جاء عيسي عليه السلام ليعيد للبشرية رشدها، ويعيد الناس إلي رحيق السماء الذي نادي به موسي عليه السلام كما جاء في التوراة.. فقد شاعت المادة وابتعد اليهود عن القيم الروحية، وغرقوا في المادة، وكان الكهنة والكتبة والغربيين أبعد الناس عما جاءت به شريعة موسي عليه السلام. ونظرة إلي ما كان عليه العالم عندما جاء عيسي عليه السلام تبين الحاجة الملحة إلي ديانة سماوية تهدي الناس إلي طريق الهدي والرشاد. كانت الامبراطورية الرومانية - وهي وثنية - تمد سلطانها إلي معظم دول العالم، فقد امتد سلطانها إلي كثير من دول أوربا مثل شمال ايطاليا وبريطانيا والنمسا، والمجر ورومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا، كما امتد سلطانها إلي الشام ومصر والشمال الافريقي وأسبانيا.. وكانت الامبراطورية الرومانية تفرض علي الناس الضرائب الباهظة، وتحجب عنهم الحرية، فعاش الناس في ظل هذه الهيمنة الاستعمارية، وهي تعاني أسوأ ألوان الظلم والطغيان. وعاشت فلسطين هي الأخري تحت نير هذا الاستعمار الروماني، وكانت منه وعانت معاناة شديدة وكان كهنة اليهود يعملون في خدمة هذا الاستعمار المتسلط علي رقاب الناس. وفي هذا الجو شديد القتامة، ولد عيسي عليه السلام في مدينة بيت لحم، ليكون ميلاده ميلاد نور جديد يعم العالم، وينقذ البشرية كلها بما ران عليها من ظلم وهوان. وكان يحيي عليه السلام ودعوته للناس أن يعودوا إلي رحيق السماء، ودعوته للناس أن يعودوا إلي رحيق السماء، بشارات لمجيء السيد المسيح.. ونحن نري في القرآن الكريم الشبه الكبير بين دعوة يحيي وعيسي عليه السلام. ففي سورة مريم: : يا يحيي خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا، وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا، وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا.. وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا. ويقول القرآن الكريم عن المسيح عيسي بن مريم. : قال إني عبدالله آتاني الكتاب، وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا، وبر بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام عليَّ يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا. كان يحيي بن زكريا (يوحنا المعمدان) ينادي بالشريعة الموسوية، ومتعمقا فيها، وداعيا إليها، ومعمد اليهود بالماء المقدس، وكان مبشرا باقتراب ملكوت السماء.. وكان شديد الزهد.. شديد التعبد، وكان يصرخ في البرية مبشرا بقدوم المسيح: : »توبوا، لأنه قد اقترب ملكوت السموات« وكان يقول للناس وهو يمهد لقدوم السيد المسيح: : أنا أعمدكم بماء التوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوي مني، الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس والنار«. كان يحيي بن زكريا (يوحنا المعمدان) يعيش علي عسل النحل والجراد. ولكن طغاة عصره لم يتركوه، لأنه لم يرضح لمخالفة الحاكم الروماني (هيردوس) الذي يريد الزواج من امرأة أخيه، وهذا ينافي مع شريعة موسي عليه السلام، فيأمر جنوده باعتقاله، ثم ذبحه إرضاءا (لسالومي) التي كان يهيم بها عشقا!! لقد عمد يحيي عليه السلام ابن خالة السيد المسيح بحياة نهر الأردن.. وكان عليه أن يحمل لواء الرسالة بعد استشهاد يحيي عليه السلام... وفي بيت لحم بدأت دعوته عليه السلام: »قد كمل الزمان.. واقترب ملكوت الله.. فتوبوا وآمنوا بالبشري«. كان اليهود يتصورون أن المسيح القادم سيكون لهم وحدهم دون الناس، فاليهود يرون أن الله هو إلههم وحدهم، يمدهم بالقوت وبما يشاءون دون باقي البشر، ولكنهم فوجئوا أن السيد المسيح، ينتقد تصرفاتهم البعيدة عن الشريعة الموسوية، وأنه جاء ليخلص الناس جميعا مما يعانونه من ظلم، وبما يرهقهم من كدر الحياة الدنيا، ويبشر الناس بما عند الله من خير يعم الجميع، ويطالب الناس بالطهارة والعفاف، والحب والصدق، ومكارم الأخلاق ويقول للبعيدين عن الشريعة من كتبة وقريشيين الحقيقة في وجوههم: : ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤن، لأنكم تشبهون قبورا مبيضة، تظهر من الخارج جميلة، وهي من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة« وهكذا أنتم أيضا، من خارج تظهرون للناس أبرارا ولكنكم من داخل مشحونين رياء وإثما«. : ويل لكم أيها الكتبة الغربيون المراءون، لأنكم تبنون قبور الأنبياء، وتزينون مدافن الصديقين، وتقولون لو كنا في أيام أبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء«. »وأنتم تشهدون علي أنفسكم أنكم أبناء قتله الأنبياء، فاملأوا أنتم مكيال أبائكم. : أيتها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم، لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلي مدينة، لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك علي الأرض - من دم هابيل الصديق إلي دم زكريا بن برضيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح«. الحق أقول لكم: ان هذا كله يأتي علي هذا الجيل.. يا أورشليم.. يا أورشليم.. ياقاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها«. : كم مرة أردت أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها ولم تريدوا«. : هو ذاب بيتكم يترك لكم حرابا، لأني أقول لكم.. إنكم لاترونني من الآن حتي تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب« لقد أخذ عيسي عليه السلام، يعلو صوته في الناصرة ليدعوا الناس إلي الحق، ويدعو اليهود إلي العودة إلي طريق الهدي والحق، ويبتعدوا عن طريق الضلال.. إنه يدعو إلي الحب والرحمة وكل القيم النبيلة. ويقول المؤرخ هو. ج. ويلز تحت عنوان »تعاليم يسوع« في كتابه موجز تاريخ العالم: : ولد يسوع مسيح النصرانية في يهوذا، إبان حكم أوغسطوس قيصر أول قياصرة روما، وباسمه نشأ دين قدر له أن يصبح الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية بأجمعها«. ويقول أيضا: : وعندي أنه من الأوفق بصورة اجمالية أن تباعد بين اللاهوت والتاريخ، فإن شطرا عظيما من العالم المسيحي يعتقد أن عيسي كان الصورة الجسدية لذلك الإله رب العالم أجمع الذي كان اليهود أول من عرفه، والمؤرخ لايستطيع - إن هو شاء أن يحتفظ بصنعته تلك - أين قبل ذلك التأويل أو ينكره. كان عيسي يبدو من الناحية المادية في صورة انسان، ولذلك وجب علي المؤرخ أن يتناوله بوصفه إنسانا. : ظهر في يهودا في أثناء حكم تيبريوس قيصر، كان نبيا يبشر علي طريقة من سبقوه من أنبياء اليهود، كان عمره يناهز الثلاثين، أما منوال حياته قبل أن يبدأ التبشير برسالته فذلك أمر نجهله جهلا تاما. فليس لدينا مصدر مباشر للعلم بحياة عيسي وتعاليمه إلا الأناجيل الأربعة، وكلها تجمع علي إعطائنا صورة لشخصية قوية التحديد، لايسع المرء منا إلا أن يقول: : لاشك أن بين أيدينا إنسانا، وليس في الإمكان أن يكون خبره مفتعلا«. ويقول هو جوديلز أيضا: كان اليهود يؤمنون بأن الله الرب الأحد للعالم أجمع، كان رب بر وصلاح، ولكنهم كانوا يقولون أيضا بأنه رب تاجر، أتم في شأنهم صفقة مع أبيهم أبراهام (ابراهيم) صفقة رابحة جدا لصالحهم والحق يقال: يتعهد بها أن يرتفع بهم في النهاية إلي السيادة علي الأرض!! فلا عجب أن يأخذهم الفزع والغضب حين يسمعون أن يسوع وهو يحطم أمامهم نفيس ضماناتهم، ذلك أنه راح يعلم الناس أن الله ليس صاحب صفقات«.