«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم ثقال الناموس. وهو العدل والرحمة والإيمان. كان ينبغى أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. أيها القادة العميان الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تنظفون خارج الكأس والصحفة، وداخلهما مملوء خطفا ونجسا» هذا ما قاله السيد المسيح منذ ألفى عام، أما الآن فالوضع أكثر بؤسا، وأقل احتمالا... منذ أيام أطلق نيافة الأنبا بيشوى، سكرتير المجمع المقدس الأرثوذكسى، نحو 19فيلما وثائقيا عبر موقع «اليوتيوب» الشهير على الانترنت للرد على رواية «عزازيل» للدكتور يوسف زيدان، لكنى لم أفهم لماذا ذكر نيافته هذه الآية «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، كبداية فى رده من جديد على «عزازيل»، حيث لم يكتف أنبا بيشوى بكتابه «الرد على البهتان فى رواية يوسف زيدان»؟ ولم أستوعب لماذا يصمم البعض على مناقشة «عزازيل»، وهى رواية، أكرر رواية أى عمل إبداعى خيالى، باعتبارها عملا تاريخيا؟!. لكن ذلك لا يجعلنا إغفال السؤال الذى يطرح نفسه أيضا: هل العمل الإبداعى له مطلق الحرية فى التعامل مع الأحداث التاريخية كحالة رواية «عزازيل» التى تتناول فترة من أصعب فترات تاريخ الكنيسة المسيحية فى مصر، التباسا وتأويلا؟! محتوى الأفلام الأفلام مكونة من تسعة عشر جزءا، لا تتجاوز مدة عرض الجزء الواحد منها عشر دقائق، أكثرها هجوما الفيلم الأول والأخير، أما بقية الأفلام، وهى معلومات تاريخية موثقة، فتحمل عناوين: «هل فعلا قتل البابا ألكسندروس آريوس؟ ومدى التزييف فى سرده لأحداث مجمع نيقية، والإمبراطور قسطنطين لا يعرف اليونانية، وهل حرق قسطنطين كل الأناجيل ما عدا الأربعة المشهورة، وحقيقة أحداث مجمع نيقية، ومن هى الملكة هيلانة؟، وهل هدم البابا ثيئوفيلس معبد السيرابيوم على رءوس الوثنيين كما تقول الرواية؟ ومن هم البارابلانى؟ وهل هم فعلا جماعة مسيحية قتلة متوحشون كما تقول الرواية؟ والقديس كيرلس ومكانته فى الكنيسة الشرقية والغربية الشهادات التى تثبت أن القديس كيرلس ليس له أى صلة بمقتل هيباتيا الفيلسوفة، والخلافات بينه وبين نسطور، وملامح شخصية القديس كيرلس، ورسائل للقديس كيرلس والتناقض بين الحقيقة وبين ما صوره د. زيدان، وماذا يقول القديس كيرلس عن نسطور فى رسائله، وشهادات من البطاركة المعاصرين للبابا كيرلس ومدى تقديرهم له، ومن هو رئيس لجنة التحكيم للجائزة العربية للبوكر، واعتراف زيدان بأن ثلث روايته يحتوى على مشاهد جنسية وأخيرا زيدان يدعو للإلحاد. فى الفيلم الأول، يؤكد أنبا بيشوى الرجل الحديدى فى الكنيسة الأرثوذكسية «أن هدف هذا العمل هو تسليط الضوء وتصحيح الضلال الذى أورده الدكتور يوسف زيدان فى مؤلفه «عزازيل»، للتعرف على الحقائق التاريخية الموثقة من قبل علماء الدين المسيحى البارزين». ثم يستكمل الفيلم: ونستعمل التعبير «نظم»؛ لأن المؤلف يدعى أنه لا توجد أخطاء تاريخية فى الرواية، وعند مواجهته بالأخطاء يتراجع ليعلن أن الرواية خيال، والسؤال هنا ما هو الخيال وما هى الحقيقة؟ خطورة هذه الرواية هى أنها تدعى أنها كشفت للقراء المسلمين حقيقة العقيدة المسيحية التى أخفتها الكنيسة على مر العصور وهذا غير صحيح تماما، فالرواية تهاجم أساسيات العقيدة المسيحية وتحاول تحطيمها متبعة نفس أسلوب دان براون فى روايته «شفرة دافنشى»، فى هذا الفيلم سنذكر الأخطاء التى وردت فى الرواية، وتعمدت الإساءة للعقيدة المسيحية كما أن الرواية ورد بها العديد من المشاهد الجنسية اللا أخلاقية». ومنْ يمعن النظر والسمع لتلك الأفلام، باهظة التكاليف، وهى حق مشروع لنيافته أو غيره، فى حالة إذا كانت «عزازيل» عملا تاريخيا يجد أنها تحاول بإشارات خفية فى معظم أجزائها، ومعلنة فى الجزء الأخير، التأكيد أن رواية عزازيل من بنات خيال الدكتور يوسف زيدان، وأن الراهب هيبا كاتب الرقوق، وبطل الرواية راهب غير موجود تاريخيا. وفى الحقيقة هذا التأكيد من جانب الأفلام موفق، وصحيح مائة فى المائة، إذ لم يدع أحد أن «عزازيل» رقوق حقيقية، أو أن الراهب هيبا كتب عزازيل، وترجمها أو حققها د.يوسف زيدان. بحث تاريخى أم رواية؟ كلما حاولنا مناقشة ما جاء فى الأفلام الوثائقية، التى تعرض الأخطاء التاريخية والعقائدية فيما أورده زيدان فى «عزازيل»، يشدنا السؤال الذى طرحناه من قبل: لماذا يصر البعض على مناقشة رواية «عزازيل» باعتبارها بحثا تاريخيا، وليس باعتبارها عملا إبداعيا؟ لكننا سنتجاوز الإجابة عن هذا السؤال إلى حين، لنشير إلى الفيلم الأخير المستفز، وهو المعنون ب«ملاحظات جزء 18»، حيث أوحى للمستمع أن جائزة البوكر العربية «الجائزة العالمية للرواية العربية» التى حازت عليها الرواية أعطاها ليوسف زيدان رئيس لجنة التحكيم الأديب العراقى صمويل شمعون، وهو أشورى، حسب الفيلم، والأشوريون هم نساطرة أى يتبعون نسطور العدو اللدود للكنيسة الأرثوذكسية. ولكن الثابت أن صمويل شمعون ليس له علاقة مطلقا بالدورة الثانية لجائزة البوكر التى أعطت جائزتها إلى عزازيل، إنما شمعون كان رئيسا للدورة الأولى للجائزة التى ذهبت إلى الأديب الكبير بهاء طاهر عن روايته «واحة الغروب». وإذا كان شمعون هو فعلا رئيس لجنة تحكيم البوكر لدورة فوز عزازيل، فهل للأفلام الوثائقية هذا الربط غير المنطقى بين عزازيل ومعتقدات رئيس لجنة التحكيم، وهو أديب ومترجم مهم معروف لكل الوسط الثقافى العربى. وفى الفيلم الأخير أيضا تحريض صريح على مهاجمة زيدان، حيث تقرر الأفلام أن زيدان يدعو إلى الإلحاد فى روايته التى رأتها الأفلام تنكر وجود الله بل تحاول أن تقول إن الله من صنع البشر، وكذلك الشيطان المدعو «عزازيل». ويقول الفيلم الأخير: «أليست هذه الرواية دعوة إلى الإلحاد والوجودية وهدم جميع الأديان بلا استثناء مستترة وراء الهجوم على الديانة المسيحية فى الإسكندرية؟ نحن نأمل ألا تنطلى هذه الحيلة الشيطانية على علماء المسلمين فى مصر مهما نالت من جوائز الأدب العربى». السؤال المحير فى هذه القضية: لماذا أطلق الأنبا بيشوى هذه الأفلام عالية الجودة، المصحوبة بموسيقى لدق طبول الحرب، وأحيانا لموسيقى «فان هليسنج» محارب مصاصى الدماء، باللغة الإنجليزية، وليست العربية؟! فإذا كان المستهدف هو المستمع المصرى لماذا لم تصدر بالعربية، إذ إن الغرب لا يحتاج إلى هذه الوصاية الدينية على عقله فى تمييز العمل الأدبى من العمل التاريخى؟! من الجائز، وبل من المقبول، أن يكون رد الأنبا بيشوى به توضيحات حول السرد التاريخى بالرواية، ولكن أليس كان من الأحرى بمجهودات الكنيسة الممثلة فى الأنبا بيشوى، والقمص عبد المسيح بسيط، مناقشة كتاب «اللاهوت العربى... أصول العنف الدينى»، وهو كتاب يثير الجدل، وينشط الذهن وإعمال العقل. فاللاهوت العربى كتاب بحثى، لا يوجد به خيال أو شخصيات روائية، أما «عزازيل»، فهى رواية، ومناقشتها من جانب رجال الدين يمثل فوضى غير محتملة. بالطبع من حق الأنبا بيشوى وغيره أن يدافع عن إيمان كنيسته، وتوضيح الاختلافات والالتباسات التاريخية الواردة فى أى كتاب، لكن التعامل مع الروايات لابد أن يكون له تعامل مختلف، كما أن رواية «عزازيل» نالها النقد الكنسى ما تستحقه من إصدار كتب، وردود رجال الدين عليها، لذلك فهى لا تستحق كل هذا العناء، وإطلاق أفلام وثائقية عبر الانترنت باللغة الإنجليزية، ومصحوبة باللغة العربية، وإلا على الكنيسة التفرغ للرد على روايات كثيرة، تقدم رؤيا مغايرة فيما تعتقده الكنيسة مثل روايات: الإغواء الأخير للمسيح، أو الإنجيل بحسب يسوع المسيح، أو أعمال سينمائية وهى كثيرة، آخرها الفيلم الرائع «أجورا». ليس هنا المجال للدفاع عن «عزازيل»، لسببين: الأول، وهو يندرج تحت المنطق الذى أوردناه، أى أن عزازيل رواية لا يصلح الدفاع عنها أو الهجوم عليها، ينبثق عن السبب الأول السبب الثانى، وهو أنها رواية أى تقييمها يكون للنقاد الخبراء. ومن المعروف أن النقاد أجمعوا أنها رواية متفردة فى اللغة والبناء والفكرة. لكن السؤال الملح: هل المفترض أنه حينما يشرع الروائى فى كتابة نص إبداعى به ملامح تاريخية لابد أن يكون دقيقا فى المعلومات التاريخية أم أن العمل الإبداعى مباح له أو متاح أن يفعل ما يشاء؟!! وهل للكاتب أن يراعى مشاعر بعض الناس كالأقباط فيما يكتبه فيجعل نفسه رقيبا على إبداعه؟! فى الحقيقة تحتاج هذه الأفلام ردا من الدكتور يوسف زيدان طالما أراد «الأنبا بيشوى» أن يجرنا إلى غياهب التاريخ، منطلقا من سؤاله: هل يصح أو يليق أن نتخذ من الديانة المسيحية العريقة والكنيسة المصرية المجيدة مدعاة للتسلية والتزييف؟ وماذا سيكون رد الفعل لو قام شخص ما بتأليف رواية تناظر هذه الرواية وبنفس مستوى التزييف والتحايل «الذى يسميه زيدان إبداعا أدبيا»، ولكن بالنسبة للديانة الإسلامية؟ هل سيقبل أى مسلم غيور على ديانته المساس بمعتقداته وتزييف تاريخ الإسلام والتشكيك فى موروثاته ومسلماته، والإساءة إلى شخصيات قيادية يكن لها كل تقدير واحترام؟». أخيرا، الرد الجديد على عزازيل، رغم أنه مبالغ فيه، فهو يندرج تحت مقولة «رد الفكر بالفكر، وهو أفضل كثيرا من التقديم إلى المحاكمات، وساحات نيابات أمن الدولة، أو الدعوات إلى إباحة الدماء والتكفير والتهويل».