أريد للفظ « مفارقة» أن يشيع كما شاعت ألفاظ أخرى مثل العلمانية والأصولية والوضع القائم والقادم والمطلق والنسبى والرؤية المستقبلية وثقافة الذاكرة وثقافة الابداع ومُلاَك الحقيقة المطلقة. والذى دفعنى إلى هذا الذى أريده هو صدور كتابين مع بداية هذا القرن أحدهما لفيلسوف أمريكى اسمه روى سورنسن عنوانه الرئيسى « تاريخ موجز ل المفارقة» وعنوانه الفرعى « الفلسفة ومتاهات العقل» ( 2003) وهو من منشورات جامعة أكسفورد الملتزمة بإشاعة التنوير. والآخر لفيلسوفة بلجيكية اسمها شانتال موفى وعنوانه « مفارقة الديمقراطية» (2001) وهو من منشورات دار فرسو أشهر دار نشر يسارية بلندن. والسؤال بعد ذلك: ما معنى لفظ « مفارقة»؟ يقال هذا اللفظ على أى عبارة تبدو أنها صادقة ولكن مع الفحص نكتشف أنها كاذبة. ومعنى ذلك أن المفارقة تنطوى على الصدق والكذب، أى تنطوى على التناقض. والمطلوب بعد ذلك إما رفع التناقض أو المحافظة عليه. وبناء عليه يمكن إثارة السؤال الآتي: ماذا تعنى مفارقة الديمقراطية؟ وأجيب بسؤال: أى ديمقراطية؟ فتاريخياً، فى رأى موفي، ثمة ضربان من الديمقراطية: ديمقراطية قديمة وديمقراطية حديثة. الديمقراطية القديمة نشأت فى أثينا وتعنى سلطة الشعب، والقانون هو الممثل لهذه السلطة، والغاية منه إقامة العدالة لتحقيق المساواة. المساواة إذن هى جوهر الديمقراطية القديمة. وبعد ذلك تطورت السلطة الشعبية وتحولت إلى سلطة الأمير، ومع غياب الأمير غابت السلطة وأصبح مكانها فارغاً. وعندئذ كانت الديمقراطية الحديثة هى البديل. والسؤال اذن: ماذا تعنى الديمقراطية الحديثة عند موفي؟ إن ما هو جديد فى الديمقراطية الحديثة هو عودة السلطة التى كان يمارسها الشعب ولكن فى إطار جديد رمزى يسمى الخطاب الليبرالى الذى يدور حول حرية الفرد وحقوق الانسان. إلا أن هذا الخطاب الليبرالى لا يدخل فى علاقة عضوية مع التراث الديمقراطى القديم الذى محوره المساواة وسلطة الشعب. وفى عبارة أخرى يمكن القول بأن ثمة تبايناً بين تراثين تراث الديمقراطية القديمة وتراث الليبرالية الذى اشتهر بفصل الكنيسة عن الدولة، والعام عن الخاص. فهذا التراث ليس مردوداً إلى الخطاب الديمقراطى القديم، إنما هو مردود إلى مصدر آخر، لأن الحرية وهى محور الخطاب الديمقراطى الحديث لا علاقة لها بالمساواة التى هى محور الخطاب الديمقراطى القديم. ومعنى ذلك أن ثمة تناقضاً بين الحرية والمساواة ومن هنا يكون من المحال أن تنشأ علاقة عضوية بينهما. ولا أدل على ذلك من أن العلاقة كانت موضع صراع. والديمقراطيون والليبراليون على وعى بذلك الصراع الذى كان من شأنه حدوث « عيب فى الديمقراطية» على حد تعبير موفي، ومفاده أن سلطة الشعب المحصورة فى مخيلة الديمقراطية القديمة لها تأثير سييء على المؤسسات الديمقراطية الحديثة. ومن هنا فإن الديمقراطية الليبرالية ملزمة بوضع « فرامل» للحد من سلطة الشعب من أجل المحافظة على حرية الانسان وحقوق الانسان. والسؤال اذن: هل من المشروع وضع هذه الفرامل باسم الحرية؟ وفى صياغة أخرى يمكن القول بأن هذا السؤال يعبر عن مفارقة الديمقراطية، أى التناقض بين المساواة والحرية. وهنا ثمة سؤال لابد أن يثار: هل مفارقة الديمقراطية تعنى أن الديمقراطية الليبرالية صادقة وكاذبة؟ الجواب عندى على الضد مما تذهب إليه موفى أو يذهب إليه الليبراليون. فالديمقراطية نشأت مع الدولة الحديثة. وهذه الدولة نشأت إثر انهيار العصور الوسطى التى كانت تتميز بتباهى السلطة الدينية المدعمة للنظام الإقطاعى بملكية الحقيقة المطلقة، ومن ثم انعدمت المساواة وانعدمت الحرية، ومن هنا يمكن القول بأن الدولة الحديثة ينبغى أن تكون خالية من مُلاك الحقيقة المطلقة. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تواكب نظرية كوبرنيكس كلا من الدولة الحديثة والديمقراطية الحديثة، ذلك أن هذه النظرية تقرر دوران الأرض حول الشمس، ومن شأن هذا الدوران أن تنتفى معه مركزية الأرض، وبالتالى تنتفى مركزية الانسان، و عندئذ لا يحق للانسان أن يكون مالكاً للحقيقة المطلقة. ومن هنا جاء تعريفى للعلمانية بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. ومن هنا أيضا جاء قولى بأنه لا ديمقراطية بلا علمانية باعتبار أن العلمانية هى أساس تأسيس الديمقراطية. وهى بدورها قد أفضت إلى نظرية العقد الاجتماعى المكون الثانى للديمقراطية وهى تعنى تأسيس المجتمع من غير تدخل من السلطة الدينية. وترتب على ذلك دخول التنوير مكوناً ثالثاً للديمقراطية وهو يعنى ألا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. وفى النهاية تأتى الليبرالية مكوناً رابعاً وهى تعنى أن سلطة الفرد فوق سلطة المجتمع، ومن هذه الزاوية فإن سلطة الفرد أو بالأدق حرية الفردهى القادرة على منع طغيان الأغلبية على حد تعبير الأب الروحى لليبرالية الفيلسوف الإنجليزى جون ستيوارت مِل (1806- 1873). ومن هنا يمكن القول بأن الفرد هو المحرك للتاريخ، عندما يكون على وعى بحركة التاريخ. لمزيد من مقالات مراد وهبة