قيل عن القس البروتستانتى ديتريش بونهوفر إنه قديس العلمانيين على حد تعبير أسقف وولوش بانجلترا جون روبنسون. والمغزى أن هذا اللقب ما كان يمكن أن يُمنح إلا لأن ثمة علمانيين سابقين وأنه بالمقارنة يقال عنه إنه كذلك. ومع ذلك فإنه ليس فى الامكان الحديث عن علمانيين سابقين إلا فى سياق تيار لاهوتى علمانى هم صُناعه. وكان من شأن هذا التيار اللاهوتى أنه كان سبباً فى بزوغ عصر علماني. وتأسيساً على ذلك يمكن إثارة هذين السؤالين: ما العلاقة بين علم اللاهوت والعلمانية؟ وهل تعنى هذه العلاقة أن ثمة تغييرا أحدثه هذا العلم فى تأسيس العلمانية؟ أيا كان الجواب فمغزى السؤالين أن ثمة تغييرا حدث بسبب هذه العلاقة، وأن هذا التغيير قد لمس أنماط التدين حيث سقطت أنماط لم تعد صالحة للتطور وصعدت أنماط مواكبة للتطور. بل يمكن القول إن هذا التغيير قد لمس طبيعة الدولة نفسهاعلى نحو ما حدث فى دول القارتين الأوروبية والأمريكية بحيث لم تعد ثمة علاقة بين الدولة والايمان بالله إلى الحد الذى أصبحت فيه الدولة تحتضن المؤمن وغير المؤمن على النحو الذى يدعو إليه الآن الرئيس عبد الفتاح السيسي. وإذا أردت مزيداً من الفهم فاقرأ التاريخ القديم حيث كان الدين حاضراً فى كل المجالات الحياتية، ثم اقرأ التاريخ المعاصر فى القارتين الأوروبية والأمريكية حيث الدين منحصر فى الحياة الخاصة دون الحياة العامة. المسألة اذن ليست مسألة إيمان أو إلحاد، إنما مسألة أسلوب حياة يسمح بتحرير العقل بحيث تتعدد الاختيارات من غير إقصاء لأى منها. ومع التعددية تصبح النسبية فى الصدارة، ومن ثم تصبح العلمانية هى الأخرى فى الصدارة بحسب تعريفى لها بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. وفى هذا التعريف يتساوى المؤمن وغير المؤمن. ويترتب على هذا التعريف سؤال: هل فى الامكان تأسيس لاهوت يؤلف بين المؤمن وغير المؤمن؟ قيل إن الدين محصور فى الايمان بإله مفارق، أى بإله موجود خارج الكون، ومن ثم قيل عن هذا المفارق إنه يتسم بالعلو، ولكن مع الثورة العلمية والتكنولوجية توارى هذا العلو وحل محله إله المحبة وهو إله جواني، أى إله موجود فى عمق الانسان، ومعه بزغت النزعة الانسانية المغموسة فى العلمانية بحكم أن هذه النزعة ليس فى إمكانها قنص المطلق بسبب أنها محكومة بالانسان من حيث هو كائن نسبي، وبالتالى لم يعد الكون موضع افتتان، بمعنى أنه أصبح خالياً من الكائنات التى كان يموج بها والتى تتمثل فى الأرواح والشياطين. وقيل إن هذا الافتتان بدأ يتوارى منذ القرن السادس عشر بوجه عام أو بالأدق منذ عام 1543 وهو العام الذى صدر فيه كتاب كوبرنيكس المعنون عن دوران الأفلاك وفيه نظريته عن دوران الأرض حول الشمس بديلاً عن نظرية بطليموس القائلة بدوران الشمس حول الأرض. ومن يومها والعلم محكوم بالبحث عن تفسيرات طبيعية عما يحدث فى الكون دون افتتان ولكن دون أن تمس الله. وقد ترتب على ذلك امكان نقد الكنيسة من حيث هى مؤسسة دينية إذا فسدت أنظمتها ومؤسساتها على نحو ما حدث للكنيسة الرومانية عندما أسست ديوان الفهرست الذى قيل إنه بمثابة محاكم التفتيش تصادر الكتب وتكفر مؤلفيها. وكان من شأن هذا الفساد الذى لحق بالكنيسة أن انشق المصلح الدينى مارتن لوثر وأسس الكنيسة البروتستانتية التى تعنى الكنيسة المحتجة والتى كانت فى حماية الحكام العلمانيين. وفى مارس من عام 1523 أصدر لوثر كتابه المعنون عن السلطة العلمانية وهو كتاب يمكن أن يقال عنه إنه الخلاصة اللاهوتية لفكر لوثر السياسى وفيه ينظر إلى الدين على أنه مسألة خاصة ومستقل عن الحكام، والكنيسة عبارة عن جماعة من المؤمنين الكل فيها يستمتع بالمساواة والحرية. أما الحاكم العلمانى فمهمته، فى رأى لوثر المحافظة على السلام وانصياع الكل للقانون ومعاقبة كل مَنْ يخرج على القانون. وترتب على ذلك أن البحث فى الطبيعة لم يعد موضع اتهام أو موضع تشكيك فى نوايا العلماء. وكان نيوتن رمزاً على هذا التطور فى سياق نشوء البروتستانتية مع النزعة العلمانية. ولكن مع تداخل البروتستانتية مع العلمانية تطور مفهوم الله عند الانسان ومن ثم نشأ مذهب الاله الطبيعى الذى يدعو إلى الايمان باله على نحو ما يراه العقل دون الاستعانة بالوحي. وفى القرن التاسع عشر ومع بزوغ الليبرالية بزعامة الفيلسوف الانجليزى جون ستيوارت مِل توارى الدين فى الحياة العامة. وفى النصف الأول من القرن العشرين حدثت ثورة ثقافية أساسها نزعة فردية تدعو إلى القول بأن سلطة الفرد فوق سلطة المجتمع و مع التطور تحولت هذه النزعة إلى ظاهرة جماهيرية تفككت معها المؤسسات الدينية، ومع تفككها لاحت فى الأفق روحانية بلا طقوس عبَر عنها الفيلسوف الروسى برديائيف فى العبارة التالية: المعرفة والأخلاق والفن والحكومة والاقتصاد كل ذلك يلزم الانسان بأن يكون متديناً ولكن بحرية، وأن يبزغ هذا التدين من داخل الانسان وليس بقهر من خارجه. ويبقى بعد ذلك سؤال: ما هى آراء بونهوفر قديس العلمانيين؟ لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة