عنوان هذا المقال هو عنوان لكتاب أصدره رئيس الكنيسة الانجيلية بمصر فى شهر فبراير من هذا العام. إلا أن هذا الكتاب لم يكن كتابه الأول عن المسألة القبطية، إذ سبق أن أصدر كتاباً فى شهر يناير من عام 2006 تحت عنوان رئيسى «الاسلام والمواطنة والأقليات» وعنوان فرعى «مستقبل المسيحيين العرب فى الشرق الأوسط». ورئيس الكنيسة الانجيلية المقصود هو الدكتور القس أندريه زكى الذى يعتبر أباه الروحى الراحل الدكتور القس صموئيل حبيب الذى كان رئيساً لنفس الكنيسة. ومن عباراته المأثورة «الله فوق الأديان» قالها فى بحث قدمه فى ندوة بتنظيم من الهيئة القبطية الانجيلية فى أول سبتمبر من عام 1997. والعبارة تنطوى على مفارقة. فالرأى الشائع أن الدين الذى يؤمن بالله هو المعادل الموضوعى لهذا الاله. أما هذه العبارة فعلى الضد من هذا الرأى إذ تعنى أن الدين ليس هو المعادل الموضوعى لله. ولهذا قلت له معقباً على هذه العبارة بأن مغزاها أن الأديان نسبية، ومن ثم تكون علوم العقائد الدينية نسبية وبالتالى متطورة. ومن هنا يكون من المشروع لتلميذه الدكتور القس أندريه زكى تأسيس علم لاهوت جديد أطلق عليه مصطلح «اللاهوت السياسى العربي» فى مواجهة صعود » الاسلام السياسي» المتمثل فى الاخوان المسلمين، إذ كان من شأن هذا الصعود خوف الأقباط من ضياع مزيد من حقوقهم إذا شارك الاخوان فى الحكم فى الحد الأدنى أو استولوا على الحكم فى الحد الأقصى وما يلزم من ذلك أسلمة المؤسسات القائمة من إعلام وثقافة واقتصاد. ومن هنا أيضاَ أثار الدكتور القس أندريه زكى إشكالية العلاقة بين الدين والدولة فارتأى ضرورة المشاركة السياسية للأقليات الدينية. وهو فى حديثه عنها يقارن بين أقليتين دينيتين: الأقباط فى مصر والموارنة فى لبنان. والمفارقة هنا أن هاتين الأقليتين فى حالة تناقض حاد فالأقباط لم يكن فى إمكانهم الوصول إلى الحكم منذ دخول الاسلام الأمر الذى دفعهم إلى تأسيس «لاهوت سلبي» يبرر لهم بقاءهم بعيداَ عن المشاركة السياسية، أما الموارنة فقد تمكنوا من المشاركة فى السلطة السياسية، إذ احتفظوا بمنصب رئيس الجمهورية الأمر الذى دفعهم إلى تأسيس «لاهوت القوة». وما يهم الدكتور القس أندريه زكى هنا ليس الموارنة إنما قبط مصر لتحريرهم من «اللاهوت السلبي» حتى يواجهوا تحدى «الاسلام السياسي». ولكن من أجل تحقيق التحرر ومواجهة التحدى يلزم أن يكونوا على وعى بذلك الاسلام السياسي. والسؤال اذن: ما هو هذا الاسلام السياسي؟ إنه يسير فى اتجاهين متباينين: اتجاه تطورى واتجاه ثوري. يقال أن الاتجاه التطورى من تأسيس حسن البنا عندما ارتأى أن التطور يلزم أن يكون تدريجيا ويبدأ بالتعليم. وفى أدبيات الاخوان المسلمين ثمة حوار تم بين الهضيبى مرشد الاخوان وعبد الناصر عندما كان يمهد للثورة. قال عبد الناصر: الثورة قادمة بعد قليل. ورد الهضيبي: لا تغامر لأن الثورة قادمة بعد خمس سنوات بدون مغامرة لأن فى نهايتها نكون قد أحكمنا قبضتنا على التعليم، أى نكون قد سيطرنا على عقول الشعب وذلك بأسلمتها على نحو ما نشتهى من ربط الملك الأرضى بمملكة الله، وتكفير مَنْ يجرم ذلك الربط فى الحد الأدنى وقتله فى الحد الأقصي. وجاء رد عبد الناصر حاسماً: لن نؤجل الثورة ولكن مع وعد بالالتزام بمبادئ الاخوان المسلمين وبثها فى مجال التعليم. وقد كان. وبذلك تحكموا فى عقل وزارة التعليم، وبعدها صار الأقباط، فى رأى أندريه زكي، مهمشين فى النصف الثانى من القرن الماضي. ونُظر إليهم على أنهم ذميون فضعفوا اقتصاديا بعد ثورة 1952 وانسحبوا من الحياة السياسية، وتم التركيز على الملكوت السماوى وليس على نسف الظلم الاجتماعى فى الملكوت الدنيوي. والمفارقة هنا أن الكنيسة، فى زمن البابا شنوده الثالث أصبحت هى المؤسسة السياسية أمام السلطة السياسية فى الدولة بحيث أصبح رئيس الدولة لا يرى الأقباط إلا بعيون رئيس الكنيسة، وأصبح الأقباط لا يرون ما يحدث لهم من قبل الدولة إلا بعيون رئيس الكنيسة. واللاهوت السياسى العربى هو المنقذ للدولة والوطن وقبط مصر من تلك العيون. والسؤال اذن: ما هى أسس هذا اللاهوت السياسى العربي؟ عددها أربعة وهى على النحو الآتي: تمتنع الكنيسة عن أن تكون مؤسسة سياسية تنفتح الكنيسة على التجمعات الدينية الأخرى تعتبر الالتزامات الدينية من مكونات الهوية دون أن تكون هى الهوية، إذ ثمة مكونات ثقافية متداخلة مع هذه الالتزامات، ومن ثم تكون الهوية نسبية وليست مطلقة الأمر الذى من شأنه منع الفكر الدينى من الوقوع فى وهم امتلاك الحقيقة المطلقة. يستند إلى مفهوم «المؤسساتية» بمعنى أن تكون الكنيسة مؤسسة مستقلة عن الدولة ولكنها فى الوقت نفسه تسهم فى بناء الجسور بين الكنيسة والمجتمع، وبذلك تصبح الكنيسة فى قلب المجتمع المدنى باعتبارها اطاراً أخلاقيا وليس نظاماً سياسياً. ومن ثم يمتنع القول بتأسيس نظام سياسى إسلامى أو مسيحى لأنه ينطوى على مفهوم «القداسة» ومن ثم يمتنع نقده، ومع امتناع النقد يمتنع تطور المجتمع فيتجمد ويتوارى إلى أن يتلاشي. وإذا حركنا هذه الأسس الأربعة بحيث يتم التداخل بينها فيمكن فى هذه الحالة القول بأن اللاهوت السياسى العربى هو لاهوت علمانى ولكن ليس بمعنى الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، إذ إن هذا الفصل ممتنع ومرفوض من قبل الدكتور القس أندريه زكي، إنما بالمعنى الذى أريده ويريده هو معى وهو أن العلمانية هى «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق». لمزيد من مقالات مراد وهبة