وإذا كان ذلك كذلك فملكية الحقيقة المطلقة أمر محال. وفى هذا المقال أدلل لك على هذا الأمر المحال مستعينا بما ورد فى كتابين لفيلسوف واحد اسمه نايجل ووربرتن يستهويه الحوار على الهواء مباشرة وأسبوعيا مع فلاسفة آخرين، وهو الأمر الذى من شأنه تحويل الفكر الفلسفى من فكر محبوس فى الجامعات إلى فكر منطلق إلى الجماهير. والغاية من هذا التحويل إحداث زلزال فى ذهنية الجماهير فى إطار سلسلة من الأسئلة المقتحمة للمحرمات الثقافية. الكتاب الأول عنوانه مثير « الفلسفة تلسع»( 2010). وعنوان الكتاب الثاني«قصة الفلسفة فى إيجاز» ( 2011). والكتابان يبدآن بسقراط الذى اشتهر عنه بأنه ذلك الذى كان فى حالة تساؤل. لم يصدر عنه أى كتاب، إذ كان همه الذهاب إلى الأسواق لمقابلة معاصريه والتحاور معهم لكى يكونوا على وعى بأنهم جهلاء رغم زعمهم بأنهم يمتلكون اليقين المطلق. وهنا مكمن السخرية، إذ هو فى نهاية الحوار يسخر منهم وهم أيضا يسخرون من أنفسهم. ومن هنا قيل عن سقراط إنه مثل ذبابة الماشية التى تلسع. ووصفه الأثينيون بأنه يشكل خطورة على المجتمع فتقدموا بعريضة إلى المحكمة مفادها أنه ينكر الآلهة ويفسد عقول الشباب فخيرته المحكمة بين أحد أمرين: أن يتخلى عن «التفلسف» فنخلى سبيله أو يتمسك به فيعدم. وقد اختار سقراط الأمر الثانى فأُعدم. والمفارقة أن الذى حدث مع سقراط فى القرن الرابع قبل الميلاد يحدث الآن فى القرن الحادى والعشرين حيث التكفير ثم القتل لم يعتقد فى إله غير الإله الذى يؤمن به الارهاب الاسلامى الأصولي، وهو إله يحرص على القتل ويكافئ بالعيون الحور فى الجنة الموعودة. ويلزم من ذلك أن يدور الحوار، فى تجديد الخطاب الديني، حول هذا المفهوم عن الله، إلا أن ذلك النوع من الحوار لم يحدث. وقد مارسه بالفعل ووربرتن عندما عرض لآراء بعض الفلاسفة الذين أثاروا مفهوم الله. فاسبنوزا مثلاً فيلسوف هولندى يهودى كان تصوره عن الله أنه مرادف للطبيعة. ولم يكن هذا المفهوم مسايرا لمفهوم الحاخامات فاضطهدوه وكفروه فى عام 1656، ومع ذلك فإن الشعب الهولندى يحتفل به فى كل عام. ويعرض ووربرتن لفيلسوف لاهوتى من هذا القرن اسمه دُن كَبت، ويقول عنه إنه مثل سقراط فى أنه ذبابة الماشية التى تلسع ، ويقول عنه إنه قس راديكالي، وراديكالى تعنى الحفر فى العمق حتى يتلامس مع جذور المسألة المثارة. ومن ثم يجد نفسه مقاوماً للأصولية الدينية التى يقول عنها إنها تتجمد عند مفهوم معين عن الله وترفض تغييره مهما يحدث من تطور حضاري. والسؤال اذن: ما هو مفهوم الله عند دُن كبت؟ كان اللاهوتى كبت يذيع حلقات تليفزيونية فى عام 1984 تحت عنوان « بحر الايمان» ثم نشرها فى كتاب تحت العنوان ذاته. وكانت هذه الحلقات بداية تأسيس حركة أطلق عليها مصطلح « اله ما بعد الحداثة» كان موضع تشهير من الأصولية الدينية. مفاد هذه الحركة أن ثمة علاقة عضوية بين وجود الأشياء ومعرفتنا بها، بمعنى أن معرفتنا بهذه الأشياء تتدخل فى تشكيلها بحيث لاتراها كما هى فى ذاتها إنما تراها كما تبدو لنا. وما يقال عن الأشياء الموجودة يقال أيضا على الله، بمعنى أن معرفتنا به ليست منفصلة عن ايماننا به. ومن هنا يقول كبت إن مفهومنا عن الله متطور مع تطور ايماننا، وهذا التطور بدوره مرهون بتطور حضارة الانسان. وهو يدلل على ما يقول بما ورد فى سفر التكوين، إذ ورد فيه أن العالم خلقه الله مكتملاً ، وأن الانسان خُلق أيضاً مكتملاً دون أن يمر بمرحلة الطفولة، إذ كانت لديه لغة يتحدث بها. وقد ظل هذا المفهوم عن الله وعن الانسان من غير تغيير حتى نهاية العصور الوسطي. ومع دخولنا العصور الحديثة تغير الحال، إذ أصبحنا على وعى بفعاليتنا فى تكوين رؤيتنا عن الكون. والمغزى هنا أننا بقينا آلاف السنين ونحن على يقين بأن لدينا أساسا « مطلق» ثابتا خارج وجودنا، مستنداً إليه من غير معاناة لمقتضيات التغير. ولكن مع القرن العشرين بدأنا نشعر بأن كل شيء فى تغير، وأنه لم يبق بعد ذلك سوى المحبة، محبة الانسان لأخيه الانسان وهو أمر من شأنه أن يُحدث حوارا بين بنى البشر أجمعين، ويكون من شأنه أيضاً امتناع حرب ضد حرب، فى مقابل حدوث سلام مع سلام من أجل الوصول إلى اتفاق حول رؤية كونية معينة. وفى هذا السياق واجه اللاهوتى كَبت معارضة حادة، إذ قيل إنه قد انتهى إلى « نسبية» يكون من شأنها إلغاء الاتفاق المتوقع، بل قيل أشد من ذلك وهو أنه « ملحد» فى حالة تنكر. وجاء جواب كَبت كالآتي: « أنا بالفعل منحاز إلى النسبية ولكن على أمل فى الوصول إلى اتفاق حول الحقيقة. أما عن إلحادى فأنا أقول بأن ما هو إلحاد اليوم يمكن أن يتحول إلى دين فى مستقبل الأيام. ثم يستطرد قائلاً: ألم يُتهم المسيحيون بأنهم كفرة فى زمن الامبراطورية الرومانية لأنهم لم يعترفوا بآلهتها، وإذا قيل عنى بعد ذلك أننى ملحد فأنا أقبل الاتهام ولكن بشرط ألا يقال عنى إننى ملحد دوجماطيقي، بمعنى رفضى لتغيير مفهومى عن الله إذا أصبح متناقضاً مع تطور حضارة الانسان. وإذا أصررتم على اتهامى بالالحاد فهذا عندى أفضل من اتهامى بالأصولية الدينية التى لا أحتمل وجودها. ولا أدل على صحة آراء كَبت بل على قوة تأثيرها من صدور كتاب عنوانه « إله ما بعد الحداثة» لمجموعة من اللاهوتيين. لمزيد من مقالات مراد وهبة;