هذه العبارة كان من الممكن قولها فى القرن السادس عشر عندما أعلن العالم الفلكى البولندى نقولا كوبرنيكس (1473- 1543) فى كتابه المعنون «فى الحركات السماوية» (1543) أن الأرض تدور حول الشمس بديلاً عن نظرية بطليموس القائلة بأن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها ومعها الأجرام. وقد قيل أولاً عن هذا الكتاب إنه يفصل بين نهاية العصور الوسطى المظلمة وبداية العصور الحديثة. وقيل ثانياً إنه أقوى تأثيراً من استيلاء الأتراك على القسطنطينية ومن اكتشاف كولومبس أمريكا. وقيل ثالثاً إنه يشير إلى موت عالم ومولد عالم جديد. والجدير بالتنويه هاهنا أن كوبرنيكس كان قد انتهى من تأليف كتابه فى عام 1530 ومع ذلك لم ينشره إلا فى عام 1543 وهو على فراش الموت فاقد الوعى. والسؤال اذن: لماذا التأخير فى النشر؟ لم يترك لنا كوبرنيكس كتاباً عن سيرته الذاتية حتى يمكن معرفة الأسباب التى دفعته إلى ذلك التأخير، ولكنه ترك لنا مفتاحاً نفتح به باب الأسرار وندخل بعده إلى باب المعرفة. وهذا المفتاح يكمن فى الرسالة التى افتتح بها كتابه، وهى رسالة موجهة إلى البابا بولس الثالث جاء فيها أنه على يقين من أن ثمة بشراً على استعداد لادانته وادانة آرائه إلا أنه على وعى بأن الفيلسوف لا يكترث بحكم الجماهير بل يكترث بالبحث عن الحقيقة وعن إعلانها عند الضرورة. وهو لهذا لا يحاكى الفيلسوف اليونانى فيثاغورس من القرن السادس قبل الميلاد فى المحافظة على سرية نظرياته ومن بينها نظرية دوران الأرض حول الشمس التى كان قد أعلنها لأتباعه وذلك خوفاً على حياته وحياة أتباعه، وقد كان، إذ بمجرد تخلى تلاميذه عن المحافظة على السرية أحرقت الدار الذى كان يجتمع فيها فيثاغورس. وقيل إنه كان متغيباً عن الدار يوم الحريق. على النقيض من فيثاغورس كان كوبرنيكس، إذ رفض المحافظة على سرية نظريته عن دوران الأرض ولكن مع محاولة التخفيف من الصدمة فقال فى رسالته إلى البابا بأن الذى دفعه إلى الأخذ بهذه النظرية أن معادلاتها الرياضية أبسط من معادلات نظرية ثبات الأرض. ومع ذلك فإن هذا التبرير الرياضى لم يكن موضع اهتمام من السلطة الدينية، إذ كان اهتمامها منصباً على النظرية ذاتها من حيث إنها مناقضة لآيات الكتاب المقدس. إلا أنها لم تعلن عداءها حتى جاء جاليليو وأعلن تأييده للنظرية، فأعلنه ديوان الفهرست المكلف بمراقبة الكتب الخطرة فى 25 فبراير 1616 بأن يمتنع عن الجهر برأيه. وفى 5 مارس من نفس العام قرر ديوان الفهرست تحريم كتاب كوبرنيكس. وفى 13 فبراير من عام 1918 حوكم جاليليو بتهمة الخروج على الدين بنظرية كاذبة ومنافية للكتاب المقدس، وطلب منه إنكارها فأنكر وأقسم وهو راكع على ركبتيه. وكان فى حينها الفيلسوف الفرنسى ديكارت ولقبه «أبو الفلسفة الحديثة» يحرر كتاباً عنوانه « العالم» اصطنع فيه القول بدوران الأرض، ولكنه عندما علم بإدانة جاليليو امتنع عن نشر كتابه الذى لم ينشر إلا بعد وفاته بسبع وعشرين عاماً . والسؤال اذن: لماذا انزعجت السلطة الدينية من نظرية دوران الأرض؟ جوابى على النحو الآتى: إذا لم تكن الأرض مركزاً للكون فإن الانسان أيضا لن يكون مركزاً للكون. وإذا لم يكن الانسان مركزاً للكون فإنه لن يكون قادراً على أن يكون مالكاً للحقيقة المطلقة. وإذا لم يكن قادراً على أن يكون كذلك فتفكيره يكون نسبياً بالضرورة. إلا أن السلطة الدينية، أيا كانت ملتها، تزعم أنها مالكة للحقيقة المطلقة حتى تتمكن من التحكم فى المؤمنين وذلك بمنعهم من التشكك من الحقيقة المطلقة، وإذا تشككوا فاتهامهم بالكُفر أمر لازم. ومن هنا جاء تعريفى للعلمانية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق»، وتعريفى للأصولية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى». وفى عام 2007 أصدر فيلسوف كندا شارلس تايلور مجلداً ضخماً فى 800 صفحة عنوانه «عصر علمانى» يحكى فيه قصة العلمانية فى الغرب الحديث، وكانت الغاية من سرد القصة توضيح ما هو غامض فى مسار العلمانية. وهنا يثير تايلور السؤال الآتى: أين تكمن العلمانية؟ هل هى فى الدولة أم فى النسق الثقافى؟ جوابه أنها تكمن فى النسق الثقافى. ولا أدل على ذلك من أن المجتمعات قبل العصر الحديث كانت مؤسسة على الله، أى على حقيقة مطلقة. أما بعد العصر الحديث فقد تحررت من هذا الأساس، ومن ثم أصبحت الكنائس مستقلة عن الأبنية السياسية، وأصبح الدين مسألة خاصة كما أصبح المجتمع مكوناً من المؤمنين وغير المؤمنين. وفى صياغة أوضح يمكن القول بأنه فى المجتمعات العلمانية يمكنك أن تنخرط فى السياسة تماماً دون اقحام الله. والنتيجة المترتبة على ذلك أن المجتمع برمته ينخرط فى عملية تغيير النسق الثقافى، ويصبح الايمان بعد ذلك أحد الخيارات الانسانية أو أحد خيارات الحياة. والفيلسوف الألمانى العظيم كانط هو نموذج على هذه النتيجة، إذ ارتأى أن الانسان من حيث هو كائن عاقل فى إمكانه صياغة القوانين التى بها يحيا من غير قهر. العلمانية اذن تعنى ازدهار الخيارات البشرية بلا توقف وبلا حدود، ويكون الاختيار السائد تدمير حوائط الجيتو الدينية وبالتالى تدمير الحواجز بين الجماعات الدينية. إلا أن نقطة الضعف فى تفكير تايلور كامنة فى أنه لم يلتفت إلى العلاقة العضوية بين دوران الأرض والعلمانية على نحو ما انتهيت إليه من أن من ينكر العلمانية فإنه ينكر دوران كوكب الأرض، ومن هنا يكون سكان كوكب الأرض علمانيون بالضرورة. لمزيد من مقالات مراد وهبة