يميز كوكس بين الانسان العلمانى والانسان ما قبل العلمانى. الانسان ما قبل العلمانى يحيا فى عالم من الأرواح الخيرة والشريرة، والواقع عنده مشحون بقوة سحرية إما نافعة أو ضارة. والسحر، هنا، رؤية كونية، فالأديان السومرية والمصرية الفرعونية والبابلية ليست إلا شكلاً من أشكال السحر التى توحَّد بين الانسان والكون. أما الانسان العلمانى فقد نشأ، عند كوكس، مع بداية الديانة اليهودية حيث انفصلت الطبيعة عن الله، وانفصل الانسان عن الطبيعة. وهذا التحرر للطبيعة هو شرط أساسى لتطور العلم الطبيعى، وشرط أساسى لنشأة الثقافة العلمية. ولهذا فإن استيراد التكنولوجيا ليس كافياً لرفع التخلف عن الثقافة، إذ لابد للثقافة من أن تكون علمية. ولهذا فلا أحد يحكم بالحق الإلهى فى المجتمع العلمانى. ولم يقف أمر اللاهوت العلمانى عند حد التفرقة بين ما هو علمانى وما هو قبل علمانى بل امتد إلى إعادة النظر فى مفهوم الله. ففى عام 1963 صدر كتاب للأسقف روبنسون عنوانه «كن أميناً لله» جاء فى مفتتحه أن الانجيل يتحدث عن «الله موجود فوق»، وعن كَوْن ذى ثلاث طبقات: السماء فوق والأرض تحت، والمياه تحت الأرض. أما فى عصر الفضاء فهذا «الموجود فوق» فى طريقه إلى الانزواء. ولهذا لابد من تغيير هذه المفاهيم إذ لم يعد الله مفارقاً بل محايثاً، بمعنى أنه ليس فى السماء إنما هو فى العمق. وفى عام 1966 نشر اللاهوتيان توماس ألتيزر ووليم هاملتون كتاباً عنوانه «اللاهوت الراديكالى وموت الله». وما يقصدانه هو أن الله مات فى زماننا، وفى تاريخنا وفى وجودنا. وفى رأى ألتيزر أن المفهوم التقليدى عن الله من حيث إنه منفصل عن الكون المخلوق هو مفهوم مؤقت لأنه مجرد إسقاط للاغتراب الذى يعانى منه الانسان. وقد آن الأوان لتجاوز هذا الاغتراب. أما هاملتون فيرى أن موت الله ليس حادثاً لحظياً، إنما هو حادث تاريخى وثقافى حدث فى أوروبا وأمريكا فى القرنين الأخيرين. وبديلاً عن هذا الموت يوصى هاملتون بقبول العالم العلمانى على أنه تطهير للفكر من الصيغ المسيحية التقليدية. ومع ذلك كله فقد كانت العلمانية موضع مقاومة من الأصولية المسيحية. أما فى العالم الاسلامى فقد بزغت الأصولية الاسلامية وتحكمت فيه دون مقاومة من العلمانية لأنها كانت غائبة. وحتى حين أصبح النظام التركى نظاماً علمانياً إثر إلغاء الخلافة الاسلامية فى عام 1924 فقد جاء أردوغان وألغى ذلك النظام. ولم تقف التنويعات العلمانية عند حد اللاهوتيين بل تجاوزتهم إلى العلماء، وخاصة علماء فسيولوجيا المخ، ومنهم ديك سواب فى كتابه المعنون «هويتنا فى أمخاخنا» (2014). هو عالم متخصص فى علم الخلايا العصبية، وكان مديراً للمعهد الهولندى لأبحاث المخ لمدة سبعة وعشرين عاماً. وميزة هذا الكتاب أن كل فصل من فصوله العشرين يمكن أن يقرأ على حدة. واللافت للانتباه الفصل الخامس عشر المعنون «لاهوت عصبى: المخ والدين». وفى مفتتحه يقول: إن أهم سؤال مثير للانتباه ليس هو التساؤل عما إذا كان الله موجوداً إنما التساؤل عن سبب وجود كثرة من البشر متدينة. فلدينا عشرة آلاف دين، وكل دين يعتقد أنه هو وحده المالك لحقيقة واحدة. ومع ذلك فثمة دراسة صدرت فى ابريل 2007 تقول إنه فى خلال أربعين عاما ازدادت نسبة العلمانية من 30% إلى 61%، وأن أغلب الحاصلين على جائزة نوبل غير متدينين. ومع ذلك فإن سواب يتحدث عن المخ المتدين إذ يقول إن التجارب الروحية تسبب تغيرات فى نشاط المخ، الأمر الذى يترتب عليه زيادة فهمنا لأبنية المخ وأنسقته التى بدورها تؤدى دوراً فى بزوغ الخبرة الدينية السوية والخبرة الدينية المريضة، وفى صعوبة التفرقة بينهما. أما إذا أردنا التفرقة فيلزم الانتباه إلى علاقة الثقافة بالتدين. فما تراه ثقافة هذيانا دينيا تراه ثقافة أخرى رؤى دينية سوية. ومن هنا يرى سواب أنه من الأفضل أن توظف الروحانيات فى الفن والعلم على أن توظف فى تطعيم عقول الأطفال بالدين. ومن هنا أيضاً يقول سواب إن الاضطرابات فى الخلايا العصبية للمخ قد تسبب الاصابة بمرض الهوس الدينى. وينتهى سواب من كل ذلك إلى القول بأن ما يشكل المخ هو الذى يحدد مسلكه: هويتنا فى أمخاخنا. بل إن سواب يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول بأن ما يميزنا يتحدد فى زمن الرحم ولكن ليس معنى ذلك أن أمخاخنا تكون «كاملة» يوم أن نولد. إذ المخ يواصل بعد ذلك تطوره. أما أنا فأقول إن مخ الطفل يولد كاملاً ولكنه عاجز عن النطق دون أن يكون عاجزاً عن الفهم. ودليلى على ذلك أن الطفل منذ الولادة يفهم لغة هو يجهلها.وهذا هو سبب تطوره. لمزيد من مقالات مراد وهبة