نشرة «المصري اليوم» من الإسكندرية: المحكمة توقف حبس فرج عامر لهذا السبب.. والبابا يصلي قداس أحد الشعانين بكنيسة رئيس الملائكة    الوفد ينظم محاضرة تحديات الأمن القومي في عالم متغير    بعد عامين من انطلاقه.. «محسب»: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم والتوافق بين أطياف المجتمع المصري    الصاوي يستقبل الفريق الزائر لضمان الجودة والاعتماد بكلية اُصول الدين والدعوة بالمنوفية    خيانة جديدة للسيسى ..امتيازات الإمارت ب"رأس الحكمة" تحولها لدولة داخل الدولة على حساب السيادة المصرية    المستندات المطلوبة لتقديم شكوى إلى جهاز حماية المستهلك    أون لاين.. خطوات إصدار بدل تالف أو فاقد لبطاقة تموين 2024    وزير السياحة السعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة على البحر الأحمر    إعلام إسرائيلي: متظاهرون يحتجون قرب منزل نتنياهو لمطالبته بالتنحي    رئيس الأركان الأوكراني: الوضع «تدهور» والجيش الروسي يحقّق «نجاحات تكتيكية» في أوكرانيا    اندلاع مظاهرات في تركيا لدعم طلاب الجامعات الأمريكية المؤيدين لفلسطين    الأونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين بغزة على لتر من الماء يوميًا    الرئيس عباس يطالب أمريكا بمنع إسرائيل من "اجتياح رفح" لتجنب كارثة إنسانية    الشيبي يلجأ إلى الشناوي ومعلول لتبرئته في قضية حسين الشحات    طريق الزمالك.. التشكيل الرسمي ل مباراة نهضة بركان ضد اتحاد الجزائر في الكونفدرالية    حفيظ دراجي يرد عبر «المصري اليوم» على أنباء رحيله عن «بي إن سبورتس»    "صفقة تبادلية مع برشلونة".. تقارير تكشف موقف بايرن ميونخ من رحيل نجم الفريق    بالصور.. محافظ الدقهلية يزور الفريق الأول لنادي المنصورة لتهنئته على الصعود    بهدف الاحتكار، ضبط 135 ألف عبوة سجائر مهربة في مخزن بالظاهر    غدا .. محاكمة 27 متهما بإنهاء حياة شخص بأسيوط    تحذيرات عاجلة لهذه الفئات من طقس الساعات المقبلة.. تجنبوا الخروج من المنزل    امتحانات الفصل الدراسي الثاني.. نصائح لطلاب الجامعات ل تنظيم وقت المذاكرة    زاهي حواس يكشف تكلفة حفل الزفاف الأسطوري في حضن الأهرامات    ملك أحمد زاهر تكشف كواليس مشاركتها في مسلسل "محارب".. فيديو    ثقافة الإسكندرية تقدم التجربة النوعية "كاسبر" على مسرح الأنفوشي    حكم ورث شقة إيجار قديم بالتحايل؟.. أمين الفتوى يوضح    دعاء راحة البال والطمأنينة قصير.. الحياة مع الذكر والقرآن نعمة كبيرة    شركة استرازينيكا: مبادرة 100 مليون صحة ساهمت في القضاء على فيروس سي    منها تناول السمك وشرب الشاي.. خطوات هامة للحفاظ على صحة القلب    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    بروتوكول بين إدارة البحوث بالقوات المسلحة و«التعليم العالي»    جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي بمحافظة الأقصر    "الرعاية الصحية" تشارك بورشة العمل التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية    فيلم «شقو» ل عمرو يوسف يتجاوز ال57 مليون جنيه في 19 يوما    إعلام عبري: 30 جنديًا بقوات الاحتياط يتمردون على أوامر الاستعداد لعملية رفح    رمضان عبد المعز: فوّض ربك في كل أمورك فأقداره وتدابيره خير    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    وزير بريطاني يقدر 450 ألف ضحية روسية في صراع أوكرانيا    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    رفض والدها زواجه من ابنته فقتله.. الإعدام شنقًا لميكانيكي في أسيوط    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    بصلي بالفاتحة وقل هو الله أحد فهل تقبل صلاتي؟..الإفتاء ترد    الليلة .. سامى مغاورى مع لميس الحديدى للحديث عن آخر أعماله الفنية فى رمضان    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية في قرية جبل الطير بسمالوط غدا    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    البوصلة    حسام البدري: أنا أفضل من موسيماني وفايلر.. وكيروش فشل مع مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراد وهبة: الأصولية أبعدت الفلسفة عن رجل الشارع فتخلف المجتمع
نشر في الشروق الجديد يوم 14 - 05 - 2010

يقول لنا إن الأصولية خطر داهم على الإنسانية، ثم نكتشف أنه يدعم الأصولية بقوة.. احذروا د.مراد وهبة، فهذا الرجل «أصولى»، وليس «مفكرا معتدلا» كما يتراءى لكم..ولكن مهلا، فأصولية مراد وهبة ليست دينية.
ولكنها «أصولية العقل»، فهو يرى أنه لا سلطان على العقل إلا العقل.. «أصولية فكرية» تقرر أن «العلمانية» بداية الطريق، وليست كل الطريق للتقدم، وأن الديمقراطية لا تتحقق إلا بأربعة مكونات أولها العلمانية ثم التسامح والتنوير، وأخيرا الليبرالية.
مراد وهبة «أصولى» إذا، لأنه يريد العودة إلى منجزات الحضارة الإنسانية. ولكنه نقيض الأصولية الدينية «السلفية» التى تقر هى نفسها بنسبها إلى ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب.
قلنا إن مراد وهبة ليس «مفكرا معتدلا»...
هو ليس «مفكرا»، لأنه فيلسوف وكفى. ولا يصح أن يكون «معتدلا» من يصدم الناس بشعارات ضد ما يؤمنون به ويعتقدون. انظر واقرأ ما يكتبه حول الأصولية الدينية وعلاقتها بالرأسمالية الطفيلية، أو عن ذهنية الإرهاب وجرثومة التخلف والتعصب.
احذروا مراد وهبة، ولا تنتقوا من أحاديثه ما يعجبكم أو يلائم هواكم. فالدكتور مراد، حاله حال «المتطرفين» جميعا، أبعد ما يكون عن الانتقائية. هو صاحب مشروع متكامل، ومن يعرف، ربما آن الأوان كما قال الكاتب بيار عقل عن أمثاله ومن هم على نفس الدرب لكى ينتقل مشروعه التنويرى من الهامش إلى الصدارة.
احذروا من مراد وهبة، فهذا الرجل «أخطر أستاذ جامعى»...يختلف معه كثيرون، خاصة أساتذة الفلسفة زملاءه.. يقولون إنه أخطر رجل، ولديه سوء نية فى نشر فكر ابن رشد، وعندما فصله الرئيس السادات من الجامعة قال عنه: إنه أخطر أستاذ فى الجامعات المصرية على النظام. ولكن أغرب ما قرأته أنه أفسد الفلسفة، لسبب واحد وهو نداؤه إلى تلاحم الفلسفة برجل الشارع!!
جلست إليه كثيرا، فأيقنت أنه لا يهتم بما يقال عنه، ولا أعرف لماذا أتذكر كلمات الفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشه (1844 1900) حين يأتى إلى ذهنى اسم الدكتور مراد وهبة.
كلمات نيتشه تقول: «إننى أعرف نصيبى، سوف يرتبط اسمى ذات يوم بشىء هائل مرعب، بأزمة لم تعرف الأرض نظيرا لها، بقرار حاسم ومضاد لكل ما آمن به الناس حتى الآن، ولكل ما تطلبوه وما قدّسوه.. سوف يرتبط ب«قلب جميع القيم». وهذه هى الصيغة التى وضعتها لفصل تعيشه البشرية فى أقصى درجات تأملها لذاتها. وهو الفصل الذى تحول فى كيانى إلى لحم وروح..»، فالدكتور مراد يذكرنى بنيتشه مع الاختلاف الزمانى والمكانى.
ولعل آراءه تتفق مع فكر نيتشه مع مراعاة الفروق بينهما والاتجاهات فى قلب جميع القيم المطلقة المتوارثة، ويعيد قراءتها مرة أخرى، ولا يتراجع عن إصدار حكم بوقفها وتغييرها بل ونصفها، وهذا سبب معاركه الفكرية التى تتحول لعداء شديد.
ما أعرفه أن مراد وهبة فيلسوف «استثنائى»، جاء وعاش بيننا ونحن لا نعلم قيمته حتى الآن!..
ذهبت إليه لسؤاله عما يحدث للواقع الثقافى المصرى من ملاحقة المثقفين قضائيا، ومصادرة للإبداع، وأشياء أخرى نحتاج إلى تعليقه عليها إلا أننى وجدت نفسى منجذبا إلى نقطة اتهامه بأنه أفسد الفلسفة، وفى إجابته عن هذا الاتهام نتعرف على أصل الداء.
وكيفية العلاج مما أصاب مجتمعنا المصرى من رجعية فكرية، وردة ثقافية تضطهد الإبداع، وتشيع المخاوف من الاجتهاد والتنوير..
ذبح الفلسفة
قيل عنك إنك تفسد الفلسفة، التى يتصورها البعض بأنها بعيدة عن رجل الشارع، وكأنها فى أبراج عاجية؟
الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بالتاريخ الفلسفى كله، لأن هناك علامة فاصلة فى تاريخها فيما يتصل بعلاقة الفلاسفة برجل الشارع. ولدى نموذجان فى هذا الشأن، الأول فيثاغورث فى القرن السادس قبل الميلاد، وسقراط فى القرن الرابع قبل الميلاد.
فيثاغورث عندما اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس، حذر تلاميذه من الإعلان عن هذه النظرية، وقال لهم إذا استمع رجل الشارع بنظرية دوران الأرض سينسفنا.. سيقتلنا، وبالفعل حدث هذا عندما عرف رجل الشارع بما يقوله فيثاغورث فحرق الدار التى كان يجتمع فيها مع أتباعه.
النموذج الثانى هو ما حدث لسقراط عندما صدر الحكم بإعدامه. وكانت تهمته الأولى أنه ينكر الإلهة، والثانية أنه يفسد عقول الشباب، وأثناء محاكمته خيروه بين أمرين: إما أن يكف ويمتنع عن محاورة رجل الشارع، أو يعدم. لكن سقراط أصر على التلاحم والتحاور فلسفيا مع رجل الشارع، فأعدم.
وقال سقراط فى عبارة ملهمة: «الفيلسوف يستطيع أن يعبر عن أفكاره كما يشاء، ولا يستطيع أن يمسه أحد، ولكن إذا عرفت الجماهير، فالسلطة لم ترحمه».
الفلاسفة اختاروا الابتعاد عن رجل الشارع وغلق الباب، أو التلاحم معه. ولكن بعد إعدام سقراط انتاب الذعر تلميذه المخلص أفلاطون، فهرب إلى أثينا وظل هاربا، وبعد 12 سنة عاد، وأنشأ مبنى وكتب عليه «أكاديميا»، ودخل هو وتلاميذه وأغلق الباب. وكتب على باب المدخل «لا يدخله إلا كل عالم بالهندسة».
لكى يأتمن خطر رجل الشارع، وظلت الفلسفة حبيسة أربعة جدران، والكتابة فيها معقدة وصعبة وحتى عملية النشر بعيدة عن رجل الشارع، لأنه لا يستطيع قراءتها. وتبحر الفلاسفة فى التعقيدات الفلسفية وهم مطمئنون إلى أنهم فى مأمن.
وعندما التفت لهذه الظاهرة، أى ابتعاد رجل الشارع عن التحاور مع الفلاسفة وجدت أن هذه الظاهرة شاذة. وفكرت فى عقد مؤتمر تحت عنوان «الفلسفة ورجل الشارع» نوفمبر 1983 وفى هذا المؤتمر دعوت كبار الفلاسفة الدوليين.
وفوجئت بالصحفى المعروف محمود فوزى يحضر المؤتمر ومعه رجل الشارع «رجل بطاطا»، فحاورته بأسلوب مبسط. فى البداية رفض الرجل الحوار بدعوى أن التغيير وهم «لأن المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين»، كما أن الدين يقول إن «المكتوب لازم ينفذ».
ومن أين جاء الاتهام بأنك تفسد الفلسفة؟
كانت أمنيتى أن تنفتح وسائل الإعلام على أعمال هذا المؤتمر، ولكن كان العكس، حيث كرست جريدة الأهرام مقالات لمهاجمة فكرة المؤتمر، وتبدت مخاوفها من بث قيم غريبة لرجل الشارع. وانتهت هذه المقالات بمقالة شهيرة للمفكر زكى نجيب محمود، موجزها أننى ذبحت الفلسفة فى هذا المؤتمر، ومن الخطر للفيلسوف أن يعرض نفسه لرجل الشارع.
ولماذا انزعج المثقفون من تلاحم رجل الشارع بالفلسفة؟
لقد حاولت الإجابة عن هذا السؤال، فانتهيت إلى إثارة سؤال آخر، وهو من لديه المصلحة فى إبعاد رجل الشارع عن التفكير والتفلسف؟!. وكانت إجابتى أن المصلحة العليا فى ذلك للتيار الأصولى سواء كان إسلاميا أو مسيحيا أو يهوديا.
لماذا؟
لأنك إذا أدخلت الفلسفة فى عقل رجل الشارع، فلن يقبل أن يخضع لقهر السلطة الدينية التى تريده خادما مطيعا لها. وأظن أن هذه الإجابة لها انعكاس على الوضع الراهن إذ إننى أرى أن الأصولية الدينية قد تحكمت فى الجماهير إلى الحد الذى تستطيع أن تصدر معه أى أمر وتتم الاستجابة له بفضل القنوات الفضائية، وما تبثه من فتاوى وأفكار متخلفة تستميل بها رجل الشارع. وأنت بعد ذلك ستلمس إذا كنت مستنيرا أن القراء قد انفضوا عنك، واتجهوا إلى الأصوليين، حيث يستمتعون معهم بالكسل العقلى، والاسترخاء الذهنى.
ولا جدوى بعد ذلك إذا ظهر وزير سواء وزير الاقتصاد أو المالية أو الاستثمار، ودعا إلى التنمية فلن يجد صدى.
ألف ليلة وليلة
توقف الدكتور مراد وهبة قليلا عن نقطة التنمية ورجل الشارع، وقال مشددا إنه ما يهمه فى هذه المسألة أن ننتبه إلى ضرورة تنوير الجماهير من خلال الإعلام، أى تكوين عقل عام مستنير، وضرورة مواجهة ما يسميه المحرمات الثقافية..
سألته ماذا تقصد بالمحرمات الثقافية؟
المحرمات الثقافية أوامر لا تقبل المناقشة على الإنسان أن ينصاع لها، وينفذها وممنوع منعا باتا لمسها بالعقل الناقد الذى يستطيع اكتشاف الأوهام الكامنة لهذه المحرمات الثقافية، وبالتالى يمتنع العقل المبدع.
المحرمات الثقافية قاتلة للإبداع. والدليل على اغتيال الإبداع هو ما حدث لكتاب «ألف ليلة وليلة»، والمطالبة بمصادرته أى يطالبون بمصادرة العقل.
وأيا كانت الحجج فى المصادرة فهى تعنى أمرا واحدا أن ثمة قيما راسخة ومتخلفة، وليس من حق أى مثقف أن ينسفها أو يناقشها، وبالتالى يتربى العقل المصرى على الرعب من نقد أى قيمة راسخة. معنى ذلك أنه حتى لو كسبنا القضية، وأفرج عن الكتاب المصادر ستظل الخسارة العظمى هو ما تسببه المصادرة من إحداث رعب لدى العقل المصرى، الأمر الذى يلزمه بعدم التفكير. وأخشى من كثرة هذه المصادرات أن يصبح المجتمع المصرى بلا عقل.
وعلى المثقفين أن يتشككوا فى الحقيقة المطلقة، وأن يدربوا الناس على سماع العلماء والفلاسفة حتى يسمح بتداول الفكر الحر. سقراط قال: «المفكر يفكر كما يتراءى له ولكن إذا بدأ تفكير المفكر فى التأثير فى الناس، فالسلطة تمنعه وتبدأ فى مراقبته». المهم تنوير الجماهير لدفع التطور الحضارى.
وأنا على وعى بمدى التخلف، وعندما تكون مهموما بمدى التخلف تصبح فى حالة هّم. والتخلف له علامات مميزة منها كثرة المحرمات الثقافية: ممنوع أن تفكر فى هذه المحرمات أو تنقدها. وكلما زادت المحرمات الثقافية ازداد التخلف فهناك علاقة عضوية بينهما.
لابد من الجرأة فى الاقتحام لهذه المحرمات الثقافية، فإذا تجرأ أحد يكون ثمة أمل فى إزالة التخلف. وأصبحت المحرمات الثقافية خطيرة حتى أنه ممنوع لمسها بالعقل، أو إعمال العقل فيها للكشف عن الوهم الكامن فى هذا المحرم.
ويبدو اقتحام المحرمات الثقافية واضحا عند الشيخ على عبدالرازق فى نقده وهم الخلافة، وعند طه حسين فى وهم قدسية التراث، وعند فرج فودة فى وهم إبعاد العلمانية وجعلها من المحرمات. أما نجيب محفوظ لديه مهارة إبداعية فى اقتحام المحرم الثقافى فى غفلة من القارئ.
الإبداع والسياسة.
لكن يا دكتور مراد هل الإبداع لابد أن يكون مطلقا بلا حدود؟
التفت إلى دكتور مراد وقال: أشتم من سؤالك أنك تريد أن تدخلنى فى دوامة سلبية. أولا: يجب أن نفهم ماذا يعنى الإبداع؟، لأن تعريف الإبداع يسهم فى الإجابة عن أسئلتك. الإبداع هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع. ويتميز هذا التعريف بوجود عنصرين، الأول هو تكوين علاقات جديدة، والثانى تغيير الواقع.
تعريفات الإبداع الشائعة تنص كلها على العلاقات الجديدة ولا تتحدث عن تغيير الواقع. وهنا أذكر حوار تم بينى وبين الفيلسوف الأمريكى تشومسكى حول تعريفه للإبداع فقال لى بانفعال «هذا ليس تعريفا علميا، وإنما هو تعريف سياسى، والعلم لا علاقة بالسياسة».
وكان ردى أن ثمة علاقة عضوية بين الإبداع والسياسة، ومن المحال الفصل بينهما. بدليل أن إبداع كوبرنيكوس، وهو الذى اكتشف علاقة جديدة بين الأرض والشمس. ما هى العلاقة الجديدة، وماذا كانت العلاقة القديمة. القديمة تقول إن الأرض مركزا للكون والشمس تدور حولها، والعلاقة الجديدة هى أن الأرض ليست مركزا للكون.
لكن هذا تغيير معرفى أم سياسى؟
تغيير معرفى وسياسى، والفصل بينهما وهم وفخ. لقد أكد أرسطو أن الإنسان حيوان عاقل، وقال أيضا إن الإنسان حيوان سياسى. وانتبه، فوفقا لنظرية كوبرنيكوس وفيثاغورث أن الإنسان لم يعد مركزا للكون، لأن الأرض لم تكن مركزا للكون.
وبالتالى ليس فى إمكانك أن تزعم أنك تملك الحقيقة المطلقة، فالتغيير هنا بالطبع تغيير معرفى، وهذا التغيير المعرفى سيحدث تغييرا فى المجتمع، وسيتلاشى المتخلفين وأصحاب الحقيقة المطلقة.
أما مسألة حدود الإبداع، فهذه قضية وهمية، لأن الحالة الإبداعية تجئ عندما يلمح المبدع أن هناك أزمة فى الوضع القائم مثلما هو حادث الآن. الأزمة أن الوضع القائم لم يعد صالحا لأن يكون قائما.
«طب هتغيره إزاى؟» هل بالمظاهرات، هل عن طريق سلالم نقابة الصحفيين أو المحامين. التغيير يأتى عن طريق الوضع القادم أى تكوين رؤية مستقبلية نحددها، وبالتالى نفرضها على الوضع الحاضر والماضى. ومن يقول بأن الإبداع ليس له حدود فهو واهم.
لماذا؟
لأننا لدينا عقلان وليس عقلا واحدا: عقل يفكر وآخر ينقد ما يفكر فيه. فأنت دائما تشتغل بعقلك، ثم يأتى عقلك الثانى وينقد ما فكر فيه العقل الأول. أى أن العقل ينعكس على نفسه ويصبح عقلين. وسيبقى العقل الثانى هو الضابط للعقل المفكر أو المبدع.
السلطة الثقافية
ذكرت أكثر من مرة لفظ الثقافة الجماهيرية المستنيرة، ماذا تقصد بهذا المصطلح؟
أرى أن السمة الأساسية للثورة العلمية والتكنولوجية، هى سمة «الجماهيرية» بحكم أن المصطلحات البازغة من هذه الثورة تحمل سمة الجماهيرية فنقول إنتاج جماهيرى ومجتمع جماهيرى ووسائل اتصال جماهيرية وثقافة جماهيرية وإنسان جماهيرى الذى هو «رجل الشارع».
وتأسيسا على ذلك كله انتهى إلى نتيجة، وهى لا تنمية بدون ثقافة جماهيرية مستنيرة. والاكتفاء بثقافة جماهيرية فقط مرعب، وهو الحادث الآن، حيث لدينا قصور عديدة تحمل عنوان «ثقافة جماهيرية». ولكنى أظن أنها بلا تأثير.
ولكى يكون لها تأثير إيجابى لابد أن تكون ثقافة جماهيرية مستنيرة، وأن يكون همنا هو كيف يمكن خلق عقل جماهيرى مستنير لدى الزائرين.
وهنا يحضرنى مشروع اليونسكو الذى تأسس فى عشر سنوات منذ أواخر الثمانينيات وأطلق عليه مشروع التنمية الثقافية، وقد تتبعت تنفيذه فى مصر فلم أجد أى صدى للتنوير فى هذا المشروع عندما طبق فى مصر، لأنه أظن أنه كان من اللازم أن يستمر إلى الآن، ولا يكتفى بعشر سنوات. وجاء الأوان لبحث مصطلح صككته، وهو مصطلح «السلطة الثقافية».
ماذا تقصد؟
نحن اعتدنا على الحديث عن ثلاث سلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويضاف إليها سلطة الصحافة، ولكنى أرغب فى إضافة سلطة خامسة هى «السلطة الثقافية» التى تأتى فى المقام الأول، وليس فى المقام الأخير، وإذا راجعنا إلى ما يحدث من تغيير فى المجتمعات سواء كان تغييرا جذريا أو تدريجيا فهو لم يتم إلا بالمثقفين والسلطة الثقافية.
كيف ذلك والمعروف أن التغيير يأتى من السلطة السياسية؟
هناك مثال صارخ على ما أقول. فى القرن الثالث عشر عندما رغب فردريك الثانى أن ينسف الحق الإلهى للحاكم فى تلاحمه مع النظام الإقطاعى، كانت السلطة الثقافية هى المحرك لهذا المطلوب، فقد أشار الفلاسفة وقتها على فرديك الثانى إلى ترجمة مؤلفات الفيلسوف الإسلامى العظيم ابن رشد. وقالت له السلطة الثقافية إن مؤلفات ابن رشد قادرة على إحداث هذا التغيير.
وحدث بالفعل ذلك عندما تأسس تيار قوى، وهو الراشدية اللاتينية والذى دخل فى صراع مع السلطة الدينية وأحدث التغيير المطلوب، فانتقلت أوروبا من النظام الإقطاعى إلى الرأسمالى، أو بالأدق من عقلية الريف إلى عقلية المدينة. وكل ذلك تم بالسلطة الثقافية. إذا لو أردت أن تعرف أن ثمة تغييرا ما فى منطقة ما، أبحث عن السلطة الثقافية.
لماذا يجب أن تكون الثقافة الجماهيرية «مستنيرة»؟
حدث فى القرن الثامن عشر أن الفيلسوف الألمانى العظيم «عمانوئيل كانط» الذى يعتبر نموذجا للتنوير، وله مقالة مشهورة «جواب عن سؤال: ما التنوير؟». ووضع كانط شعارا للتنوير، وهو «كن جريئا فى إعمال عقلك».
وأنا عبرت عن هذه العبارة بعبارة أخرى: «لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه». وأصدرت كتابا تحت هذه العنوان «سلطان العقل»، وأردت بهذا العنوان أن أشيع فى المناخ الثقافى المصرى مصطلحا جديدا، هو مصطلح سلطان العقل. وأردت أن أشيع أن سلطان العقل ليس للمثقفين وإنما يمتد إلى رجل الشارع، لماذا لأننى لمحت إشكالية عند كانط.
وإذا كانت الإشكالية تعنى أن ثمة تناقض، ما هو التناقض الذى وقعت فيه؟. التناقض عند كانط يقوم فى تقسيمه للعقل إلى عقل خاص وعقل عام. العقل الخاص يمكن أن يستنير، ويكتفى بذلك، ولا ينشغل بتنوير العقل العام. مات كانط وظل التناقض قائما بين العقل الخاص والعقل العام. وظللنا ندور فى فلك هذا التناقض بمعنى أوضح بين النخبة والجماهير.
والمثقفون عادة يتحدثون فيما بينهم عن النخبة، ولكنهم لا يتحدثون عن مدى تأثيرهم فى الجماهير بحيث مع الوقت وبفضل الثورة العلمية والتكنولوجيا تتلاشى هذه القسمة الثنائية بين النخبة والجماهير، ويصبح الكل نخبة أو الكل جماهير، فبفضل الثورة العلمية والتكنولوجية الحالية نستطيع خلق عقل جماهيرى متنور دون أن تعلمه القراءة والكتابة، وتصبح هنا مشروعات محو الأمية نوع من العبث.
وهل عقل الجماهير مواكبة لعقل الثورة العلمية والتكنولوجية؟
أظن أن الجواب بالسلب. والمسئول عن تحقيق هذه المواكبة السلطة الثقافية، وليست السلطة السياسية، كما يظن البعض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.