رحل عن عالمنا المطران غريغوار حداد رئيس ايبارشية الروم الكاثوليك ببيروت فى 24/11/2015. كان ينادى بالعلمانية، ومن أجل ذلك أصدر مجلة " آفاق" فى بداية عام 1974 ونشر فيها سلسلة مقالات ابتداء من العدد الأول تحت عنوان على هيئة سؤال: "هل البحث الدينى الجذرى كفر وشك أم هو فى منطق الانجيل؟". وجاء جوابه بأن البحث الدينى الجذرى كامن فى منطق الانجيل، ومن ثم طالب بتغيير جذرى للغة الدينية . وكانت حجته أن لغة القرن الثانى عشر لا يمكن أن تسهم فى فهم الايمان المسيحى، إذ من شأن التمسك بها يكسبها قيمة مطلقة فى حين أن القيمة المطلقة تخص الله وحده. ومن هنا يصبح تغيير اللغة حتمياً للمحافظة على الرسالة الكنسية، ومن ثم يصبح إقصاء الطائفية من الهوية حتمياً كذلك. وتأسيساً على ذلك أدان سنودس الروم الكاثوليك فى مايو من عام 1974 أفكار المطران حداد بدعوى تناقضها مع العقيدة المسيحية. لذا كان لزاماً أن أكتب عنه فى مجلة " الطليعة" وكنت فى حينها مشرفاً على " ملحق الفلسفة والعلم". قرأت افتتاحية مجلة " آفاق" تحت عنوان "لماذا آفاق؟" وجاء جوابه على النحو الآتى: " آفاق مجلة ملتزمة، والتزامها هو الانسان. ولكن مَنْ هو هذا الانسان؟ جواب " آفاق": " إذا كان الله فى داخل الانسان فالايمان بالله يتجسد فى الايمان بالانسان". ثم جاء فى خاتمة الافتتاحية أن الحوار يعنى أن أي قضية لن ينتهى فهمها نهائياً، بل بالعكس كلما ازداد الانسان فهماً لها تبينت له آفاق جديدة". والسؤال اذن: ما هى هذه الآفاق الجديدة ؟ ذهبت إلى بيروت فى شهر نوفمبر من نفس ذلك العام للمشاركة فى ندوة محدودة تحت عنوان " الحضارة والبترول" اشترك فيها معى اثنان مرموقان هما الشاعر المبدع أدونيس والمطران جورج خضر من الروم الأرثوذكس وكان من المتفق عليه أننى بعد انتهاء الندوة أجرى ثلاثة حوارات مع الإمام موسى الصدر والمطران غريغوار حداد والمطران جورج خضر. وفى بداية الحوار مع المطران حداد سألته عن رأيه فيما كتبته عنه فى مجلة الطليعة فكان جوابه بأنه موافق على كل كلمة وردت فيما كتبت وعندئذ استطردت قائلا: أنت إذن ترفض الوضع القائم فى لبنان دينياً وسياسياً، وترنو إلى آفاق جديدة فما هى هذه الآفاق: أفق يذهب إلى رفض العقيدة المسيحية كشىء موضوعى متحجر. وأفق ثان يدعو إلى العودة إلى الأصول الأولى للمسيحية. وأفق ثالث ينادى بنقد جذرى للدين. لايكتفى بالمطالبة بالاصلاحات السطحية وحتى العميقة فى الكنيسة، بل يتجاوزها إلى المطالبة باعادة النظر فى الكنيسة ذاتها والتساؤل حول أن تكون أو لا تكون. وأنا من الذين ينادون بالأفق الثالث. سألته: وما هى ركائز هذا النقد الجذرى للدين؟ أجاب: ركيزتان: المسيح والانسان. وكل منهما مطلق. سألته: أليس القول بمطلقين تناقضاً فى الحدود باعتبار أن المطلق بحكم طبيعته واحد بالضرورة؟ أجاب: إذا فهمنا القول بمطلقين على أنه ينطوى على ازدواجية فهذا فهم مرفوض. أما أنا فأفهم هذا القول بمعنى اندماج الانسان فى الله، أى بمعنى تداخل المطلقين مع ملاحظة أن مطلقية الانسان أقل من مطلقية الله. وهذا القول حرفياً قد يوحى بالكفر والالحاد، ولكن مجازياً يعنى مشاركة الانسان فى الألوهية، ويعنى أن الانسان كائن متطور وغايته من التطور أن يصبح الهاً. سألته: وماذا يترتب على هذا التصور من نتيجة؟ أجاب: فك الاشتباك بين المطلق والنسبى حتى يظل المطلق محتفظاً بمطلقيته. سألته: وعملياً كيف تجسد هذه النتيجة؟ أجاب: أطالب بتغيير جذرى. وفى مقدمة هذا المطلب تغيير لغة الكنيسة من أجل المحافظة على الكنيسة. سألته: هل ثمة دوافع سياسية وراء هذا النقد الجذرى للدين؟ أجاب: إذا كان ذلك كذلك فهذه ديماجوجية. ليس لدى من دوافع سوى إيمانى. ففى أثناء دراستى فى كلية اللاهوت كنت أقرأ ما يصلنى سراً من كتابات اللاهوتى وعالم الجيولوجيا تيار دى شاردان ( مات 1955)، وكانت تصلنى مكتوبة بالآلة الكاتبة لأن بابا الفاتيكان كان قد أصدر أمراً بعدم طبع مؤلفاته كما أصدر أمراً بمنعه من إلقاء محاضرات فى الجامعات الفرنسية. سألته: لماذا ؟ أجاب : لأنه أحدث تغييراً فى مفهوم الله. فالله عنده لم يعد ثابتاً، إذ هو متطور. ويترتب على ذلك تأسيس علم لاهوت جديد اسمه لاهوت التاريخ أو لاهوت التطور. ومن هنا اكتشف أن الايمان الحقيقى لا يمكن أن يكون أفيوناً للشعوب، بل قوة دافعة لتغيير المجتمع وتحرير الانسان، ولكن اللافت للانتباه هاهنا هو أنه فى اليوم السابق على التقائى المطران حداد أى فى 13/11/ 1974 كان الرئيس عرفات يلقى خطاباً فى الجمعية العامة للأمم المتحدة جاء فيه قوله إنه يعرض رغبة الفلسطينيين فى التعايش مع اليهود فى الدولة الفلسطينية الديمقراطية، أى الدولة التى لا تقوم على أساس دينى،بل تقوم على أساس علمانى. واللافت للانتباه هنا أيضاً أن الامام موسى الصدر فى حواره معى قال إن الربط بين الدين والدولة كان فى خدمة الطغاة المسلمين. وفى هذا المعنى كان الاتصال سراً بين الامام والمطران. والمفارقة هنا أن هذه الدعوة إلى العلمانية من قبل موسى الصدر وحداد وعرفات قد قُبرت إثر اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية فى عام 1975 وحذف مصطلح العلمانية من قبل حركة فتح فى عام 1978 واشتعال الثورة الايرانية الأصولية فى نفس ذلك العام، وتصفية الامام الصدر فى ليبيا بأمر من القذافى وتأسيس حزب الله الأصولى فى جنوبلبنان فى عام 1982. لمزيد من مقالات مراد وهبة