ثمة إشكاليات تبقى مع الزمن دون أن تزول، وثمة إشكاليات تتوارى مع الزمن ثم تزول. وإشكالية جاليليو من النوع الأول، إذ هى نشأت فى القرن السادس عشر وظلت باقية حتى هذا القرن: والسؤال اذن: كيف؟ ولماذا؟ أستعين فى الاجابة عن هذا السؤال بكتاب صدر فى عام 2007 لمفكر بريطانى اسمه مايكل وايت وعنوان كتابه " جاليليو". وجاليليو من علماء الفلك الايطاليين ولكنه مشهور بتأييده لنظرية دوران الأرض حول الشمس التى كان قد دعا إليها العالم الفلكى البولندى كوبرنيكس فى كتابه المعنون عن " دوران الأفلاك" (1543). وكان المجمع المقدس قد أصدر حكماً بأن هذه النظرية منافية لنظرية بطليموس الاسكندرى القائلة بثبات الأرض ودوران الشمس حولها، والتى كانت مؤيدة من السلطات الكاثوليكية وأتباع أرسطو. وبذلك أصبح جاليليو منشقاً عن هذه السلطات فاتهمته بالهرطقة وحاكمته دينياً فى 13 فبراير 1633. ومع ذلك فإنه يعتبر من سلالة عصر النهضة الذى تميز بإحداث ثورة ثقافية فى مجال الفن. وقد تمركزت هذه الثورة فى مدينة فلورنسا بايطاليا حيث كان للنبلاء شهوة التعلم كما كان لديهم المال فأرسلوا وفوداً عديدة إلى المكتبات المتهالكة وإلى الأديرة القديمة للبحث عن المخطوطات واحضارها لترجمتها، وقد كان. ومع ذلك ظلت السلطة الكنسية الأصولية معارضة لكل ما حدث من تقدم مما دفع الراهب الكاثوليكى لوثر إلى أن ينشق عن الكنيسة بعد أن علق على باب كنيسة فيتنبرج لافتة مكتوباً عليها خمسة وتسعين اعتراضاً، إلا أن البابا ليون العاشر قد وقف ضدها ودعا الجمعية العامة للانعقاد برئاسة الامبراطور الرومانى وحضر لوثر وواصل هجومه على الكنيسة ثم اختفي. وقيل فى حينها إن لوثر ابتدع ديناً جديداً أطلق عليه اسم " البروتستانتية"، أى المحتجة. ومع ذلك ظلت الكنيسة الكاثوليكية متماسكة بفضل فيلسوفها توما الأكوينى الذى مازال حتى الآن هو كذلك تحت اسم التوماوية الجديدة. .. والجدير بالتنويه هنا أن توما الأكوينى بإشارة من البابا فى عام 1256 دخل فى صراع مع رواد الرشدية اللاتينية، والجدير بالتنويه أيضاً أن الكنيسة الكاثوليكية مازالت حريصة على عدم الافراج عما تبقى من أبحاث جاليليو. وهنا تكمن إشكالية جاليليو فى القرن الحادى والعشرين. وأظن أن هذا هو السبب الذى دفع البابا يوحنا بولس الثانى فى عام 1981 إلى تكوين لجنة سماها " لجنة جاليليو" من أجل إعادة النظر فى مسألته. وقد انتهت إلى القول إن جاليليو كان على حق . وبعدها أعلن البابا بأنه ابتداء من عصر التنوير حتى الآن كان جاليليو رمزاً على رفض الكنيسة للتقدم العلمى بسبب دوجماطيقيتها التى تمنع البحث الحر عن الحقيقة، وبالتالى تؤدى إلى إحداث تناقض بين العلم والعقيدة المسيحية. ثم استطرد قائلاً إن اللجنة قد حددت ثلاث نقاط جديرة بالتنويه وهى على النحو الآتي: يبدو أن جاليليو لم يفهم أن نظرية كوبرنيكس كانت مجرد فرض ولم تكن حقيقة مطلقة، ولم يكن لديه برهان للتدليل على صحة القول إن الشمس هى المركز وليست الأرض. لم يفهم اللاهوتيون فى زمن جاليليو طبيعة الانجيل.أما وقد ثبتت صحة نظرية كوبرنيكس بالبراهين فإن الكنيسة أصبحت ملتزمة بالموافقة عليها والاقرار بأنها قد أخطأت فى إدانتها.وأظن أن هذه النقاط الثلاث تنطوى على فكرتين أساسيتين وهما التأويل والادانة. ومن هنا ثمة أسئلة ثلاثة لابد من إثارتها: ما هو الفهم اللاهوتى فى زمن جاليليو؟ وما مدى مشروعية الادانة؟ وما العلاقة بين العلم والدين والمجتمع؟ عن السؤال الأول أجيب بأنه فى زمن جاليليو لم يكن مفهوم التأويل وارداً لدى الكنيسة الكاثوليكية لأنها كانت ملتزمة بحرفية النص الديني، وكان هذا الالتزام سبباً فى منعها من البحث عن المعنى الباطن للنص الدينى وهو متعدد بحكم تعدد التأويلات التى هى عبارة عن اجتهادات بشرية هى نسبية بحكم بشريتها. وعن السؤال الثانى أجيب بسؤال : ما الدين؟ والرأى عندى أن للدين ثلاثة معانٍ: الدين بمعنى الايمان برسالة من غير إعمال العقل ولكن بتصديق القلب. والدين بمعنى العقيدة عندما نُعمل العقل فى النصوص الدينية وتنتهى إلى تحديد بنود الايمان. وهذا هو دور علماء العقيدة فى أى دين من الأديان سواء كان ديناً سماوياً أو أرضياً. والدين بمعنى عقيدة يلزم تطبيقها واقعياً بحيث يُتهم مَنْ يخرج عليها بالكفر فى الحد الأدنى وبقتله فى الحد الأقصى . وفى سياق هذه المعانى الثلاثة يمكن القول إن الصدام بين الدين والعلم وارد بالضرورة فى المعنى الثاني، أما الصراع بين الدين والمجتمع فوارد فى المعنى الثالث، وهو المعنى الذى تلتزم به الأصوليات أيا كانت سمتها الدينية.وعن السؤال الثالث أجيب بعبارة أقتبسها من البابا فرنسيس فى كتابه " اسم الله الرحمة" الصادر فى بداية عام 2016 والتى قالها عندما سئل عن رأيه فى المثليين: مَنْ أنا حتى أُدين لمزيد من مقالات مراد وهبة