إلي عهد قريب لم يكن مجال الفلسفة المسيحية يلقي عناية تذكر في العالم العربي.. وفي العالم الغربي لم يتجاوز الاهتمام بهذه الفلسفة حدود الدراسة الأكاديمية الضيقة في جامعاته وذلك لأسباب تاريخية معروفة لا داعي للخوض فيها، تتمحور حول قناعته -أي الغرب- إلي وقت قريب بأن الدين كان سبب جمود في عصر النهضة.. أما في العالم الإسلامي فكانت مصر وهي رائدة للتنوير أول دولة تدرس فيها الفلسفة المسيحية في العصور الوسطي الغربية باعتبارها جزءًا من تاريخ الفلسفة الغربية، وكأن مصر لم تكن في عصر من العصور دولة مسيحية وكأنها لم تنتج فكرا دينيا فلسفيا في ذلك الحين.. وقد خطت مصر هذه الخطوة منذ افتتاح أول جامعة عربية فيها حملت اسم جامعة فؤاد الأول عام 1925. بهذه الكلمات بدأت الدكتورة زينب الخضيري تصديرها لكتاب تجديد الفكر اللاهوتي الفلسفي بين القديس توما الأكويني والأب متي المسكين الذي كان رسالة دكتوراة للدكتورة عايدة نصيف أيوب.. وأحسنت فعلا بإصدارها في كتاب يقع في 340 صفحة من الحجم الكبير يحتوي علي أربعة فصول.. جاء الفصل الأول بعنوان توما الأكويني والأب متي المسكين اللحظة التاريخية وموقف التجديد والمنهج والثاني التبرير والخلاص بين توما الأكويني والأب متي والثالث الفضائل المسيحية عندهما والرابع علاقة السياسة بالأخلاق بين توما والأب متي. وفي مقدمتها للكتاب قالت الدكتورة عايدة: تناولت هذه الدراسة مفكرين مسيحيين مختلفين مذهبيا وحضاريا وزمنيا.. الأول: هو توما الأكويني الكاثوليكي مؤسس الاتجاه الإحيائي بواسطة الأرسطية والمشائية العربية في الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط.. والثاني: هو العالم والراهب والمصلح والمفكر اللاهوتي الأرثوذكسي الأب متي المسكين صاحب الاتجاه اللاهوتي الإحيائي في العالم العربي المعاصر، الذي وجد اتجاهه أصداءً في العالم كله لانفتاحه علي القضايا الإنسانية العالمية. وتضيف الدكتورة عايدة أنه بالرغم من اختلاف هذين اللاهوتيين في عدة أمور أساسية، إلا أنهما متفقان في الموقف الإحيائي في اللاهوت والعمل علي صلاح المجتمع، وأبرزت هذه الدراسة بعض المفاهيم الفلسفية واللاهوتية عند كل من توما الأكويني والأب متي المسكين، وكيف استخدم كل منهما العقل والنقل في إبراز هذه المفاهيم اللاهوتية، وكيفية توظيف الفلسفة لتوضيح هذه المفاهيم ومنها التبرير والخلاص والإيمان والمحبة والرجاء وعلاقتهم بالسعادة الإنسانية. كما أظهرت الدراسة علاقة السياسة بالأخلاق وأثرهما علي المجتمع، بالإضافة إلي دور الكنيسة والسلطة الدينية في توجيه المواطن المسيحي ليكون مواطنا فعالا وإيجابيا وظهر ذلك بصورة جلية عند الأب متي المسكين. وتناولت الدراسة توظيف توما الأكويني للفلسفة والمنطق، لطرح قضايا ومفاهيم العقيدة المسيحية طرحا جديدا قوامه رؤية جديدة للعالم أي لله وللعالم وللإنسان، مع تعويله بالطبع علي نصوص الكتاب المقدس. وأبرزت كذلك فكر الأب متي المسكين، ووعيه ليس بالدين واللاهوت المسيحيين فحسب، وإنما بقضايا العالم المعاصر، مع تعويله علي نصوص الكتاب المقدس في طرحه لكثير من القضايا التي تخص الله والعالم والإنسان، واستخدامه لآليات الشرح والتفسير والتأويل، أي أن الدراسة عرضت رؤيته الجديدة للعالم وقوامها أيضًا كما هو الحال عند توما الأكويني الله والعالم والإنسان. كما تناول الكتاب أيضا قضية علاقة الفلسفة بالدين عند كل من توما الأكويني والأب متي المسكين التي تناولها الفلاسفة المسلمون والفلاسفة المسيحيون من قبلهما، مبينة تجديد كل منهما في عصره للفكر المسيحي وتوظيفه للفلسفة في تجديد الفكر الديني المسيحي. ورصدت بما فيها من مقارنة بين هذين اللاهوتيين المتفلسفين التشابه والاختلاف بينهما، ولهذا فهي تندرج في مجال الدراسات المقارنة التي من شأنها إبراز حقيقة كل طرف من طرفي المقارنة.. بالإضافة إلي توضيح الفكر المسيحي من خلال مفكرين مختلفين مذهبيا وحضاريا وزمنيا.. وتشير الدكتورة عايدة إلي أن الدراسة تهدف في حقيقة الأمر إلي عرض الفكر اللاهوتي- الفلسفي- الاجتماعي لكل من توما الأكويني والأب متي المسكين وأثره الإحيائي في المجتمع وفي الفكر المسيحي، الكاثوليكي بالنسبة للأول، والأرثوذكسي بالنسبة للثاني.. وتوضيح الدور الذي يمكن أن تلعبه مفاهيم العقيدة المسيحية في الحياة.. وكذلك إبراز دور الفلسفة في عرض مفاهيم اللاهوت عند توما الأكويني، وإبراز المشروع الإصلاحي التحديثي عند الأب متي المسكين لتجديد الفكر اللاهوتي العربي المسيحي، ولجعله أكثر انفتاحا علي جميع أنواع الفكر الديني. وتكمن أهمية صدور الدراسة في كتاب يجذب أنظار الباحثين إلي وجود لاهوت مسيحي عربي معاصر.. وتأكيد أهمية تجديد الفكر الديني بما لا يتعارض مع النص المقدس، وأهمية الانفتاح علي ثقافات مختلفة للاستفادة منها، وكشف دور العقيدة المسيحية في إصلاح المجتمع، سواء عند توما الأكويني بمنهج عصره أو عند الأب متي المسكين بآليات القرن العشرين. وتتناول مشكلة البحث: موقف التجديد اللاهوتي الفلسفي عند كل من توماس الأكويني والأب متي المسكين في دراسة مقارنة من شأنها بيان اتفاقهما في الموقف.