قد يبدو عنوان هذا المقال صادماً، ولكنه مع مسار الحضارة الانسانية يبدو أنه كذلك. فقديما فى القرن الخامس قبل الميلاد قال الفيلسوف اليونانى بروتاجوراس تحت عنوان «الغموض والآلهة» فى شأن الآلهة أنا لست فى وضع يسمح لى بأن أكون على معرفة بأوصافها. فثمة أسباب عديدة تمنع هذه المعرفة من بينها غموض المسألة وقصر حياة الانسان فأدين فى المحكمة وصدر الحكم بإعدامه، إلا أنه تمكن من الفرار ولكنه غرق فى النهر. وفى القرن الرابع قبل الميلاد اتُهم الفيلسوف اليونانى سقراط بأنه ينكر الآلهة فأُدين وحُكم عليه بالإعدام. إلا أنه على الضد من بروتاجوراس لم يهرب بل أعلن عن موافقته على الحكم. وعندماأبلغه السجان دنو الساعة طلب السم فأُحضر له مسحوق فى كأس تناوله ومات.ومع بداية الستينيات من القرن العشرين صدر كتاب عنوانه «لنكن أمناء لله» لأسقف بريطاني انجليكانى اسمه جون روبنسون طُبع منه تسع طبعات فى مارس من عام 1963. وقبل صدوره بأسبوع نشر مقالا مثيرا بجريدةالأوبزرفر اللندنية عنوانه «صورتنا عن الله يجب أن تزول» وكان يعنى بهذه العبارة أن الله ليس فوق كما أنه ليس هناك، إنما هو فى أعماقنا، أى فى أساس وجودنا فاتُهم بالكفر وطُلب منه الاستقالة ولكنه رفض قائلاً: أنا لا أستقيل إنما أُقال. إلا أن السلطة الدينية لم تستجب لما قال. والسؤال اذن: ماذا يعنى ما حدث من أزمة للمطلق قديماً وحديثاً؟ وفى صياغة أدق: ما سمة هذه الأزمة؟ هل هى أزمة مطلق أم أزمة انسان؟ أستعين فى الجواب عن هذا السؤال بما ورد فى كتاب صدر فى عام 2008 عنوانه الرئيسى «كتاب المطلقات» لمفكر كندى اسمه وليم جيرردنر ( 1940- ؟) وعنوانه الفرعى نقد النزعة النسبية والدفاع عن الكليات. وهو يقصد بالكليات المطلقات. والجدير بالتنويه أن جيرردنر قد طلب المشورة من فلاسفة وعلماء فيزياء ورياضة يؤمنون بأن عالمنا محكوم بمطلقات كما كان كذلك فيما مضى من الزمان. كان جوابه أنه من بين أهداف تأليف كتابه الكشف عن الباعث فى الاعتقاد المعاصر بالنزعة النسبية: وهو يكمن فى ابتلاعنا لمفاهيم مغلوطة عن الطبيعة بوجه عام وعن الطبيعة الانسانية بوجه خاص. فقد اخترعنا قصة كنا فى حاجة إلى سماعها وهى أن انكارنا للمطلقات مردود إلى كراهيتنا للسلطة الشمولية. وقد أعلنت الحضارة الغربية أنها قد ثارت أكثر من مرة على هذه السلطة سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو أخلاقية فى مقابل حب الحرية والتقدم والديمقراطية، وأن وراء هذه المتعة الاستقلال الأخلاقى وحرية الاختيار والتحرر الشخصي. ومن هنا جاء الاستدعاء الحار للنزعة النسبية. ثم يزيد الأمر ايضاحا فى شأن ذلك الباعث الذى يدفعنا نحو النزعة النسبية، وهو خضوعنا ثالوث الحداثة وهو ثالوث أسطورى على النحو الآتي: اعتقاد راسخ بأن عقولنا صفحة بيضاء خالية من أى أفكار فطرية، وبأننا خيَرون بالوراثة وتحولنا إلى أشرار مردود إلى سوء إدارة المجتمع، وبأن اختياراتنا حرة وخالية من أى ضغط سواء ورد من المزاج أو من البنية البيولوجية أو من التزامات أخلاقية. وبناء عليه تكون المطلقات والكليات هى التحدى الحقيقى ل ثالوث الحداثة الأسطورى الذى يرتبط فى عقل الجماهير بالقيود والقواعد المتمثلة فى هذا الثالوث الذى هو، فى نهاية المطاف، عبارة عن محرمات ثقافية مقيدة لسلوكنا واختياراتنا. ومن هنا بدا الحلم الحضارى فى أن نحيا من غير قيود والنزعة النسبية تستجيب لتحقيق ذلك الحلم. إلا أن جيرردنر يرى أننا فى الطريق إلى أن نكون على وعى بأن ذلك الحلم لم يكن إلا مجرد وهم. ولا أدل على ذلك، فى رأيه، من الاستجابات التى وردت إليه إثر صدور كتابه وقد أوجزها فى ثلاث: أنه كان موفقاً فى تحديد البؤس الروحى للحداثة وهو أنه ثمة علاقة عضوية بين النزعة النسبية والارهاب من حيث إنها قاهرة لحرية الانسان. وأن القول بأن الحقيقة المطلقة ليس لها وجود خارج النزعة النسبية يتسم بالسخرية لأنه يشير ضمناً إلى أن النزعة النسبية هى الحقيقة المطلقة. وأن التاريخ ينبغى أن يتوقف عن الحركة لأن الحضارة الغربية عندما احتضنت النزعة النسبية كفلسفة مرشدة دمرت نفسها بنفسها. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأن الغاية من تأليف ذلك الكتاب نقد الحداثة، أو بالأدق نقد التنوير لأن الحداثة هى ثمرة التنوير. وإذا كان الفيلسوف الألمانى العظيم كانط يقف عند قمة التنوير فى القرن الثامن عشر فالاستعانة به اذن لازمة لبيان صحة التنوير وليس فساده. والسؤال اذن: ماذا قال كانط عن التنوير فى مقاله المشهور والمعنون جواب عن سؤال: ما التنوير؟ ( 1784) قال فى عبارة موجزة «كن جريئا فى إعمال عقلك» وكان يعنى بالجرأة الخروج على سلطان الوصاية من أجل الدخول فى سلطان العقل. واللافت للانتباه هاهنا أن كانط يرى أن هذا السلطان يتراوح صعودا وهبوطا بين المطلق والنسبي. وهذه المراوحة مردودة إلى أن النسبى ينشد قنص المطلق إلا أنه لن يحقق ما ينشده لأن المطلق عسير المنال. وإذا حدث وأصبح يسير المنال فإنه فى هذه الحالة يتحول إلى نسبى بحكم قنصه من قِبل عقل نسبى. جرأة العقل اذن، عند كانط، تكمن فى بقائه فى النسبى حتى لا يسقط فى الوهم. وأظن أن الأصوليات الدينية قد سقطت فى هذا الوهم منذ النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى حتى الآن وتولت الأصولية الاسلامية إشاعته كوكبياً لتدمير حضارة الانسان. لمزيد من مقالات مراد وهبة