كان للعلمانية اليونانية فى قديم الزمان مساران: مسار فى اتجاه عجز العقل عن قنص المطلق مع الاكتفاء بمعرفة ما هو نسبي. ومسار آخر فى اتجاه القول بعدم مركزية الأرض. ولا فاصل بين المسارين لأنهما ينتهيان معاً إلى إقصاء الحقيقة المطلقة. ولكن مع إعدام سقراط بسبب إعلانه هذا الاقصاء ارتأى أفلاطون أنه من اللازم حذف هذين المسارين والارتقاء من النسبى إلى المطلق أو بالأدق الارتقاء من عالم المحسوسات إلى عالم آخر أطلق عليه اسم عالم المُثل وهو عالم محكوم بمثل ثلاثة: الخير والحق والجمال مع علو الخير على المثالين الآخرين. وظل الحال على الوضع الأفلاطونى حتى القرن السادس عشر الميلادى عندما ارتأى العالم الفلكى البولندى كوبرنيكس فى كتابه المعنون عن حركات الأفلاك أن الأرض ليست مركزاً للكون لأن بقاء أكبر الأجرام ( الشمس) ثابتاً على حين تتحرك حوله الأجرام الصغرى أفضل من دوران الأجسام جميعاً حول الأرض لأننا إذا افترضنا الأرض متحركة وهى المكان الذى نشاهد منه الأجرام السماوية حصلنا على صورة أفضل من الصورة المبنية على افتراض الأجرام السماوية هى المتحركة. ولكن كانت لدى كوبرنيكس قناعة، وهو يحتفظ بسرية هذا الكتاب الذى قضى فى تأليفه وتنقيحه ستة وثلاثين عاماً، بأن ثمة أشخاصاً سيطالبون باعدامه هو وأفكاره، ولكنه كان على وعى بأن عقله يجب ألا يذعن لعقول الدهماء. وفى 24 مايو 1543 جاءته نسخة مطبوعة من كتابه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وفى 5 مارس 1616 قررت محكمة التفتيش تحريم كتابه من التداول واعتباره هرطيقاً. ثم جاء جاليليو وأعلن انحيازه لنظرية كوبرنيكس فى كتابه المعنون حوار حول أهم نسقين فى العالم (1632) فصودر الكتاب واستدعى جاليليو إلى روما للمثول أمام ديوان الفهرست لمحاكمته فأنكر النظرية وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقع بامضائه على صيغة الانكار والقسم. وهنا ثمة سؤال يلزم أن يثار: لماذا رفضت السلطة الدينية القول بنظرية دوران الأرض إلى حد اتهام أصحابها بالهرطقة والزندقة؟ لأنه إذا لم تكن الأرض مركزاً للكون فإن الانسان لن يكون مركزاً للكون، وإذا لم يكن الانسان مركزاً للكون فإنه لن يكون قادراً على امتلاك الحقيقة المطلقة. وإذا لم يكن قادراً على أن يكون كذلك فتفكيره يكون نسبياً بالضرورة. والسلطة الدينية ترفض القول بعدم القدرة على امتلاك الحقيقة المطلقة. والرأى عندى أنه حتى القول بنسبية الحقيقة فهو وهم لأن الحقيقة إما أن تكون حقيقة أو لاتكون حقيقة على الاطلاق، ومن ثم فلن يكون من حق الإنسان الادعاء بإمكان قنص الحقيقة أيا كانت. والأصح أن يقال إن المعرفة هى التى يلزم اتصافها بأنها نسبية. العلمانية إذن هى نتيجة حتمية لانكار مركزية الأرض. ويترتب على ذلك أن مَنْ ينكر العلمانية فإنه يقف ضد دوران الأرض ومع ملكية الحقيقة المطلقة. ومن هنا يكون سكان كوكب الأرض علمانيين بالضرورة. وأظن أن هذا هو السبب فى اتهام السلطة الدينية لكوبرنيكس بالهرطقة. وهكذا يمكن القول إن عام 1543 هو عام مولد العلمانية علمياً وفى سياق تعريفى لها بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. إلا أن ولادتها مثل أى ولادة أخرى مرهونة بالتطور. وقد تطورت العلمانية بالفعل ابتداء من القرن السادس عشر وما تلاه من قرون، إذ لم تقف العلمانية عند حد ثورة كوبرنيكس بل تجاوزتها إلى الثورة الدينية التى سُميت «الاصلاح الديني» الذى يعنى الفحص الحر للانجيل، أى تأويل النص الدينى من غير معونة من السلطة الدينية. ولوثر هو رائد هذا الاصلاح. يقول: يرغب الرومانيون فى أن يكونوا هم وحدهم المتحكمين فى الكتاب المقدس مع أنهم لم يتعلموا شيئاً من الإنجيل فى حياتهم العامرة. وهم يفترضون أنهم هم وحدهم أصحاب السلطان. ويتلاعبون أمامنا بالكلمات فى غير ما خجل أو وجل لاقناعنا بأن البابا معصوم من الخطأ فى أمور الايمان. يبين من النص السابق أن تأويل الانجيل من حق أى انسان، ومن ثم فالدوجماطيقية ممتنعة. ومع امتناعها لا يحق لأحد أن يتهم الآخر بالهرطقة أو الكفر. وتأسيساً على ذلك كله تعددت المدارس اللاهوتية إلى الحد الذى أفضى إلى نشأة لاهوت علمانى بل نشأة لاهوت الحادى من داخل المؤسسة الدينية، بل إن الفكر العلمانى تجاوز الحد العلمى والدينى إلى الحد السياسى بريادة مكيافيللى وفكرته المحورية تدور على أن السياسة لا تستند إلى قيم دينية أو قيم أخلاقية مطلقة، إنما إلى المصلحة والمنفعة. وفى روسيا بزغت العلمانية مع بداية القرن السادس عشر فى عهد ايفان الثالث، ونضجت فى عهد بطرس الأكبر، إذ فقد الثقة فى رجال الدين المسيحي. فبعد موت البطريرك أدريان عارض بطرس الأكبر إجراء انتخاب لاختيار بطريرك جديد فعين مجلساً لادارة الكنيسة التى خضعت لسيادته. وحلت أيديولوجيا جديدة محل الأيديولوجيا الكنسية القائمة، تحتقر الأساليب القديمة فى العادات والأفكار، والسخرية من التراث، وتدافع عن الابداع. وإثر بزوغ هذه الثقافة العلمانية اغتربت الكنيسة عن الدولة وانحصر مجالها فى الاهتمام بالحياة الجوانية للفرد. وفى هذا السياق أسس سكافارودنا فلسفة مسيحية علمانية منحازة للتأويل الرمزي. بيد أن الثقافة العلمانية خارج الكنيسة كانت أقوى وأشد. والسؤال بعد ذلك: ماذا ترتب على مولد العلمانية وتطورها من نتائج؟. لمزيد من مقالات مراد وهبة