هو من أشهر الفلاسفة فى تاريخ الفكر بوجه عام، وتاريخ الفكر اليونانى بوجه خاص. وُلد فى القرن الرابع قبل الميلاد ولكن النزعة السوفسطائية كانت قد سبقت مولده فى القرن الخامس قبل الميلاد وكان زعيمها اسمه بروتاغوراس. لم يصلنا من مؤلفاته سوى شذرات من كتابه المسمى " الحقيقة". وقد عُرف بعنوان آخر " اللكمات" و معناه الانتصار على حجج الخصم بالضربة القاضية. وأشهر شذرة فيه وردت فى البداية وهى على النحو الآتى: " أنت تعلم أن الانسان مقياس الأشياء كلها"، وبالتالى ليس أحد على خطأ فى شأن القول بأن اعتقاده هو الحق. وقد دلل على ذلك بأمثلة مأخوذة من إحساسات متناقضة و أحكام متناقضة، وليس فى إمكاننا المفاضلة. وهذا معناه نسبية الحقيقة. وكل ذلك من شأنه إثارة سؤالين: كيف يمكن أن تكون كل المعتقدات، على تناقضها، حقيقية؟ وهل الأشياء لها خصائص ناشئة من الانسان الذى يدركها؟ والسؤال بعد ذلك: ماذا كان موقف أفلاطون من نسبية الحقيقة عند بروتاغوراس؟ تحامل عليه إلى حد أنه ميَز بين الفيلسوف والسوفسطائى. فالفيلسوف ينشد دقة اللفظ وصدق النتيجة استناداً إلى قوانين الاستدلال. أما السوفسطائى فتستهويه البلاغة والتلاعب بالحجج. ومن هنا قرر أفلاطون طرد بروتاغوراس ومعه النزعة النسبية من مجال الفلسفة، بل أغلب الظن أنه أمر بحرق مؤلفاته. ولا أدل على ذلك من أنه لم يبق منها سوى شذرات. وتابعه فى التنديد بالسوفسطائية تلميذه أرسطو الذى استند فى ذلك إلى ما ذكره أفلاطون عن بروتاغوراس. واللافت للانتباه هاهنا أنه بالرغم من ادعاء أفلاطون بأنه تلميذ سقراط إلا أن سقراط كان حظه أسوأ من حظ بروتاغوراس، إذ إنه لم يكتب حرفاً واحداً مما قال، إنما الذى كتب نيابة عنه هو أفلاطون الذى عرض أفكار سقراط على هيئة محاورات، ومع ذلك فحتى هذه المحاورات قيل عنها إن أفلاطون استخدم فيها سقراط كوسيلة لصياغتها على نحو ما يرى هو وليس على نحو ما يرى سقراط. والشواهد على ذلك متعددة. فعندما سأل أحد مريدى سقراط كاهنة معبد دلفى الناطقة بوحى الاله أبولون " هل يوجد رجل أحكم من سقراط؟" جاء الجواب بالسلب. وأراد سقراط أن يستبين غرض الاله فى ذلك الجواب، وقد كان، إذ اكتشف أنه يعرف أنه جاهل بينما غيره جاهل يدَعى العلم. أما أفلاطون، فى هذه المسألة، فهو على الضد من سقراط إذ كان يقول " العلم تذكر والجهل نسيان". لماذا؟ لأن النفس، فى رأى أفلاطون، قبل اتصالها بالبدن كانت فى صحبة الآلهة تشاهد المُثل التى هى عبارة عن موجودات ثابتة لا تتغير فى عالم مغاير لعالم المحسوسات الذى يموج بأشياء ندركها بحواسنا فى هذه الحياة الدنيا. وهى، من هذه الزاوية، ليست إلا أشباح هذه المُثل التى هى مطلقات بينما الأشباح نسبيات. وأفلاطون ينحاز إلى المطلق دون النسبى. أما سقراط فلم نعرف عنه إلا أنه منحاز إلى النسبى. ولا أدل على ذلك من أنه دعا إلى تغيير آلهة المجتمع الأثينى. ومعنى ذلك أن الآلهة نفسها تتغير بتغير الزمان. ومن هنا فإن سقراط يماثل بروتاغوراس. وكان هذا التماثل هو السبب فى الحكم على الاثنين بالاعدام إلا أن بروتاغوراس استطاع الهروب أما سقراط فنفذ الحكم. ولم تقف مطاردة النزعة النسبية عند حد القرن الرابع قبل الميلاد بل امتدت إلى القرن السادس عشر الميلادى عندما أصدر كوبرنيكس كتابه المعنون "عن دوران الأفلاك" (1543) وفيه أعلن نظرية دوران الأرض حول الشمس والتى بمقتضاها يدور الانسان مع الأرض، ومع دورانه فإنه يتحرك ومع الحركة التغير، والتغير بدوره يفضى إلى نسبية الحقيقة فما هو صادق اليوم يكون كاذباً غداً. فصودر الكتاب بسبب هذه النظرية وحوكم جليليو بسبب تأييده لهذه النظرية. وقد ظل هذا الصراع بين المطلق والنسبى حتى القرن الحادى والعشرين، إذ صدر فى عام 2005 كتاب عنوانه الرئيسى " نظرية المعرفة فيما بعد بروتاغوراس" وعنوانه الفرعى " ردود أفعال ضد النزعة النسبية لدى أفلاطون وأرسطو وديموقريطس" من تأليف ماى كيونج لى أستاذ الفلسفة بجامعة كولورادو. وأظن أن صدور مثل هذا الكتاب فى هذا القرن هو رمز على الصراع بين المطلق والنسبى، أو بالأدق بين الأصوليات الدينية التى تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة وبين العلمانية التى تمتنع عن تحويل ما هو نسبى إلى ما هو مطلق. ولم تكن مصر بعيدة عن هذا الصراع الذى دار حول النزعة السوفسطائية، إذ تبلور عند اثنين من مشاهير أساتذة الفلسفة وهما يوسف كرم وعبد الرحمن بدوى. كان يوسف كرم يقول عن السوفسطائيين فى كتابه " تاريخ الفلسفة اليونانية" إن السوفسطائيين مجادلين ومغالطين، وكانوا مُتَجرين بالعلم، وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء. أما عبد الرحمن بدوى فيقول فى كتابه المعنون " ربيع الفكر اليونانى": " إن النزعة السوفسطائية نزعة انسانية لأنها أدخلت الانسان كمقياس للأشياء جميعاً، ومن ثم فهى نزعة تنويرية. ويبقى بعد ذلك سؤال: ما الدافع إلى اهتمام المؤلف بنشر صراعات كانت سائدة فى العصر اليونانى القديم؟ يمكن الكشف عن هذا الدافع فى الصفحة الأولى من الكتاب فى قول المؤلف بأن أول مَنْ صاغ النزعة النسبية فى الفلسفة الغربية هو بروتاغوراس. وقد جاءت هذه الصياغة تحدياً لمن يتوهم أن عقله قادر على قنص الحقيقة المطلقة على نحو ما ارتأى كل من أفلاطون وأرسطو. وأظن أن هذا التحدى مازال قائماً حتى الآن مع صعود الأصوليات الدينية المتوهمة امتلاك الحقيقة المطلقة والمتجذرة فى فلسفة الديكتاتور أفلاطون. لمزيد من مقالات مراد وهبة