إن الإنسان منذ أن وُجد ابتدع الآلهة والفنون لمهادنة قوى الطبيعة العنيفة من جهة، وللتعبير عن إعجابه بهذا الكون من جهة أخرى. وظل الإنسان على هذه الحال إلى أن لاحت الأديان السماوية وهى اليهودية والمسيحية والإسلام فى مقابل الديانات الأرضية والتى لا تعتقد بما تعتقده الأديان السماوية بوجود إله واحد. ومع ذلك فحتى الأديان السماوية لا تتفق فيما بينها على مفهوم واحد عن الله. ولهذا فإن الذى يعنينا هنا ليس الله فى ذاته، إنما الله كما يبدو للعقل الإنسانى. ومن هنا يكون الصراع بين العلم والدين صراعا وهميا لأن كلا منهما يتمثل مفهوماً معيناً عن الله. مثال ذلك: نظرية التطور عند داروين لا تتصور الله على نحو ما جاء فى سفر التكوين من أنه خلق الإنسان على صورته بل على أنه وُلد من أدنى الأنواع الحيوانية. وأظن أنه فى هذا السياق بدأ علماء اللاهوت يرفضون المفهوم التقليدى عن الله. وبسبب هذا الرفض أصبح لدى جون روبنسون أسقف وولوش بانجلترا الجرأة فى أن يعلن فى كتابه المعنون «لنكن أمناء لله» أن صورتنا عن الله يجب أن تزول. فالله ليس «هناك» كما أنه ليس «فوق»، إنما هو فى أعماق الإنسان. وقد قيل إثر نشر ذلك الكتاب إنه بمنزلة انفجار قنبلة ذرية، إلا أن هذا الانفجار لم يكن من أجل التدمير بل من أجل إفساح المجال لتعدد مفاهيم الله. ومع ذلك فقد قيل عن ذلك الكتاب إنه تأسيس لعلم لاهوت جديد وقيل عنه مرة أخرى إنه تأسيس للاهوت علمانى، وقيل ثالثاً إنه لاهوت بلا اله، وانعكست هذه الأقاويل عن علم اللاهوت على علم الكون الذى أصبحت مهمته إعادة النظر فى مسألة خلق الكون حتى انتهى الأمر إلى بزوغ نظرية «البج بانج» أى «الانفجار العظيم» ومفادها أن ثمة ذرة أولية هى أصل الكون. ثم ارتأى العالم الفيزيائى بيتر هيجز أن هذه الذرة عبارة عن «جسيم ضئيل» أطلق عليه لفظ «الإله الجسيم». وفى السبعينيات من القرن العشرين بدأت هذه التنويعات من علم اللاهوت تتوارى ويحل محلها لاهوت الأصوليات الدينية بوجه عام ولاهوت الأصولية الإسلامية بوجه خاص، وفكرتها المحورية تدور حول إله يحرض على القتل بعد التكفير. وأُطلق مصطلح «الارهاب» على التكفير مع القتل، ومن ثم أصبح إرهابا دينيا ودخل فى علاقة عضوية مع مفهوم معين عن الله وهو أنه المسئول عن إزهاق الأرواح. وبهذا المفهوم عادت البشرية إلى عصورها الأولى، حيث كانت الأسطورة فوق العقل بعد أن أصبح العقل فى عصورها الحديثة فوق الأسطورة، ومن ثم برز التناقض الحاد بين الطرفين: الأسطورة والعقل. وجاءت أحداث 11/9 تعلن إقصاء العقل والاكتفاء بالأسطورة المتمثلة فى الأصولية الإسلامية والتى بدأت بعدها فى اختراق جميع مؤسسات دول العالم بلا استثناء. وفى هذا السياق أصبحت الأصولية الآن فى الصدارة، وكانت بدايتها إثر انتهاء حرب عام 1967. فقد قال ليفى إشكول رئيس وزراء اسرائيل إثر انتصار بلده «إن الله هو السبب فى هذا الانتصار»، فى حين قال الشيخ الشعراوى إننا انهزمنا لأننا ابتعدنا عن الله. وإذا قارنت بين القولين فإنك مضطر إلى الانتهاء إلى طرح السؤال: الله مع مَنْ؟ وأيا كان الجواب فإنه يعنى أن مفهوم الله لم يعد ثابتا بل أصبح متغيرا لأنه مرهون بالانحياز، وهو الأمر الذى يدفعنا إلى إعادة النظر بين الله فى ذاته والله كما نراه أو كما نفهمه. وفى عبارة أوضح لزم إعادة النظر فى العلاقة بين مفهوم الله ومفهوم الإنسان عن الله. المفهوم الأول ليس فى مقدور الإنسان لأن الله مطلق والإنسان نسبى. وفى هذا السياق أسرد حوارا دار بين الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية والفيلسوف الانجليزى هربرت سبنسر فى برايتون بانجلترا حيث يقيم. وحين سأله سبنسر عن مفهومه عن الله كان جواب الشيخ محمد عبده أن بعض المتصوفة يعتقد أن الله ليس بشخص. واغتبط سبنسر من الجواب ثم أردف قائلا: من الواضح أنكم لا «أدريون» من نوع االلاأدريةب الشائعة فى أوروبا. ولكن مع صعود الأصوليات الدينية فى الثلث الأخير من القرن العشرين وما لازمها من إرهاب فى القرن الحادى والعشرين متمثلا فى تكفير الآخر المخالف وقتله إن عاند وظل مخالفا وذلك بالاستعانة بشباب مقتنع بأن يتحولوا إلى قنابل انتحارية موجهة إلى قتل آلاف من البشر، سواء كانوا فى المعابد أو خارجها لكى يركع الكل المخالف من أجل التمهيد لتأسيس الخلافة الإسلامية فى نهاية المطاف على مستوى كوكب الأرض على نحو ما ترى الأصولية الإسلامية المتمثلة فى الإخوان المسلمين كأصل وداعش والنصرة وغيرهما كفروع. وفى القرن الحادى والعشرين ومع شيوع الأصولية الإسلامية التى تدعو إلى قتل البشر المخالف باسم الله يكون صاحب الدعوة متمثلا لإله ينوب عنه فى تحديد موعد موت البشر. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة