مع صدور كتاب الأسقف الانجليكانى والراعى لايبارشية وولوش بانجلترا وعنوانه لنكن أمناء لله, يمكن القول إن ثمة ثورة لاهوتية تمحورت حول صورة الله عند الانسان. والسؤال إذن: ماذا كانت صورة الله فى وضع قائم وكيف ستصبح عليه صورة الله فى وضع قادم؟ فى الوضع القائم عند صدور ذلك الكتاب كان الله موجودا هناك وفوق وماوراء الطبيعة فى كون ذى أبعاد ثلاثة: السماء من فوقنا والأرض من تحتنا والمياه تحت الأرض رافعة لها. وكلها مصطلحات شائعة ومتداولة فى معناها الحرفى. والسؤال اذن: هل هذا المعنى الحرفى لهذه المصطلحات صالح للتداول بعد ثورة كوبرنيكس وبعد غزو الفضاء؟ إن ثورة كوبرنيكس فى القرن السادس عشر تعنى انتقال المركزية من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس، وبالتالى فإنها تعنى عكس ما كان يعنيه بطليموس منذ ألفى عام عندما ارتأى أن الأولوية لمركزية الأرض بمعنى دوران الشمس حول الأرض. وفى هذا السياق واجهت ثورة كوبرنيكس مقاومة حادة من السلطة الدينية التى كانت منحازة فى حينها إلى نظرية بطليموس إلى الحد الذى فيه صودر كتاب كوبرنيكس المعنون: عن دوران الأفلاك (1543) وحوكم جاليليو دينيا بسبب تأييده ما ورد فى ذلك الكتاب. والسؤال الآن هو على النحو الآتى: كيف تستقيم صورة الله التقليدية التى تتحدد بوجودها فى مكان محدد مع القول بفضاء جديد خالٍ من أبعاد مكانية؟. إذا كان هذا السؤال هو كذلك فى سياق ثورة كوبرنيكس فهو كذلك فى سياق غزو الفضاء حيث الترحال بين الكواكب والنجوم من غير ذكر لفواصل مكانية. وإذا قيل بعد ذلك إن الله موجود فى ماوراء فليس ثمة ما وراء، إذ ليس من المعقول أن يكون الله محدودا بمكان يقال عنه إنه ما وراء. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: هل كان أسقف وولش وحيدا فى تبنيه هذه الثورة اللاهوتية؟ جاء جوابه بالنفى، وسبب ذلك مردود إلى لاهوتيين آخرين كان لهما الفضل فى التمهيد لتلك الثورة. يذكر فى البداية اللاهوتى الألمانى بول تليش وكتابه المعنون هز الأسس(1949) وهو عبارة عن تجميع لعظات كان يلقيها خارج كلية اللاهوت، وكانت ترجمة مبسطة لأفكاره اللاهوتية المعقدة. وكان يعنى بهذه الأسس أن الله لم يعد فى الأعالى بل فى العمق. ومن هنا يقول تليش: إذا عرفت أن الله يعنى العمق فأنت عندئذ تعرف عنه الكثير، وعندئذ لن تقول عن نفسك إنك ملحد أو إنك غير مؤمن، لأنك فى هذه الحالة لن تستطيع القول إن الحياة بلا عمق أو إن الحياة خواء. فالذى يعرف العمق هو الذى يعرف الله. وبناء عليه يرى تليش أن علم اللاهوت الردىء هو العلم الذى يصور الله على أنه خارجنا وليس فى داخلنا، لأنه إذا قيل إنه خارجنا وأنكرناه فمعنى الانكار هنا إمكان التفكير فى إله آخر قد يكون فى مكان آخر. وحتى فى هذا المعنى لن يكون ثمة مبرر لاتهام الانسان بأنه ملحد. وبعد ذلك يذكر الأسقف جون روبنسون لاهوتيا آخر وألمانيا أيضا ومعاصرا لهتلر. إنه اللاهوتى ديتريش بونهوفر فى كتابه المعنون: رسائل وأوراق من السجن, الذى لم يصدر فى لغته الأصلية وهى الألمانية إلا فى عام 1951، أى بعد إعدامه شنقا من قِبل الحزب النازى فى 9 ابريل 1945، إذ كان ضد النازية ولهذا كان علم اللاهوت عنده يدور حول ضرورة انخراط الكنيسة فى الحياة الاجتماعية والسياسية، وفى الوجود مع الآخرين، ومن هنا نكون مع الله. ومن هنا أيضا قال جون روبنسون عن بونهوفر فى تقديمه ذلك الكتاب إنه قديس العلمانيين. والسؤال بعد ذلك: هل هذا اللقب يشى ببزوغ مصطلح جديد كان قد صكه بونهوفر باللاتينية والذى يعنى بالعربية انسانا غير متدينب؟ وكان جواب روبنسون أننا وصلنا إلى مرحلة فى التاريخ تسمح بأن ننطق مثل هذه المصطلحات بصراحة وبلا مواربة، وأن من شأن هذا النطق أن يكون تخفيفا لتراث كان قد أنهك قوانا، ولكن بشرط واحد وهو أن نكون أمناء منذ بداية ذلك النطق حتى نهايته. ومع ذلك كله قيل عن أسقف وولوش إنه أسقف ملحد، ومن ثم طلب إليه أن يستقيل. وأجاب قائلا: أنا لا أستقيل إنما أُقال ولم يجرؤ أحد أن يقيله، فقد أحدثت أفكاره زلزالا لم يتوقف منذ أن أصدر كتابه المعنون لنكن أمناء لله فى 19 مارس 1963. والسؤال اذن: ماذا حدث بعد ذلك؟. تسلم الأسقف روبنسون ألف رسالة تعليقا على كتابه انتقى منها مدير دار نشر الطالب المسيحى, ديفيد ادواردز خمسين رسالة ونشرها فى كتاب عنوانه جدل حول كتاب لنكن أمناء لله. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبه