إذا كان سلطان الحاكم - فى نظرية العقد الاجتماعى عند الفيلسوف الإنجليزى جون لوك - سلطاناً نسبياً وليس سلطاناً مطلقاً بدعوى أن الشعب وليس الله هو الذى أتى به حاكماً فإنه يكون بالضرورة علمانياً لأنه يفكر فى إطار ما هو نسبى وليس فى إطار ما هو مطلق. وإذا كان الحاكم علمانياً فهو بالضرورة متسامح، لأن التسامح يستلزم قبول الاختلاف. ولكن ماذا يفعل الحاكم إذا كان المختلف معه متعصباً؟ ونجيب بسؤال: مَنْ هو المتعصب؟ الجواب: هو الذى يشتهى انتصار عقيدته على عقيدة الآخرين، وهو الذى يشتهى، عند اللزوم، الاستعانة بالعنف لتدمير عقيدة هؤلاء. ولهذا يقال عن المتعصب إنه دوجماطيقى. والدوجماطيقى لفظ معرب ويعنى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة. وإذا تمادى الدوجماطيقى فى هذا الوهم فإنه يدخل فى «سُبات دوجماطيقى». وهذا المصطلح قد صكه الفيلسوف الألمانى عمانوئيل كانط الذى يقال عنه إنه يقف عند قمة التنوير الأوروبى فى القرن الثامن عشر. والسؤال إذن: ما التنوير؟ الجواب الشائع عن هذا السؤال هو جواب كانط فى مقالته المشهورة بعنوان «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» جوابه أن التنوير هو إعمال العقل من غير معونة الآخرين، الأمر الذى يمكن معه القول بأنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. ومعنى ذلك أن لدى كل منا عقلين: عقل يفكر ثم ينعكس على ذاته فيكوّن عقلاً آخر يفكر فيما نفكر فيه. وهذا العقل الثانى هو العقل الناقد. والسؤال بعد ذلك: ما وظيفة كل من العقلين؟ جواب كانط أن العقل الأول مكلف بالبحث عن أجوبة لمسائل ليس فى مقدوره الإجابة عنها، وهذه المسائل تدور حول المطلق سواء كان هذا المطلق هو الله أو الدولة. وعدم القدرة على الإجابة عنها يعنى استحالة اقتناص المطلق. ومن هنا يميز كانط بين حالتين: حالة البحث عن المطلق وهى حالة مشروعة، وحالة اقتناص المطلق وهى حالة غير مشروعة، لأن العقل بمجرد أن يتوهم أنه قد اقتنص المطلق فإنه يسقط فى الدوجماطيقية، والذى يمنعه من الوقوع فى ذلك الوهم هو ذلك العقل الثانى وهو العقل الناقد، أو بالأدق هو ذلك العقل العلمانى الذى لا يفكر إلا فيما هو نسبى، وليس فيما هو مطلق، وهذا التعريف للعقل الثانى يعنى عدم نفى المطلق، ولكنه يعنى كذلك أن هذا المطلق من المحال اقتناصه ومن ثم يمتنع السقوط فى الدوجماطيقية. والسؤال بعد ذلك: ماذا يحدث لو سقطت البشرية فى الدوجماطيقية؟ وفى صياغة أخرى: ماذا يحدث لو اقتنص كل مجتمع مطلقاً معيناً؟ يصبح لدينا عدة مطلقات. ولكن المطلق لا يتعدد، إذ هو واحد بحكم طبيعته، فإذا تعددت المطلقات تدخل فى صراع بل تدخل فى حروب، إذ تعايش المطلقات أمر محال. وإذا جاز لنا الاستعانة بمصطلحات دارون صاحب نظرية التطور يمكن القول بأن المطلقات المتعددة تدخل فى صراع من أجل الوجود، والبقاء للأصلح. وأنا هنا أتحفظ فى مسألة البقاء للأصلح وأقول لا بقاء للأصلح لأنه ليس ثمة ما هو أصلح بين المطلقات. وهذا هو ما أسميه «جريمة قتل لاهوتية». ولهذا يمكن اعتبار التنوير المؤسس على العلمانية أعظم ثورة فى تاريخ البشرية تربى البشر على كيفية اجتثاث هذه الجريمة اللاهوتية. بيد أن هذه التربية ليست بالأمر الميسور. فقد حاول كانط فى كتابه المأساوى وعنوانه «الدين فى حدود العقل وحده» أن ينهى الصراع بين المطلقات فارتأى أن تعدد الأديان إنما يكون من حيث الشكل بحكم تعدد الطقوس والعبارات الخارجية، أما من حيث المضمون فالدين واحد لأنه يقوم على الأخلاق، وليس على أى شىء آخر. يقول: «إن كل ما قد يتوهم الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يكسب رضاء الله- فيما عدا اتخاذ مسلك أخلاقى طيب فى حياته- إنما هو محض هذيان دينى أو مجرد عبادة زائفة لله» ويترتب على ذلك تأويل النصوص الدينية تأويلاً رمزياً، ومن ثم ننزع منها السمة المطلقية دون أن ننفى المطلق، لأن المطلق، فى هذه الحالة، يصبح حالة عقلية لا علاقة لها بتنظيم المجتمع لأن تنظيم المجتمع محكوم بعقد اجتماعى هو مجرد موافقة بشرية محكومة بالقانون. هذا موجز لما ورد فى كتاب كانط «الدين فى حدود العقل وحده». وعند صدوره فى عام 1793 تلقى كانط خطاب لوم رسمياً من وزير المعارف باسم الملك جاء فيه أنه يستهين بالعقيدة الدينية، وأن هذه الاستهانة مرفوضة، وأن عليه أن يكف عن هذا المسلك، وإذا لم يذعن لهذا المطلب فالعاقبة سيئة. وقد أرسل كانط خطاب اعتذار إلى الملك يتعهد فيه بعدم الكتابة فى الدين بصفته «تابعاً جد أمين لجلالة الملك». وهذه العبارة قصد منها كانط أن تعهده مؤقت بحياة الملك. وبالفعل عاد إلى الكتابة فى المسائل الدينية بعد وفاة الملك عام 1797. والسؤال بعد ذلك هو على النحو الآتى: هل الدين مسألة سياسية؟ أو فى صياغة أخرى: هل الدفاع عن مطلق معين من مستلزمات الحاكم والتنوير- من حيث هو المكون الثالث للديمقراطية - هو على النقيض من ذلك؟