فى شهر أغسطس من هذا العام وأمام «بلاكويل» أكبر دار نشر على كوكب الأرض تم الاعلان عن محاضرة يلقيها أشهر فيلسوف ملحد فى هذا القرن ريتشارد دوكنز فى الساعة السابعة من مساء 22 أكتوبر من هذا العام على أحد مسارح أكسفورد وتذكرة الدخول ثمنها خمسة جنيهات. وعنوان المحاضرة «شمعة مضيئة فى الظلام لفترة وجيزة: حياتى هى العلم». ومعنى ذلك أن الالحاد ظاهرة انسانية فى طريقها إلى الشيوع فى العالم الغربى، وهذا على النقيض مما يحدث فى العالم الاسلامى حيث الاتهام بالالحاد يفضى إلى قتل صاحبه بالضرورة . وما يحدث فيه الآن مماثل لما كان يحدث فى أثينا فى القرن الرابع قبل الميلاد عندما اتهم سقراط بأنه ينكر الآلهة ويفسد عقول الشباب وحكم عليه بالاعدام ولكنه رفض الهروب ونفذ. والأصوليه فى العالم الاسلامى تمارس فى هذا القرن ما مارسته أثينا مع سقراط ولكن مع القتل دون محاكمة، ومع ذلك ففى القرآن الكريم ثمة آية كريمة تقول: «فمن شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر». والمعنى أن الايمان أو الالحاد من صنع الارادة البشرية فأنت وما تشاء من أن تكون مؤمناً أو أن تكون ملحداً. وهذا هو المعنى الوارد فى كتاب دوكنز المعنون ز وَهم الله (2007) وقد يكون العنوان مقلقاً ولكن مع القراءة يبدو على غير ذلك. فهو يفتتحه بالمعارضين لالحاده ولكنه يرد عليهم بنكهة هى نسيج وحدها. فقد قيل له أنت مثل الأصولى الذى تنتقده، وكان جوابه أن هذه المساواة خاطئة. صحيح أن لكل منهما حمية فى الدفاع عن رأيه، إلا أن حمية الأصولى لا تسمح له بتغيير ذهنه حتى لو كانت الأدلة صارخة ضد معتقده أما حمية دوكنز فهى تسمح بتغيير رأيه إذا ثبت العكس بالأدلة، ثم استطرد قائلاً: «أنا ملحد» ولكن الدين موجود ليبقى فعليك اذن أن تتعايش معه، ثم كرر قائلاً: أنا ملحد ولكن البشر فى حاجة إلى دين، ما البديل؟ كيف يمكنك اراحة الثكلى واليتامى؟ كيف يمكنك ملء الفراغ؟ إن رجل الشارع فى حاجة إلى الدين. وفى يناير 2006 عندما طُلب من دوكنز الحديث فى القناة الرابعة بالتليفزيون البريطانى عن «الدين أصل كل الشرور» امتعض من العنوان وطالب بتغييره بدعوى أنه من المحال أن يكون الدين كذلك، ولكنه فوجئ باعلان من القناة الرابعة فى الصحف القومية تمهيداً لحديثه جاء على النحو الآتى: تصور عالماً بدون دين، تصور عالماً يخلو من القنابل البشرية الانتحارية. تصور عالماً يخلو من أحداث 11/9، ويخلو من اضطهاد اليهود ، ويخلو من طالبان التى تنسف الآثار القديمة وتقتل الكفار». وإذا ارتعبت من هذه التخيلات فعليك أن تتساءل عن كيفية ايمانك بدين معين. إنه قد تم منذ الطفولة، إذ رباك والداك على أن دينهما هو الدين الحق وأن غيره من الأديان باطل، ومن هنا ينتهى دوكنز إلى نتيجة مذهلة وهى أنه ليس ثمة طفل مسلم أو طفل مسيحى إنما ثمة طفل لوالدين مسلميْن أو مسيحييْن، وأنا أضيف الآتى: سألت المعلمة طفلاً فى رياض الأطفال بالقاهرة: هل أنت مسيحى أم مسلم؟ وجاء جوابه: أنا أهلاوى لأنه كان من هواة مشاهدة كرة القدم فى التليفزيون. ودوكنز يريد من ذلك أن يصل إلى تناول ظاهرة الالحاد بلا عصبية لأنها ظاهرة صحية، إذ هى مؤشر على الزهو باستقلال العقل وبجسارته فى الخروج على الشائع والمألوف، ومع هذه الجسارة يتساءل العقل عما إذا كان فى إمكانه حسم الاختيار بين الايمان والالحاد. وكان الفيلسوف الألمانى العظيم كانط سباقاً فى إثارة هذا السؤال وانتهى منه إلى أن العقل يقف عاجزاً أمام حسم الاختيار لأن البراهين على وجود الله مماثلة فى قوتها للبراهين على عدم وجود الله. والسؤال بعد ذلك: هل فى الامكان الخروج من هذه الاشكالية؟ جاء الجواب من فيلسوف فرنسى اسمه بليز بسكال وجوابه اسمه «رهان بسكال» ومفاده أنه إذا لم يكن فى الامكان حسم الاختيار بين وجود الله وعدمه فلنراهن على أنه فى حالة الاقرار بوجوده فأنت تكسب الآخرة أما فى حالة الاقرار بعدم وجوده فأنت لن تخسر شيئاً. وجاء جواب آخر من أينشتين ، إذ قال: «إن التدين لا يعنى إلا أمرا واحدا وهو أنه وراء أى شئ يكون موضع تجربة ثمة شئ ليس فى إمكان عقلنا قنصه ولكن جماله وعظمته يصلان إلينا بطريقة غير مباشرة على هيئة انعكاس باهت». ودوكنز يوافق أينشتين على هذا المعنى ويقول «أنا أيضا متدين ولكن مع تحفظ واحد وهو أن عبارة «لايمكن قنصه» يجب ألا تعنى «عدم قنصه إلى الأبد». ومع ذلك فإن دوكنز يرفض أن يقال عنه إنه متدين بهذا المعنى لأنه معنى مضلل بسبب أن مفهوم الدين عند الغالبية العظمى من البشر يتضمن القول بأنه مفارق للطبيعة. اذن المسألة كلها بين الايمان والالحاد محصورة فى تعدد الرؤى لمفهوم الله. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن الاتهام بالالحاد موجه إلى مفهوم معين عن الله. ولا أحد فى إمكانه الزعم بأنه يمتلك المفهوم المطلق عن الله إلا إذا كان أصولياً. ومن هنا يكون الأصولى وليس المتدين هو المروج للالحاد. أما عند دوكنز فأنا أظن أن المسألة كلها لا تكمن فى مفهوم الله بقدر ما تكمن فى الاحساس بنشوة عظمى فى أنه يعيش فى زمن يتميز بالاندفاع نحو تحطيم حدود المعرفة أو بالأدق فى زمن نحن فيه على وعى بأنه ليس ثمة حدود. لمزيد من مقالات مراد وهبة