أنت وما تشاء من القول بتجديد الخطاب الدينى أو بتجديد الفكر الدينى أو بإحداث ثورة دينية. ولكن ما تشاء من هذه الأقوال يلزمك بأن تشاء مواجهة مسألة واحدة لا تقبل الإقصاء عند الاختيار وهى مسألة الإيمان والدين معا. والسؤال اذن: لماذا هذه المعية؟ إننا فى زمن الكوكبية تُرفع لنا الحواجز، ومن ثم يلزم إعادة النظر فى الإيمان من حيث هو خاص بانسان دون آخر، وهو فى هذه الخصوصية يكون على وعى بأنه فى عزلة عن إيمان آخر. ويزيد من أمر هذه العزلة تأسيس عقيدة أو دوجما، أى دين لهذا الايمان. وبالرغم من هذه المعية بين الإيمان والدين إلا أنه من الممكن تناول كل منهما على حدة، لأن المعية تعنى الجمع بين طرفين لم يسبق لهما أن يكونا كذلك. والسؤال إذن: ما الإيمان ؟ وما الدين؟ إن الإيمان هو نقطة البداية لأى دين. إلا أن هذه البداية ليست مطلقة، لأن صاحب الإيمان مغروز فى تراث قد لا يكون متوافقا معه، وهو بالضرورة كذلك. ومن هنا ينعدم الاتصال بين المؤمن والتراث، ومن هنا أيضا يكون الإيمان مهيأ للدخول فى المطلق. وعندما يتشابك الإيمان مع المطلق تولد الدوجما وتولد المؤسسة الدينية الملازمة لها لكى تلزم المؤمن بما آمن به. ومن هنا تنشأ علاقة عضوية بين الدوجما والسلطة الدينية. ويقال عن الإيمان، فى هذه الحالة، إنه استسلام. ويقال عن علماء العقيدة إنهم المؤولون. وبعد ذلك تأتى المعابد من أجل ممارسة الطقوس الملازمة لتلك الدوجما، ولكنها فى الوقت ذاته تكون مقدسة. ويترتب على ذلك كله إحلال لفظ دين محل لفظ إيمان، ومن ثم يقول المؤمن إن دينى هو كذا وليس كذا، وبذلك تتعدد الأديان، ومع تعددها تدخل فى صراعات بحكم مطلقية كل دين. ويكون من لوازمها المحافظة على الإجماع داخل كل دين مع اتهام المنشق بأنه كافر. ومع ذلك حدث الانشقاق، ومن ثم الخروج على الإجماع. واللافت للانتباه تاريخيا أن هذا الانشقاق يمهد لإحداث تغيير فى الدوجما إلى الحد الذى ينتهى عنده إلى تأسيس دوجما أخرى بديلة، ومن ثم دين آخر. ولا أدل على صحة هذا القول من بزوغ البروتستانتينهة التى تعنى الاحتجاجية فى أوروبا فى القرن السادس عشر. وقد بلورها لوثر بعد أن علق على باب الكنيسة فى فيتنبرج خمسة وتسعين بندا. وبعد أن رفضها البابا جميعا أنشأ كنيسة مستقلة سرعان ما شاعت أفكارها. وفى هذا السياق أظن أنه يمكن القول إن عظمة لوثر مردودة إلى أنه وهو راهب كاثوليكى استطاع اقتحام الكنيسة الكاثوليكية من داخلها لكى يجهز على سلطة البابا المطلقة، ثم يقيم علاقة مباشرة بين الله والإنسان بحيث تكون العلاقة بينهما شخصية. ولا يكون من حق الكنيسة الكاثوليكية بعد ذلك أن يكون لها سلطة على الموتى فى ذهابهم إلى الآخرة حتى لو كانوا قد تبرعوا بأموالهم للسلطة الكنسية قبل موتهم. إلا أن البابا ومعه الكهنة رفضوا هذا المفهوم عن الله. وفى هذا السياق قال البابا: نحن نعلن وننطق ونحدد أنه من أجل خلاص الانسان يكون من الضرورى الاتفاق على خضوع الانسان للكاهن الأعظم الذى هو البابا ،لأنه معصوم من الخطأ. وفى هذا السياق أيضاً ما كان يمكن لهذه العبارات أن تصاب بالرفض لو كان المناخ الفلسفى والعلمى مؤيدا لها. من حيث المناخ الفلسفى كان التيار السائد هو الرشدية اللاتينية الذى نشأ فى القرن الثالث عشر فى زمن فردريك الثانى الذى أصدر قرارا سياسيا بترجمة مؤلفات ابن رشد إلى اللاتينية والعبرية، والعمل على شيوع ما فيها من أفكار من أجل الإجهاز على العلاقة العضوية بين النظام الإقطاعى والسلطة الدينية لصالح الطبقة التجارية الصاعدة، وقد كان إذ تأسس تيار الرشدية اللاتينية فى جامعات فرنسا وإيطاليا. واجه فى البداية عنفا وصل إلى حد قتل زعيم الرشدية اللاتينية سيجبر دى برابان بخنجر فى ظهره من قبل سكرتيره الخاص، وإحراق جثمان الفيلسوف الإيطالى جيوردانو برونو. وقد كانت الفكرة المحورية لذلك التيار إعمال العقل فى النص الدينى وهو ما يعرف بالتأويل ويعنى الكشف عن المعنى الباطن للنص الدينى إذا بدا للعقل أن المعنى الظاهر يتناقض معه. ومع التأويل يكون الخروج على الإجماع مشروعا، وبالتالى لا يجوز التكفير أو القتل. هذا عن المناخ الفلسفى أما عن المناخ العلمى فقد تبلور فى دعوة العالم الفلكى البولندى نقولا كوبرنيكس إلى نظرية دوران الأرض حول الشمس فى كتابه المعنون «عن دوران الأفلاك» وفيه مقدمة موجهة إلى البابا مفادها الآتى: «أيها البابا لا تقلق من هذه النظرية لأن المسألة كلها محصورة فى أن المعادلات الرياضية الخاصة بنظريتى أبسط من المعادلات الرياضية الخاصة بنظرية بطليموس التى تدعو إلى ثبات الأرض مع دوران الشمس حولها». ومع ذلك فقد صودر الكتاب بعد طبعه واستلم كوبرنيكس نسخة منه وهو على فراش الموت فى عام 1543. ثم حوكم جاليليو دينيا لتأييده نظرية كوبرنيكس. وأظن أن سبب مصادرة الكتاب مع اضطهاد المؤيد له مردود إلى أن هذه النظرية تومئ إلى القول بالعلمانية لأن دوران الأرض يعنى دوران الإنسان، وهذا الدوران يعنى الحركة، والحركة تستلزم التغير، والتغير يعنى أن ما كان يظن أنه حق فإذا به لا يكون كذلك مع التطور، ومن ثم لا يكون من حق أى إنسان أن يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة. ومن هنا جاء تعريفى للعلمانية بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. هذه هى مسألة الإيمان والدين بلا زيادة أو نقصان. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبه