يُعد كتاب «مذكرات الجمسى» واحدًا من أهم الشهادات العسكرية والتاريخية التى توثق مرحلة حاسمة من تاريخ مصر الحديث، كتبها المشير محمد عبد الغنى الجمسى، رئيس هيئة العمليات خلال حرب أكتوبر 1973، وأحد أبرز العقول العسكرية التى ساهمت فى التخطيط والانتصار فى تلك الحرب المجيدة. فى هذه المذكرات، يقدم الجمسى رؤية دقيقة من داخل غرفة العمليات، تكشف تفاصيل الإعداد والتخطيط للحرب، وتلقى الضوء على ما دار خلف الكواليس من قرارات سياسية وعسكرية حاسمة، كما تتناول المذكرات أيضًا مراحل الإعداد الطويلة للجيش المصرى بعد هزيمة يونيو 1967، حتى لحظة العبور العظيم يوم السادس من أكتوبر. ولا تقتصر المذكرات على الجانب العسكرى فقط، بل تحمل بين سطورها مشاعر إنسانية صادقة لقائد عاش التجربة بكل تفاصيلها، فعرض فيها هموم المقاتل المصرى، وروح التضحية والعزيمة التى صنعت النصر. كما تبرز المذكرات أيضًا الجانب الفكرى والتحليلى لشخصية الجمسى، الذى جمع بين الانضباط العسكرى والرؤية الاستراتيجية الدقيقة. بهذا الكتاب، لا يقدّم الجمسى مجرد سرد لوقائع حرب، بل يسجل شهادة تاريخية حيّة على إرادة أمة استطاعت أن تتجاوز الانكسار إلى النصر، لتبقى مذكراته مرجعًا مهمًا لكل من يريد فهم أسرار واحدة من أعظم المعارك فى التاريخ الحديث. لم يكتف الجمسى بالكتابة عن حرب أكتوبر 1973 وحدها، لأنها لا تفى بالغرض المنشود إلا إذا تمت الكتابة عن حرب يونيو 1967، لأنهما حربان لهما اتصال وثيق ببعضهما فى مرحلة واحدة من مراحل الصراع المسلح بين العرب وإسرائيل، وفى مرحلة واحدة من مراحل الصراع السياسى بين القوتين العظيمتين فى الشرق الأوسط. لذا كان لابد من تسجيل ما حدث فى حرب يونيو، الذى كان له انعكاس فى العمل العسكرى فى حرب أكتوبر، حيث إن دروس حرب يونيو 1967 كانت هى إحدى دعائم الاستراتيجية المصرية فى حرب أكتوبر 1973. المشير محمد عبدالغنى الجمسى كان قد كتب هذه المذكرات بعد أن ترك الخدمة العسكرية والعمل العام، متحدثًا فيها عن تجربته رئيسًا للأركان فى الجيش المصرى عام 1971، حين عُين فى هذا المنصب خلفًا للفريق محمد فوزى. وتتناول المذكرات التى وقعت فى 6 أبواب، هزيمة يونيو 1967، والظروف السياسية العسكرية التى أدت لها، وعملية إعادة بناء القوات المسلحة ومرحلة الدفاع والصمود، والدفاع النشط، ثم حرب الاستنزاف. يستهل المشير الجمسى الكتاب بالإشارة إلى أنه يوم الحرب، التى يصفها بالحرب الرابعة بين العرب وإسرائيل، كان يرتدى لبس الميدان، ويقف فى مركز عمليات القوات المسلحة، وبعد خمس سنوات يوم 6 أكتوبر 1978، انتهت خدمته بالقوات المسلحة كقائد عام لها، وانتهى عمله العام بالدولة كنائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الحربية، والإنتاج الحربى. يقول المشير الجمسى فى مذكراته: «بدأت هذه الفترة من تاريخ مصر والعرب بحرب أكتوبر 1973، التى هزت منطقة الشرق الأوسط هزًا عنيفًا، وقلبت الموازين السياسية والعسكرية والاقتصادية فى المنطقة، وعلى أثرها حدث فض الاشتباك الأول على الجبهتين المصرية والسورية، ثم فض الاشتباك الثانى على الجبهة المصرية، وأعيد فتح قناة السويس للملاحة وألغيت معاهدة الصداقة المصرية- السوفيتية. يلقى المشير الجمسى من مستهل الكتاب نظرة طولية كبيرة على الأحداث المهمة التى تلت الحرب، وكذلك يمهد لما قبل الحرب، من داخل غرفة عمليات القوات المسلحة، وهو ما يجعل لهذه المذكرات أهمية بالغة فى تاريخ مصر العسكرى، والتوثيقى لمعركة أجيال ضد الغطرسة الإسرائيلية. ويوضح الجمسى حقيقة ما حدث فى 15 أكتوبر من تسلل للقوات الإسرائيلية إلى الشاطئ الغربى للقناة فى منطقة الدفرسوار، ويقول فى مذكراته: «فى صباح 15 أكتوبر ركز العدو مجهوده الرئيسى على الجانب الأيمن للجيش الثانى بغرض عمل اختراق للجيش والوصول ببعض قواته إلى الضفة الشرقية للقناة، واشتبكت القوات الإسرائيلية بقيادة شارون فى قتال عنيف مع القوات المصرية، مما جعل تقدمها بطيئًا رغم أنها تمكنت من عمل اختراق فى مواقع الجانب الأيمن للجيش الثانى، وتحت ستار القتال الشديد تسللت قوة من لواء مظلات إسرائيلى ليلًا إلى الشاطئ الشرقى للقناة ليلة 15 /16 أكتوبر، ومنها عبرت فى قوارب إلى الشاطئ الغربى للقناة فى منطقة الدفرسوار، ولحقت بها سرية دبابات حوالى 7- 10 دبابات.. وتمكنت قوات الجانب الأيمن للجيش الثانى من إغلاق الممر الصحراوى، وبذلك أصبحت القوات الإسرائيلية فى غرب القناة معزولة». يشير المشير الجمسى، فى كتابه، إلى أنه أجرى زيارة للقدس أواخر عام 1977، التى أطلق عليها مبادرة السلام، وبعد مفاوضات سياسية وعسكرية بين مصر وإسرائيل وصلت إلى طريق مسدود، وقَّع الرئيس السادات اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فى سبتمبر عام 1978. ويقول المشير الجمسى إن السادات أوضح له بعد أسبوعين من توقيع اتفاقية السلام أن مصر تمر بمرحلة جديدة، تتطلب تغييرًا شاملًا فى مؤسسات وأجهزة الدولة، ولذلك قرر تغيير الوزارة، وزارة ممدوح سالم، التى كان المشير الجمسى نائبًا له فيها، ووزير الحربية. ويعود المشير الجمسى إلى الإشارة لتاريخ الصراع العربى- الإسرائيلى، بقوله: عندما تركت خدمة القوات المسلحة فى أكتوبر 1978 كان قد مضى على الصراع العربى- الإسرائيلى ثلاثين عامًا، منذ حرب فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثى عام 1956، وحرب يونيو 1967، والسنوات التى يصفها الجمسى بالعجاف التى تلت يونيو، وتخللتها حرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر. عاصر المشير الجمسى هذه الحروب كافة، وهو ما يعطى ثقلًا لمذكراته، ويجعلها من أبرز ما كُتب عن الحرب، يقول المشير عبدالغنى الجمسى: إذا كانت الحروب التى دارت بين إسرائيل والعرب تجذب الناس بأحداثها ونتائجها المباشرة، إلا أنى كنت أشعر دائما بأننا نحن العرب لا نتعمق فى دراسة جذور الصراع العربى- الإسرائيلى، ولا نعطى الأهمية الواجبة لمعرفة ما قامت به الصهيونية العالمية، والدول الكبرى من تخطيط، وما نفذته من أعمال فى جميع المجالات حتى أقامت دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين. يدعو المشير الجمسى عبر كتابه إلى الاعتراف بنظرية المؤامرة، والإيمان بها، من أجل المستقبل، فإسرائيل لم تكن لتقوم وحدها على أرض فلسطين لولا مساعدات الدول الكبرى التى سهلت الهجرات إلى فلسطين، وساهمت فى دفع الرشى، وإجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم، وطردهم منها شر طردة، وتغيير الأسماء، وتهويد الخرائط، ومسح ومحو التاريخ العربى الفلسطينى. المشير الجمسى من مواليد البتانون بالمنوفية فى 9 سبتمبر 1921، تولى رئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة عام 1972، تولى رئاسة الأركان نهاية 1973، صار وزيرًا للحربية فى 1974، وفى 1980 رُقى لرتبة مشير، وتوفى فى 7 يونيو 2003.