أظن أن الأستاذ الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة كان محقاً عندما اختار عنواناً لمحاضرتى التى ألقيتها فى قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة فى 28/11/2016 «فى رحاب تنوير ابن رشد». فقد وردت فى محاضرتى العبارة الآتية: إذا أراد العالم الاسلامى الدخول فى حوار مع العالم الغربى من أجل تكوين جبهة مشتركة لمحاربة الارهاب فينبغى على العالم الاسلامى أن يُحيى فكر ابن رشد لتأسيس رشدية عربية تدخل فى حوار مع الرشدية اللاتينية ويكون من شأن هذا الحوار تأسيس تحالف كوكبى بين العالم الاسلامى والعالم الغربى لاجتثاث جذور الارهاب. وأظن أيضاً أنه إذا كان «رحاب تنوير ابن رشد» فى امكانه أن يحتضن العالم الغربى والعالم الاسلامى فإنه فى إمكانه كذلك أن يضم إلى هذين العالمين كنائس الشرق الأوسط. والذى يدعونى إلى إثارة فكرة هذا الانضمام هو ما حدث من ارهاب للكنيسة البطرسية بالعباسية فى11/12/2016. وقد تم هذا الارهاب بتفجير ارهابى نفسه بحزام ناسف أسفر عن 26 حالة وفاة و48 مصاباً وفقاً لتصاريح الدفن التى أصدرتها النيابة العامة. والجدير بالتنويه، هاهنا، ما ورد فى بيان الرئيس عبد الفتاح السيسى من أن «هذا الارهاب الغادر يستهدف الوطن بأقباطه ومسلميه». والمغزى أن ثمة عدواً مشتركاً بين الأقباط والمسلمين فى مصر. وإذا كان الرأى عندى أن الارهاب هو أعلى مراحل الأصوليات أيا كانت ملتها الدينية فالعدو المشترك هو أصولى أيا كانت أيضا ملته الدينية. وإذا كانت مصر هى المصدر الرئيسى للارهاب الدولى بحكم تأسيس الاخوان المسلمين فى عام 1928 فتكون مصر ملزمة بأن تكون فى الصدارة فى ذلك التحالف الكوكبى المزمع تأسيسه فى القرن الحادى والعشرين. وإذا كانت مصر كذلك فتكون أيضاً ملزمة بتأسيس رشدية شرق أوسطية للدخول فى ذلك التحالف. والذى يدعونى للمرة الثانية إلى تأسيس مثل هذا النوع من الرشدية هو ما قرأته فى مجلة «روزاليوسف» فى عددها الصادر بتاريخ 10/12/2016، أى قبل ذلك الحادث الارهابى بيوم واحد، تحت عنوان رئيسى «ثورة تصحيح فى الكنيسة« وعنوان فرعى «إعمال العقل ومراجعة التراث الدينى الأرثوذكسى» وذلك بدعم كامل من البابا تواضروس وبمؤازرة من دير الباراموس ورئيسه الأنبا إيسيذورس فى الترويج للتنوير. وفى مقدمة رهبان هذا الدير يأتى ذكر الراهب سارافيم الباراموسى. والفكرة المحورية، عنده، تدور حول تأويل النص الدينى بوجه عام وتأويله بوجه خاص للنص الانجيلى الذى يحكم علاقة الله بالانسان. وفى هذا السياق يرفض تحول الايمان إلى معتقد مطلق جامد، وبالتالى يرفض القول بأن العقل قادر على امتلاك الحقيقة المطلقة. وفى هذا السياق أيضاً يرى الراهب سارافيم أن السيد المسيح لم يأت بعقيدة أو دين فى قوالب نصية جامدة، بل قاوم التحيز النصى للعقيدة مؤكداً أن المسيح لم يكتب دوجما (أى معتقد مطلق) بالمفهوم الحرفى بل قاوم الحرف لحساب الروح. واللافت للانتباه، هاهنا، أن عملية تجديد الخطاب المسيحى لم تقف عند حد دير الباراموس بل تجاوزته إلى أساقفة فى المجمع المقدس وفى مقدمهم الانبا موسى أسقف الشباب. ففى حوار معه فى عدد مجلة «روزاليوسف» الصادر بتاريخ 19/11/2016، أى قبل الحادث الارهابى بأكثر من عشرين يوماً، قال: «على الرغم من أن كنيستنا كنيسة آباء تقوم على التسليم من جيل إلى جيل فاننا لا نقف موقفاً متشدداً إزاء إعمال العقل فى فهم العقيدة بل على العكس نحاور كل الآراء ونقبل الصحيح منها. ونتيجة التطور الفكرى والفلسفى تظهر بعض المفاهيم الجديدة ويتم التحاور بينها». وفى هذا السياق أيضاً سئل أسقف الشباب الأنبا موسى: «هل يتم هذا كله بالتنسيق مع الدولة؟ وجاء جوابه على النحو الآتى: «أرفض مصطلح التنسيق مع الدولة لأنه يوحى بأننا جالية أو دولة أخرى داخل الدولة. نحن نعمل معها وفقا لسياساتها وتوجهاتها، ولسنا مستقلين عنها. وكان الله فى عون الرئيس عبد الفتاح السيسى فى هذه المرحلة الحرجة». وتأسيساً على ذلك كله يمكن إثارة السؤال الآتى: هل دعوتى إلى تأسيس رشدية شرق أوسطية لها ما يبررها؟ أظن أن الجواب بالايجاب مادام أن الأصولى هو العدو المشترك بين المؤسسات الدينية التى تجتهد فى إحداث تيار تجديدى بوجه عام وتيار رشدى بوجه خاص، وأقول بوجه خاص لأن الرشدية، سواء كانت لاتينية أو عربية أو شرق أوسطية، هى المضاد الحيوى للأصولية. وبناء عليه يمكن القول بأن الرشدية يمكن أن تكون أساساً لتجديد الخطاب المسيحى. ومع ذلك كله يبقى سؤال: كيف تتحول الرشدية إلى تيار كوكبى، أى إلى تيار يتمثله سكان كوكب الأرض من أجل القضاء على الارهاب الأصولى الكوكبى؟ هذا التحول لن يكون ممكناً إلا إذا دخلت الرشدية فى علاقة عضوية مع القنوات الفضائية. لماذا؟ لأن هذه القنوات هى من ثمار الثورة العلمية والتكنولوجية، وهذه الثورة من ثمارها مصطلح انجليزى هو mass وترجمته بالعربية «الجمهور» وله مشتقات شاعت وهيمنت دون أن نكون على وعى بمغزاها. فالكل يتحدث عن ثقافة جماهيرية واتصالات جماهيرية ومجتمع جماهيرى وانسان جماهيرى وهو ما يعادل «رجل الشارع». وفى هذا المعنى يمكن القول بأن رجل الشارع هو بدوره المتحكم فى توجيه ثمار الثورة العلمية والتكنولوجية نحو الارهاب. وحيث إن رجل الشارع جاهل لا يكتب ولا يقرأ فليس لديه سوى القنوات الفضائية. ومن هنا تكون وظيفة هذه القنوات تدريب رجل الشارع على كيفية تغيير ذهنيته من ذهنية تغذيها خرافات ومحرمات ثقافية إلى ذهنية عقلانية تواكبها دعوة علمانية فى حدها الأدنى ودعوة تنويرية فى حدها الأقصى. لمزيد من مقالات مراد وهبة;