«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراد وهبة: الأصولية أبعدت الفلسفة عن رجل الشارع فتخلف المجتمع
نشر في الشروق الجديد يوم 14 - 05 - 2010

يقول لنا إن الأصولية خطر داهم على الإنسانية، ثم نكتشف أنه يدعم الأصولية بقوة.. احذروا د.مراد وهبة، فهذا الرجل «أصولى»، وليس «مفكرا معتدلا» كما يتراءى لكم..ولكن مهلا، فأصولية مراد وهبة ليست دينية.
ولكنها «أصولية العقل»، فهو يرى أنه لا سلطان على العقل إلا العقل.. «أصولية فكرية» تقرر أن «العلمانية» بداية الطريق، وليست كل الطريق للتقدم، وأن الديمقراطية لا تتحقق إلا بأربعة مكونات أولها العلمانية ثم التسامح والتنوير، وأخيرا الليبرالية.
مراد وهبة «أصولى» إذا، لأنه يريد العودة إلى منجزات الحضارة الإنسانية. ولكنه نقيض الأصولية الدينية «السلفية» التى تقر هى نفسها بنسبها إلى ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب.
قلنا إن مراد وهبة ليس «مفكرا معتدلا»...
هو ليس «مفكرا»، لأنه فيلسوف وكفى. ولا يصح أن يكون «معتدلا» من يصدم الناس بشعارات ضد ما يؤمنون به ويعتقدون. انظر واقرأ ما يكتبه حول الأصولية الدينية وعلاقتها بالرأسمالية الطفيلية، أو عن ذهنية الإرهاب وجرثومة التخلف والتعصب.
احذروا مراد وهبة، ولا تنتقوا من أحاديثه ما يعجبكم أو يلائم هواكم. فالدكتور مراد، حاله حال «المتطرفين» جميعا، أبعد ما يكون عن الانتقائية. هو صاحب مشروع متكامل، ومن يعرف، ربما آن الأوان كما قال الكاتب بيار عقل عن أمثاله ومن هم على نفس الدرب لكى ينتقل مشروعه التنويرى من الهامش إلى الصدارة.
احذروا من مراد وهبة، فهذا الرجل «أخطر أستاذ جامعى»...يختلف معه كثيرون، خاصة أساتذة الفلسفة زملاءه.. يقولون إنه أخطر رجل، ولديه سوء نية فى نشر فكر ابن رشد، وعندما فصله الرئيس السادات من الجامعة قال عنه: إنه أخطر أستاذ فى الجامعات المصرية على النظام. ولكن أغرب ما قرأته أنه أفسد الفلسفة، لسبب واحد وهو نداؤه إلى تلاحم الفلسفة برجل الشارع!!
جلست إليه كثيرا، فأيقنت أنه لا يهتم بما يقال عنه، ولا أعرف لماذا أتذكر كلمات الفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشه (1844 1900) حين يأتى إلى ذهنى اسم الدكتور مراد وهبة.
كلمات نيتشه تقول: «إننى أعرف نصيبى، سوف يرتبط اسمى ذات يوم بشىء هائل مرعب، بأزمة لم تعرف الأرض نظيرا لها، بقرار حاسم ومضاد لكل ما آمن به الناس حتى الآن، ولكل ما تطلبوه وما قدّسوه.. سوف يرتبط ب«قلب جميع القيم». وهذه هى الصيغة التى وضعتها لفصل تعيشه البشرية فى أقصى درجات تأملها لذاتها. وهو الفصل الذى تحول فى كيانى إلى لحم وروح..»، فالدكتور مراد يذكرنى بنيتشه مع الاختلاف الزمانى والمكانى.
ولعل آراءه تتفق مع فكر نيتشه مع مراعاة الفروق بينهما والاتجاهات فى قلب جميع القيم المطلقة المتوارثة، ويعيد قراءتها مرة أخرى، ولا يتراجع عن إصدار حكم بوقفها وتغييرها بل ونصفها، وهذا سبب معاركه الفكرية التى تتحول لعداء شديد.
ما أعرفه أن مراد وهبة فيلسوف «استثنائى»، جاء وعاش بيننا ونحن لا نعلم قيمته حتى الآن!..
ذهبت إليه لسؤاله عما يحدث للواقع الثقافى المصرى من ملاحقة المثقفين قضائيا، ومصادرة للإبداع، وأشياء أخرى نحتاج إلى تعليقه عليها إلا أننى وجدت نفسى منجذبا إلى نقطة اتهامه بأنه أفسد الفلسفة، وفى إجابته عن هذا الاتهام نتعرف على أصل الداء.
وكيفية العلاج مما أصاب مجتمعنا المصرى من رجعية فكرية، وردة ثقافية تضطهد الإبداع، وتشيع المخاوف من الاجتهاد والتنوير..
ذبح الفلسفة
قيل عنك إنك تفسد الفلسفة، التى يتصورها البعض بأنها بعيدة عن رجل الشارع، وكأنها فى أبراج عاجية؟
الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بالتاريخ الفلسفى كله، لأن هناك علامة فاصلة فى تاريخها فيما يتصل بعلاقة الفلاسفة برجل الشارع. ولدى نموذجان فى هذا الشأن، الأول فيثاغورث فى القرن السادس قبل الميلاد، وسقراط فى القرن الرابع قبل الميلاد.
فيثاغورث عندما اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس، حذر تلاميذه من الإعلان عن هذه النظرية، وقال لهم إذا استمع رجل الشارع بنظرية دوران الأرض سينسفنا.. سيقتلنا، وبالفعل حدث هذا عندما عرف رجل الشارع بما يقوله فيثاغورث فحرق الدار التى كان يجتمع فيها مع أتباعه.
النموذج الثانى هو ما حدث لسقراط عندما صدر الحكم بإعدامه. وكانت تهمته الأولى أنه ينكر الإلهة، والثانية أنه يفسد عقول الشباب، وأثناء محاكمته خيروه بين أمرين: إما أن يكف ويمتنع عن محاورة رجل الشارع، أو يعدم. لكن سقراط أصر على التلاحم والتحاور فلسفيا مع رجل الشارع، فأعدم.
وقال سقراط فى عبارة ملهمة: «الفيلسوف يستطيع أن يعبر عن أفكاره كما يشاء، ولا يستطيع أن يمسه أحد، ولكن إذا عرفت الجماهير، فالسلطة لم ترحمه».
الفلاسفة اختاروا الابتعاد عن رجل الشارع وغلق الباب، أو التلاحم معه. ولكن بعد إعدام سقراط انتاب الذعر تلميذه المخلص أفلاطون، فهرب إلى أثينا وظل هاربا، وبعد 12 سنة عاد، وأنشأ مبنى وكتب عليه «أكاديميا»، ودخل هو وتلاميذه وأغلق الباب. وكتب على باب المدخل «لا يدخله إلا كل عالم بالهندسة».
لكى يأتمن خطر رجل الشارع، وظلت الفلسفة حبيسة أربعة جدران، والكتابة فيها معقدة وصعبة وحتى عملية النشر بعيدة عن رجل الشارع، لأنه لا يستطيع قراءتها. وتبحر الفلاسفة فى التعقيدات الفلسفية وهم مطمئنون إلى أنهم فى مأمن.
وعندما التفت لهذه الظاهرة، أى ابتعاد رجل الشارع عن التحاور مع الفلاسفة وجدت أن هذه الظاهرة شاذة. وفكرت فى عقد مؤتمر تحت عنوان «الفلسفة ورجل الشارع» نوفمبر 1983 وفى هذا المؤتمر دعوت كبار الفلاسفة الدوليين.
وفوجئت بالصحفى المعروف محمود فوزى يحضر المؤتمر ومعه رجل الشارع «رجل بطاطا»، فحاورته بأسلوب مبسط. فى البداية رفض الرجل الحوار بدعوى أن التغيير وهم «لأن المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين»، كما أن الدين يقول إن «المكتوب لازم ينفذ».
ومن أين جاء الاتهام بأنك تفسد الفلسفة؟
كانت أمنيتى أن تنفتح وسائل الإعلام على أعمال هذا المؤتمر، ولكن كان العكس، حيث كرست جريدة الأهرام مقالات لمهاجمة فكرة المؤتمر، وتبدت مخاوفها من بث قيم غريبة لرجل الشارع. وانتهت هذه المقالات بمقالة شهيرة للمفكر زكى نجيب محمود، موجزها أننى ذبحت الفلسفة فى هذا المؤتمر، ومن الخطر للفيلسوف أن يعرض نفسه لرجل الشارع.
ولماذا انزعج المثقفون من تلاحم رجل الشارع بالفلسفة؟
لقد حاولت الإجابة عن هذا السؤال، فانتهيت إلى إثارة سؤال آخر، وهو من لديه المصلحة فى إبعاد رجل الشارع عن التفكير والتفلسف؟!. وكانت إجابتى أن المصلحة العليا فى ذلك للتيار الأصولى سواء كان إسلاميا أو مسيحيا أو يهوديا.
لماذا؟
لأنك إذا أدخلت الفلسفة فى عقل رجل الشارع، فلن يقبل أن يخضع لقهر السلطة الدينية التى تريده خادما مطيعا لها. وأظن أن هذه الإجابة لها انعكاس على الوضع الراهن إذ إننى أرى أن الأصولية الدينية قد تحكمت فى الجماهير إلى الحد الذى تستطيع أن تصدر معه أى أمر وتتم الاستجابة له بفضل القنوات الفضائية، وما تبثه من فتاوى وأفكار متخلفة تستميل بها رجل الشارع. وأنت بعد ذلك ستلمس إذا كنت مستنيرا أن القراء قد انفضوا عنك، واتجهوا إلى الأصوليين، حيث يستمتعون معهم بالكسل العقلى، والاسترخاء الذهنى.
ولا جدوى بعد ذلك إذا ظهر وزير سواء وزير الاقتصاد أو المالية أو الاستثمار، ودعا إلى التنمية فلن يجد صدى.
ألف ليلة وليلة
توقف الدكتور مراد وهبة قليلا عن نقطة التنمية ورجل الشارع، وقال مشددا إنه ما يهمه فى هذه المسألة أن ننتبه إلى ضرورة تنوير الجماهير من خلال الإعلام، أى تكوين عقل عام مستنير، وضرورة مواجهة ما يسميه المحرمات الثقافية..
سألته ماذا تقصد بالمحرمات الثقافية؟
المحرمات الثقافية أوامر لا تقبل المناقشة على الإنسان أن ينصاع لها، وينفذها وممنوع منعا باتا لمسها بالعقل الناقد الذى يستطيع اكتشاف الأوهام الكامنة لهذه المحرمات الثقافية، وبالتالى يمتنع العقل المبدع.
المحرمات الثقافية قاتلة للإبداع. والدليل على اغتيال الإبداع هو ما حدث لكتاب «ألف ليلة وليلة»، والمطالبة بمصادرته أى يطالبون بمصادرة العقل.
وأيا كانت الحجج فى المصادرة فهى تعنى أمرا واحدا أن ثمة قيما راسخة ومتخلفة، وليس من حق أى مثقف أن ينسفها أو يناقشها، وبالتالى يتربى العقل المصرى على الرعب من نقد أى قيمة راسخة. معنى ذلك أنه حتى لو كسبنا القضية، وأفرج عن الكتاب المصادر ستظل الخسارة العظمى هو ما تسببه المصادرة من إحداث رعب لدى العقل المصرى، الأمر الذى يلزمه بعدم التفكير. وأخشى من كثرة هذه المصادرات أن يصبح المجتمع المصرى بلا عقل.
وعلى المثقفين أن يتشككوا فى الحقيقة المطلقة، وأن يدربوا الناس على سماع العلماء والفلاسفة حتى يسمح بتداول الفكر الحر. سقراط قال: «المفكر يفكر كما يتراءى له ولكن إذا بدأ تفكير المفكر فى التأثير فى الناس، فالسلطة تمنعه وتبدأ فى مراقبته». المهم تنوير الجماهير لدفع التطور الحضارى.
وأنا على وعى بمدى التخلف، وعندما تكون مهموما بمدى التخلف تصبح فى حالة هّم. والتخلف له علامات مميزة منها كثرة المحرمات الثقافية: ممنوع أن تفكر فى هذه المحرمات أو تنقدها. وكلما زادت المحرمات الثقافية ازداد التخلف فهناك علاقة عضوية بينهما.
لابد من الجرأة فى الاقتحام لهذه المحرمات الثقافية، فإذا تجرأ أحد يكون ثمة أمل فى إزالة التخلف. وأصبحت المحرمات الثقافية خطيرة حتى أنه ممنوع لمسها بالعقل، أو إعمال العقل فيها للكشف عن الوهم الكامن فى هذا المحرم.
ويبدو اقتحام المحرمات الثقافية واضحا عند الشيخ على عبدالرازق فى نقده وهم الخلافة، وعند طه حسين فى وهم قدسية التراث، وعند فرج فودة فى وهم إبعاد العلمانية وجعلها من المحرمات. أما نجيب محفوظ لديه مهارة إبداعية فى اقتحام المحرم الثقافى فى غفلة من القارئ.
الإبداع والسياسة.
لكن يا دكتور مراد هل الإبداع لابد أن يكون مطلقا بلا حدود؟
التفت إلى دكتور مراد وقال: أشتم من سؤالك أنك تريد أن تدخلنى فى دوامة سلبية. أولا: يجب أن نفهم ماذا يعنى الإبداع؟، لأن تعريف الإبداع يسهم فى الإجابة عن أسئلتك. الإبداع هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع. ويتميز هذا التعريف بوجود عنصرين، الأول هو تكوين علاقات جديدة، والثانى تغيير الواقع.
تعريفات الإبداع الشائعة تنص كلها على العلاقات الجديدة ولا تتحدث عن تغيير الواقع. وهنا أذكر حوار تم بينى وبين الفيلسوف الأمريكى تشومسكى حول تعريفه للإبداع فقال لى بانفعال «هذا ليس تعريفا علميا، وإنما هو تعريف سياسى، والعلم لا علاقة بالسياسة».
وكان ردى أن ثمة علاقة عضوية بين الإبداع والسياسة، ومن المحال الفصل بينهما. بدليل أن إبداع كوبرنيكوس، وهو الذى اكتشف علاقة جديدة بين الأرض والشمس. ما هى العلاقة الجديدة، وماذا كانت العلاقة القديمة. القديمة تقول إن الأرض مركزا للكون والشمس تدور حولها، والعلاقة الجديدة هى أن الأرض ليست مركزا للكون.
لكن هذا تغيير معرفى أم سياسى؟
تغيير معرفى وسياسى، والفصل بينهما وهم وفخ. لقد أكد أرسطو أن الإنسان حيوان عاقل، وقال أيضا إن الإنسان حيوان سياسى. وانتبه، فوفقا لنظرية كوبرنيكوس وفيثاغورث أن الإنسان لم يعد مركزا للكون، لأن الأرض لم تكن مركزا للكون.
وبالتالى ليس فى إمكانك أن تزعم أنك تملك الحقيقة المطلقة، فالتغيير هنا بالطبع تغيير معرفى، وهذا التغيير المعرفى سيحدث تغييرا فى المجتمع، وسيتلاشى المتخلفين وأصحاب الحقيقة المطلقة.
أما مسألة حدود الإبداع، فهذه قضية وهمية، لأن الحالة الإبداعية تجئ عندما يلمح المبدع أن هناك أزمة فى الوضع القائم مثلما هو حادث الآن. الأزمة أن الوضع القائم لم يعد صالحا لأن يكون قائما.
«طب هتغيره إزاى؟» هل بالمظاهرات، هل عن طريق سلالم نقابة الصحفيين أو المحامين. التغيير يأتى عن طريق الوضع القادم أى تكوين رؤية مستقبلية نحددها، وبالتالى نفرضها على الوضع الحاضر والماضى. ومن يقول بأن الإبداع ليس له حدود فهو واهم.
لماذا؟
لأننا لدينا عقلان وليس عقلا واحدا: عقل يفكر وآخر ينقد ما يفكر فيه. فأنت دائما تشتغل بعقلك، ثم يأتى عقلك الثانى وينقد ما فكر فيه العقل الأول. أى أن العقل ينعكس على نفسه ويصبح عقلين. وسيبقى العقل الثانى هو الضابط للعقل المفكر أو المبدع.
السلطة الثقافية
ذكرت أكثر من مرة لفظ الثقافة الجماهيرية المستنيرة، ماذا تقصد بهذا المصطلح؟
أرى أن السمة الأساسية للثورة العلمية والتكنولوجية، هى سمة «الجماهيرية» بحكم أن المصطلحات البازغة من هذه الثورة تحمل سمة الجماهيرية فنقول إنتاج جماهيرى ومجتمع جماهيرى ووسائل اتصال جماهيرية وثقافة جماهيرية وإنسان جماهيرى الذى هو «رجل الشارع».
وتأسيسا على ذلك كله انتهى إلى نتيجة، وهى لا تنمية بدون ثقافة جماهيرية مستنيرة. والاكتفاء بثقافة جماهيرية فقط مرعب، وهو الحادث الآن، حيث لدينا قصور عديدة تحمل عنوان «ثقافة جماهيرية». ولكنى أظن أنها بلا تأثير.
ولكى يكون لها تأثير إيجابى لابد أن تكون ثقافة جماهيرية مستنيرة، وأن يكون همنا هو كيف يمكن خلق عقل جماهيرى مستنير لدى الزائرين.
وهنا يحضرنى مشروع اليونسكو الذى تأسس فى عشر سنوات منذ أواخر الثمانينيات وأطلق عليه مشروع التنمية الثقافية، وقد تتبعت تنفيذه فى مصر فلم أجد أى صدى للتنوير فى هذا المشروع عندما طبق فى مصر، لأنه أظن أنه كان من اللازم أن يستمر إلى الآن، ولا يكتفى بعشر سنوات. وجاء الأوان لبحث مصطلح صككته، وهو مصطلح «السلطة الثقافية».
ماذا تقصد؟
نحن اعتدنا على الحديث عن ثلاث سلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويضاف إليها سلطة الصحافة، ولكنى أرغب فى إضافة سلطة خامسة هى «السلطة الثقافية» التى تأتى فى المقام الأول، وليس فى المقام الأخير، وإذا راجعنا إلى ما يحدث من تغيير فى المجتمعات سواء كان تغييرا جذريا أو تدريجيا فهو لم يتم إلا بالمثقفين والسلطة الثقافية.
كيف ذلك والمعروف أن التغيير يأتى من السلطة السياسية؟
هناك مثال صارخ على ما أقول. فى القرن الثالث عشر عندما رغب فردريك الثانى أن ينسف الحق الإلهى للحاكم فى تلاحمه مع النظام الإقطاعى، كانت السلطة الثقافية هى المحرك لهذا المطلوب، فقد أشار الفلاسفة وقتها على فرديك الثانى إلى ترجمة مؤلفات الفيلسوف الإسلامى العظيم ابن رشد. وقالت له السلطة الثقافية إن مؤلفات ابن رشد قادرة على إحداث هذا التغيير.
وحدث بالفعل ذلك عندما تأسس تيار قوى، وهو الراشدية اللاتينية والذى دخل فى صراع مع السلطة الدينية وأحدث التغيير المطلوب، فانتقلت أوروبا من النظام الإقطاعى إلى الرأسمالى، أو بالأدق من عقلية الريف إلى عقلية المدينة. وكل ذلك تم بالسلطة الثقافية. إذا لو أردت أن تعرف أن ثمة تغييرا ما فى منطقة ما، أبحث عن السلطة الثقافية.
لماذا يجب أن تكون الثقافة الجماهيرية «مستنيرة»؟
حدث فى القرن الثامن عشر أن الفيلسوف الألمانى العظيم «عمانوئيل كانط» الذى يعتبر نموذجا للتنوير، وله مقالة مشهورة «جواب عن سؤال: ما التنوير؟». ووضع كانط شعارا للتنوير، وهو «كن جريئا فى إعمال عقلك».
وأنا عبرت عن هذه العبارة بعبارة أخرى: «لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه». وأصدرت كتابا تحت هذه العنوان «سلطان العقل»، وأردت بهذا العنوان أن أشيع فى المناخ الثقافى المصرى مصطلحا جديدا، هو مصطلح سلطان العقل. وأردت أن أشيع أن سلطان العقل ليس للمثقفين وإنما يمتد إلى رجل الشارع، لماذا لأننى لمحت إشكالية عند كانط.
وإذا كانت الإشكالية تعنى أن ثمة تناقض، ما هو التناقض الذى وقعت فيه؟. التناقض عند كانط يقوم فى تقسيمه للعقل إلى عقل خاص وعقل عام. العقل الخاص يمكن أن يستنير، ويكتفى بذلك، ولا ينشغل بتنوير العقل العام. مات كانط وظل التناقض قائما بين العقل الخاص والعقل العام. وظللنا ندور فى فلك هذا التناقض بمعنى أوضح بين النخبة والجماهير.
والمثقفون عادة يتحدثون فيما بينهم عن النخبة، ولكنهم لا يتحدثون عن مدى تأثيرهم فى الجماهير بحيث مع الوقت وبفضل الثورة العلمية والتكنولوجيا تتلاشى هذه القسمة الثنائية بين النخبة والجماهير، ويصبح الكل نخبة أو الكل جماهير، فبفضل الثورة العلمية والتكنولوجية الحالية نستطيع خلق عقل جماهيرى متنور دون أن تعلمه القراءة والكتابة، وتصبح هنا مشروعات محو الأمية نوع من العبث.
وهل عقل الجماهير مواكبة لعقل الثورة العلمية والتكنولوجية؟
أظن أن الجواب بالسلب. والمسئول عن تحقيق هذه المواكبة السلطة الثقافية، وليست السلطة السياسية، كما يظن البعض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.