في1984/2/24 تسلمت رسالة من روبرتو بابيني أمين عام معهد جاك ماريتان الدولي بروما ينبئني فيها بأن لدي المعهد مشروعا لدراسة حضارات البحر المتوسط. ومع الرسالة نبذة عن المشروع مع إبداء رغبة في معرفة تعليقي. والسؤال إذن: من هو جاك ماريتان؟ وما هي هوية المعهد المسمي باسمه؟ وما دوره في مسار حضارة القرن العشرين؟ جاك ماريتان فيلسوف كاثوليكي فرنسي(1882-1973) وأحد الذين شكلوا تيارا فلسفيا اسمه التوماوية الجديدة. والتوماوية الجديدة تعني إحياء فلسفة توما الأكويني(1225-1274). وكانت هذه الفلسفة هي فلسفة الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث عشر والمتناقضة مع الرشدية اللاتينية المستندة إلي فلسفة ابن رشد. وقد تمكنت من قراءة بعض مصنفات فلاسفة ذلك التيار من أمثال جاك ماريتان وجلسون وجاريجولاجرانج, كما عكفت علي قراءة بعض مؤلفات ابن رشد وذلك بسبب ترددي المتواصل علي مكتبة معهد الآباء الدومنيكان بالقاهرة منذ أن كنت طالبا بقسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول( القاهرة) وكان الآب قنواتي(1905-1994) مسئولا عن تلك المكتبة وكان مروجا للتوماوية الجديدة مع يوسف كرم(1886-1959) أستاذي الذي لازمته منذ أن كنت طالبا بالجامعة حتي مفارقته هذه الحياة الدنيا. والسؤال بعد ذلك: ما هي خصائص التوماوية الجديدة التي كان يروج لها جاك ماريتان؟ في رأيه أنه لا صدام بين الايمان والعقل, وأن المعتقد عقلاني ومع ذلك فان القانون المتحكم في الطبيعة البشرية مشتق من القانون الإلهي, وأن الخير الخاص متسق مع الخير العام الذي يحدده المجتمع. ومع ذلك فثمة خير آخر يتجاوز الخير العام وهو ما يسميه ماريتان الخير الروحي, وعلي الجماعات السياسية أن تعترف بذلك الخير وتمارسه. وتأسيسا علي ذلك كله يرفض ماريتان الأنظمة السياسية التي ليست محكومة بسلطان الله او بالأدق بمركزية الله. وهو في ذلك يقترب من حاكمية الله التي هي أساس فكر سيد قطب. ولم يقف تأثير ماريتان علي أوروبا إنما امتد إلي أمريكا الشمالية حيث أنشئ معهد جاك ماريتان بجامعة نوتردام في عام1958 ومعه أنشئت عشرون جمعية تنشغل بدراسة فلسفة جاك ماريتان. وقد امتد تأثيره إلي أمريكا الجنوبية وماريتان في هذا التأثير مروج لمعاداة العلمانية والتنوير بحكم التزامه بفلسفة توما الأكويني المتناقضة مع الرشدية اللاتينية. والسؤال بعد ذلك: ماذا يريد معهد جاك ماريتان الدولي أن يفعل بحضارات البحر المتوسط؟ في البداية نوجز هذه الحضارات في حضارتين وهما حضارة شمال البحر المتوسط وحضارة جنوبه. واللافت للانتباه ها هنا أنه لم يكن بين الحضارتين انفصال في العصر القديم. ففي ذلك العصر زار مصر الفيلسوف اليوناني فيثاغورس(582-497 ق.م.) وتأثر بعلم الهندسة العملية, إلا أنه قد وجد أنه من العبث أن تظل الهندسة محكومة بمسح الأرض, بل لابد أن تتجاوز ما هو عملي إلي ما هو نظري فابتدع مفهوم البرهان. وهكذا فتح فيثاغورس الباب لأرسطو لكي ينشئ علما يستند إلي مفهوم البرهان وهو علم المنطق. ثم جاء أقليدس وأنشأ الهندسة النظرية استنادا إلي ذلك المنطق. أما مصر فتوقفت عند الهندسة العملية ولم تتجاوزها إلي الهندسة النظرية. ومن هنا بدأ الانفصال بين شمال البحر المتوسط وجنوبه. والمطلوب الآن إقامة الحوار من أجل إحياء الاتصال. وقد ارتأي طه حسين أن ليس ثمة مبرر لهذا الإحياء لأن الاتصال قائم. ومن هنا أصدر كتابه المعنون مستقبل الثقافة في مصر(1938) وفيه يسمي الثقافتين معا المصرية واليونانية بثقافة البحر المتوسط. وأظن أن طه حسين كان واهما في هذه التسمية لأن الانفصال قائم الآن بين علمانية شمال البحر المتوسط بعد استبعاد التوماوية الجديدة وبين أصولية جنوب البحر المتوسط. واذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر وتونس الآن في زمن الإخوان المسلمين فماذا تري؟ تري البلدين محاصرين بأصولية معادية للعلمانية بل معادية لإعمال العقل. لمزيد من مقالات مراد وهبة