بجرأة شديدة, دخل الراهب سارافيم البراموسى عش الدبابير داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليخوض حرباً ضروساً ضد الموروث الثقافى والدينى داخل الكنيسة، فى محاولة لتخليص الكنيسة ومذهبها، من كل ما علق بهما من سلبيات وبدع لا أصل لها فى الكنيسة، واستقرت ضمن ما استقر من أخطاء كقوانين كنسية وغيرها. البراموسى لا يغرد منفرداً خارج السرب بل يعمل بدعم كامل من قداسة البابا تواضروس من خلال (مدرسة الإسكندرية اللاهوتية) التى تلقى دعماً كبيراً من الكثير من آباء المجمع المقدس أصحاب الرؤى الحداثية داخل الكنيسة. كما يتبنى دير البراموس ورئيسه الأنبا إيسيذورس دعم المدرسة والترويج لأفكارها. ويعتبر سارافيم البراموسى رائد هذه المدرسة على الرغم من أن هناك حرباً شعواء ومؤامرات كبيرة تحاك ضد المدرسة ورائدها من صقور المجمع المقدس من رافضى الحداثة، أدت إلى تأجيل البابا لرسامة الراهب سارافيم البراموسى أسقفاً للدراسات والبحث العلمى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وكتابات الراهب سارافيم قد انتشرت سريعاً بين الشباب القبطى ولاقت استحساناً وإقبالاً كبيراً عليها. ما بعد الحداثة تتبنى مؤلفات البراموسى ما يمكن لنا أن نطلق عليه (فلسفة ما بعد الحداثة) وهى المرحلة التى بدأها الراحل القمص متى المسكين، وحالت الخلافات بينه وبين البابا شنودة الثالث دون انتشار هذا الفكر، إلا أن البابا تواضروس الثانى الذى يتبنى خطة كبيرة للإصلاح داخل الكنيسة أفسح المجال، وجعله رحباً أمام شعاع التنوير الحداثى فى إطار تحديث ناعم لطرق ومناهج الفكر التى تتناول كل ما يتعلق بالعقيدة الأرثوذكسية من طقوس وعبادات ولاهوتيات وغيرها. وبذكاء شديد يقود سارافيم البراموسى خطة التنوير داخل الكنيسة محاولاً الابتعاد عن الصدام مع أصحاب الفكر التقليدى والمتحجر داخل الكنيسة. وتنقسم أدبيات البراموسى إلى شقين، الشق الأول يطرح من خلاله بعض النقاشات حول مفاهيم جديدة للعقيدة دون الانحراف عن الثوابت. والشق الثانى شق ثورى على كل الأخطاء المستقرة داخل الكنيسة كعقيدة. التنوير يروج البراموسى لمفاهيم جديدة فى تأويل النص الإنجيلى خاصة فى النصوص التى تحكم علاقة الله بالإنسان مرتكزاً فى تلك العلاقة على فيض حب الله للإنسان الذى توارى خلف تعريف الله على أنه المنتقم الجبار، ليؤكد أن علاقة الله بالإنسان هى علاقة حب وليست علاقة تربص. كما يخرج بتعريف الشخص (المسيحى) من خندق التقوقع داخل العبادات إلى رحاب الاندماج فى خليقة الله، كما يطرح مفهوماً فلسفياً حداثياً للصلاة متمرداً على الممارسة الروتينية فيقول: (إن الصلاة ليست استهلاكاً للوقت وتبديده فيما لا يثمر إنتاجه مادياً ولكنها تحويل الزمن إلى قيمة أبدية، وامتداد للزمن حتى يعانق غايته ونهايته المتمثلة فى اللازمان والأبدية). ويحدد منهجه فى تأويل الإنجيل بأنه هو المحك الحقيقى الذى تنحصر أركانه الآن فى كيف نغفر ونحب وسط أعاصير الكراهية المحيطة بنا ووسط رائحة الموت التى تزكم أنوفنا ووسط مذاقة الغضب التى تستوطن حناجرنا. تلك هى التجربة، إن نجونا بالحب صرنا مسيحيين على شاكلة المسيح وإن قيدنا بالكراهية صرنا صورة للشيطان بقبحه. الحقيقة المطلقة أهم ما يميز منهج سارافيم البراموسى أنه يرفض قولبة الإيمان كعقيدة (دوجما) فهو يرى أن الإيمان المسيحى منفتح ومتجدد ويرفض احتكار الحقيقة المطلقة فيقول: ( الديانة القائمة على الدوجما تتوهم امتلاكها الحق كاملاً فى نص الدوجما ومن ثم فإن أى تأويل نصى مرفوض من هذا المنظور وهنا تبرز إشكالية استنفاذ الحق، فالحق المقيد بكلمات وقوانين يبقى حقاً عقيماً لأنه لا يمكنه التجدد مع تحديات العصر. لذا فإن الادعاء بامتلاك القدرة على استيعاب الحق بالكامل وحصره فى اللغة يعنى أنه لم يكن يوماً حقاً لأنه صار أسير عقل وحرف وقانون صار سجين لغة وأرض وزمان) ويفجر فى هذا المقام قنبلة من العيار الثقيل، حيث يؤكد أن السيد المسيح لم يأت بعقيدة أو دين فى قوالب نصية جامدة بل قاوم المسيح التحيز النصى للعقيدة مؤكداً أنه ( لم يكتب المسيح دوجما بالمفهوم الحرفى بل قاوم الحرف لحساب الروح ). وفى مقام آخر يؤكد رفض امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكار العقيدة بالقول (من أراد أن يبحث عن الحقيقة فليدخل إلى داخله ويوقد نوره الباطن ويطوى ترهات عقله الطويلة إلى دائرة واحدة فهناك تنقشع غيوم الضلال عن الحقيقة المحجوبة فتنجلى أوضح من الشمس ذاتها). التنوع الأدبى كان لابد للراهب سارافيم البراموسى أن يجد وسيلة تمكنه من الثورة على بعض العبادات والموروثات الخاطئة داخل الكنيسة فهو يعرف أن ذلك سوف يقابل ببركان من غضب الأصوليين داخل الكنيسة، وبحنكة شديدة قرر أن يكون الصدام ناعماً من خلال الرواية فالإنتاج الأدبى له يبلغ عشرين مجلداً بينها روايتان هما الأكثر صداماً مع خفافيش الظلام داخل الكنيسة. الرواية الأولى هى (ليكن نور) والرواية الثانية هى (من مذكرات ملاك) وهى الأشد صداماً بين أدبيات البراموسى وفيها يكسر الكثير من التابوهات الموروثة داخل الكنيسة عن طريق تطويع الأدب الروائى والخيال الإبداعى كأداة للتمرد على الفساد داخل الكنيسة وهو ما لا يمكن أن يمسك عليه فكل ما جاء بالرواية هو رصد لخيال الكاتب فى إطار الإبداع الأدبى. مذكرات ملاك يدخل سارافيم البراموسى فى روايته (من مذكرات ملاك) عالم الخدمة الكنسية ويكشف عن العديد من السلبيات الموجودة به من خلال (ملاك) يدخل إلى أحد الكنائس أثناء صلوات القداس الإلهى، ويقوم بفحص قلوب المصلين ويدون ما يجده بقلب كل منهم من خلال أنماط اختارها بعناية المؤلف. والرواية لا يربط أشخاصها إلا هذا الملاك الذى يتنقل من شخص لآخر فهى عبارة عن مجموعة من (الاسكتشات) الأدبية المنفصلة المتصلة. وعقب قراءة الملاك لقلب كل مصل يعلق الراهب سارافيم البراموسى على لسان الملاك بطل روايته تلك التعليقات فى مجموعها تمثل الهدف من الرواية، وتأتى فى ومضات تضىء على السلبيات التى أراد كاتب الرواية تسليط الضوء عليها فأحداث الرواية بسيطة وإن كانت لا تخلو من الإسقاط على الواقع، ولكن رصد التعليقات وتجميعها يشكل توجه الراهب الحداثى فى رؤيته للكنيسة. فساد الكهنة على الرغم من أن البراموسى راهب وينتمى إلى طائفة الكهنة إلا أنه لم يخجل من انتقاد فساد البعض منهم فى أسلوب التعامل مع الرعية من الشعب حيث يرى أن أسلوب الرعاية المستبد لبعض الكهنة أصبح يشكل سهاماً قاتلة تصيب قلوب المؤمنين بينما تشكل محاولات التنوير درعاً يحمى شعب الكنيسة من هذا الاستبداد الكهنوتى ويرصد هذا الصراع بين الاستبداد والتنوير داخل الكنيسة على لسان الملاك بطل روايته. فيصف كهنة الاستبداد الروحى بأنهم (كائنات سوداء شاحبة، قبيحة المنظر والمظهر، يعلو وجوهها صُفرة بلون لهب الجحيم . تحمل فى أيديها أقواساً وسهاماً تُصوبها نحو قلوب المتعبدين وكانت سهامهم تبلغ مراميها لتصيب القلوب، بينما تمتد دروع النور لتصد عن مئات السهام المُطلقة لكى لا تصيبهم). التعليم والإلحاد برشاقة أدبية يتنقل سارافيم البراموسى بين موضوعات وعن طريق السرد القصصى فيوضح أن فساد التعليم داخل الكنيسة كان سبباً فى إلحاد الكثير من الشباب القبطى وخروجه من الكنيسة منتقدا التعليم الدينى الذى يوجه للشباب من حدثوه عن الله برعوا فى شرح طبيعة الجحيم والموت والعقوبة وفى المقابل تباروا فى شرح مستلزمات الحياة مع الله من صلوات وأصوام و أسهار وممارسات متواصلة تتلاشى جميعها إن أخطأ الإنسان ليُلاقى مصير من لم يعرف الله فكل محاولة مع الله ستبوء بالفشل لا محالة، فلما العناء إن كانت السماء محالة هكذا؟). ويكشف الراهب سارافيم عن أن الله لا يريد قمع البشر، ولكنه يتوحد مع رغبات البشر فى منظومة من الحب (السماء ليست ما فوق رءوس البشر، ولكنها داخلهم حبيسة تريد الإطلاق ولا شىء يحرر سماء القلب سوى النعمة المتشابكة الأيدى مع رغبات البشر، حينها يبدأ تدفق الإعلانات الإلهية فى الكون والخليقة) الجهل بالطقس ينتقد البراموسى التعامل مع الأيقونات (الصور المعلقة بالكنيسة) والتى رسم عليها قديسو الكنيسة حيث أصبحت تلك الأيقونات مصدراً للبركات يتم إضاءة الشموع أمامها لإكرام القديس صاحب الصورة ليعود إلى الأصل الذى قننت فيه الكنيسة تلك الأيقونات لكى تكون بمثابة نافذة روحية يطل منه المؤمنون على إيمان القديسين والاقتداء بهم فيقول (إنارة الشموع أمام الأيقونات ليست سوى إنارة لشموع السكينة فى قلوبكم حينما تبدأون فى تجاذب أطراف الحديث مع ذاك الشخص الواقف فى غطاء من ألوان وخطوط. أليست الأيقونات هى نوافذ على ملكوت الله فتحتها لكم الكنيسة، لتروا وتسجلوا طبيعة مواطنى تلك المملكة السماوية. الأيقونة فى خيال البعض جهل ووهم، بينما يراها من حط على قلوبهم طائر الضياء الدهرى شخوصاً يحيون أبداً فى رداء من مجد) شيخوخة يتصاعد الحس النقدى لدى البراموسى ليصل منتهاه بالكشف عن شيخوخة الكنيسة وأنها لم تعد قادرة على استيعاب الشباب والمراهقين وأن الكنيسة أصبحت قيوداً على هؤلاء بسبب القيود التى يضعها الخدًّام عليهم وينتهر الخدًّام بقوله: ( المراهقون فى مقتبل العمر لا يحتملون قيود المفروض والواجب، يريدون أن يكونوا أحراراً من النصائح التى يلقيها عليهم الكبار من منابر خبرتهم، لا يستطيعون وعى التوازن الذى تطلبه الحياة بين المرح والجد. قاعدتهم الذهبية أن الممنوع مرغوب، والمنهى عنه محبوب. فساد الخدمة يضع البراموسى يده على أكبر جراح الكنيسة، فالخدمة باتت داخل الكنيسة نوعاً من الوجاهة الاجتماعية يسعى إليها الباحثون عن الشهرة والإعجاب داخل الكنيسة وابتعدوا عن الخدمة الروحية الحقيقية لشعب الكنيسة ويرصد الظاهرة ب(أن الكثيرين ممن تضمهم الكنائس بين جدرانها متغربون داخلها. يبحثون عن ذواتهم فى خدمة أو عبادة يلملمون بها نظرات الإعجاب من الآخرين). ولم يتوقف البراموسى عن رصد الظاهرة بل وبخ هؤلاء الخِدًّام وحملهم مسئولية ابتعاد الشعب عن الكنيسة.