الرأي عندي أنه لا ثورة بلا فلاسفة. ولا أدل علي صحة هذا الرأي مما ورد في كتاب صدر في عام2001 عنوانه الرئيسي التنوير الراديكالي وعنوانه الفرعي الفلسفة وصناعة الحداثة ومؤلفه اسمه جوناثان اسرائيل أستاذ التاريخ بجامعة برنستون. والكتاب يقع في ثمانمائة صفحة من القطع الكبير. وفي العنوانين ثمة لفظاين في حاجة إلي بيان: الراديكالي والحداثة. الراديكالي هو الباحث في العمق أو بالأدق هو الباحث عن جذور المسائل من أجل هز ما هو ساكن. والحداثة تقال علي الضد من عصر تجاوزناه, فيقال عن عصر النهضة في أوروبا إنه عصر الحداثة في مواجهة العصور الوسطي, ويقال علي عصر التنوير إنه عصر الحداثة في مواجهة عصر ملاك الحقيقة المطلقة في القرن الثامن عشر. أما مؤلف الكتاب فهو يحدد الحداثة في فترة زمانية محددة وهي الفترة من عام1650 إلي عام1750, وهي الفترة التي دعا فيها الفلاسفة إلي التحرر من التراث تمهيدا لتأسيس التنوير الراديكالي. والسؤال اذن: أين نشأ ذلك التنوير الراديكالي؟ قيل أولا إنه نشأ في انجلترا عند لوك ونيوتن. وقيل ثانيا إنه نشأ في هولندا عند سبنوزا. وقيل ثالثا إنه نشأ في فرنسا عند مونتسكيو وفولتير وديدروودالامبيير وروسو. وقيل رابعا إنه نشأ في ألمانيا عند كانط. وقيل أخيرا إنه تيار أوروبي لا يختص به بلد دون آخر إلا أن صانع هذا التيار برمته, في رأي المؤلف, هو سبنوزا الذي كان يقيم في لاهاي في شقة متواضعة يمارس فيها صناعة صقل زجاجات النظارات ليعيش, ويهرع إليها الهولنديون لإلقاء نظرة عليها احتفالا بالذكري السنوية لوفاته, مع أنه كان مضطهدا ومكفرا في زمانه من قبل السلطتين اليهودية والمسيحية. والسؤال اذن: لماذا كان مضطهدا ومكفرا؟ ونجيب بسؤال: هل سبنوزا هو الفيلسوف الوحيد الذي كان كذلك؟ جواب جوناثان اسرائيل بالسلب, إذ كان معه فيلسوفان أحدهما إنجليزي اسمه بيكون والآخر فرنسي اسمه ديكارت. والسؤال بعد ذلك: ماذا فعل الثلاثة؟ جواب جوناثان اسرائيل أن الثلاثة أحدثوا صدمة فكرية للسلطة الدينية عندما أخضعوا التراث لمحكمة العقل الفلسفي علي ضوء ما حدث من ثورة علمية كان قد فجرها كل من كوبرنيكس في نظريته عن دوران الأرض حول الشمس,وجليليوفي اكتشافه للنتائج العلمية المترتبة علي تلك النظرية. ومع ذلك فقد تواري كل من لوك وديكارت ولم يبق سوي سبنوزا ممهدا للثورة الفرنسية. والسؤال اذن: لماذا بقي سبنوزا وحده؟ لأنه, في رأي المؤلف, قد أحدث تغييرا جذريافي مفهوم الله لم يحدثه كل من لوك وديكارت. فالله, عند ديكارت, كان حرا في أن يخلق العالم أو لا يخلقه, وكان حرا أيضا في خلق الحقائق العلمية, إذ كان في إمكانه أن يقول لنا بأن تكون مجموع زوايا المثلث قائمتين أو لا تكون. هذا عن ديكارت فماذا عن لوك؟ لم يحدث لوك تغييرا في مفهوم الله إنما أحدث تغييرا في مفهوم المجتمع, إذفي رأيه إن أي نظام اجتماعي إنما يستند في أصله إلي عقد اجتماعي معتمد من جماعة بشرية لتأسيس مجتمع يكون من صنع العقل وليس من صنع سلطة الهية, ومن ثم فان نظرية الحق الإلهي للحاكم هي نظرية زائفة وهي من اختراع اللاهوتيين ليصوروا الحاكم وكأنه يحيا في عالم مجاوز للطبيعة. أما سبنوزا فقد أحدث تغييرا جذريا في مفهوم الله, إذ لم يعد مفارقا للطبيعة بل مرادفا لها. فالله هو خالق الكل وهو في الوقت نفسه مخلوق من حيث إنه هو هذا الكل. وحريته مرادفة للضرورة وبالتالي فانه لا يستطيع أن يريد غير ما أراد, ومن ثم ينتفي القول بالمعجزات كما ينتفي القول بالعناية الالهية, وبذلك يكون سبنوزا قد أزاح علماء اللاهوت من المسرح السياسي, كما أزاح مصطلح ما فوق الطبيعة من المسرح الديني,وبذلك أيضا خرجت الكنيسة من صلب النظام الاجتماعي. وهنا يكمن تأثير سبنوزا علي فلاسفة التنوير الفرنسيين الممهدين للثورة الفرنسية. عندما تنتهي من قراءة الكتاب فانك تلمس تغلغل فكر سبنوزافي جميع فصوله, بل إن ثمة أربعة فصول مخصصة لسبنوزا, وأن المؤلف قد انتهي من ذلك كله إلي أن سبنوزا يكاد يكون هو الفيلسوف المفجر للثورات الثلاث: الانجليزية والفرنسية والأمريكية. وإذا كان ذلك كذلك فهل معني ذلك أن عنوان هذا المقال صحيح؟ وإذا كان صحيحا فهل ثورات الربيع العربي- مثلها مثل الثورات الأخري, لها فيلسوف؟. لمزيد من مقالات مراد وهبة