شهور قليلة تفصل بيننا وبين شهر مارس من العام المقبل، وفيه تحل الذكرى المئوية الأولى لاندلاع ثورة المصريين سنة 1919م، التى تمثل علامة بارزة ومحطة مهمة على طريق النضال الوطنى فى تاريخ المصريين الحديث والمعاصر، حتى إن عددًا غير قليل من الباحثين والدارسين، من المصريين والأجانب، وقف أمامها يبحث ويتأمل، يحلل ويفسر، حيث كانت ثورة شعبية، تكاتفت فيها قوى الشعب المصرى وفئاته ضد المحتل الإنجليزى الجاسم على صدر البلاد منذ عام 1882م عقب فشل الثورة العرابية، وكانت بريطانيا آنذاك هى الدولة الاستعمارية الأولى والإمبراطورية العظمى التى لا تغيب الشمس عنها، بسبب أطرافها المترامية شرقًا وغربًا. اندلعت الثورة يوم الأحد 9 مارس 1919م، وكان لها الكثير من التغيير الذى أحدثته فى المجتمع المصرى إلى الحد الذى جعل د. حسين مؤنس يعتبرها ميلادًا جديدًا لمصر، ويقول إنها «فجرت كوامن العبقرية فى كيان مصر» (انظر كتابه: دراسات فى ثورة 1919)، حيث اتسمت ثورة المصريين بالكثير من المشاهدات التى ينبغى التوقف عندها، ومن ذلك حضور مختلف فئات الشعب فى المشهد الوطنى آنذاك، عبر مشاركة الطلاب والعمال والموظفين والفلاحين، الرجل والمرأة، سكان القاهرة والأقاليم، الأغنياء والفقراء، فى المدن الكبرى والقرى الصغيرة. وارتبطت ثورة 19 بقيمة الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط، الذين شكلوا معًا ما اصطلح على تسميته بالجماعة الوطنية، فكان هناك الكثير من مظاهر الوحدة والتكاتف، الاندماج القومى والتكامل الوطني، ومن جانب آخر مواجهة اتهامات الاحتلال للثورة بالتعصب الدينى والعداء للأجانب. أيضًا مشاركة المرأة المصرية، إلى جانب الرجل، فى أحداث الثورة، حيث قامت بالمظاهرات وتنظيم الاجتماعات للمطالبة بالحرية والاستقلال، ونظمت السيدات مظاهرة كبرى فى يوم الأحد 16 مارس 1919م للاحتجاج على تصرفات الإنجليز إزاء ما أصابوا به المصريين من قتل وتنكيل، وفيه سقطت أول شهيدة، السيدة شفيقة محمد، وهو ما اُعتبر يومًا للمرأة المصرية وعيدًا لها منذ ذلك الحين. وحتى لا ننسى، فإنه يسبق اندلاع ثورة 1919م، يوم الجهاد الوطنى (الأربعاء 13 نوفمبر 1918م)، حين التقى سعد زغلول وعلى شعراوى وعبد العزيز فهمى بالمندوب السامى البريطانى السير «ريجنلد ونجت»، للمطالبة بالسماح لهم بالسفر إلى باريس لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح، والمطالبة بالاستقلال وإلغاء الحماية البريطانية التى فرضتها سلطات الاحتلال سنة 1914م عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918م). وقد تطورت الأحداث بعد ذلك من حيث تأليف الوفد المصرى برئاسة سعد زغلول، وجمع التوكيلات من الشعب المصرى لصالح الوفد الذى تشكل للمطالبة باستقلال البلاد، وكانت حركة شعبية منظمة تفاعل معها كثيرون من أبناء الوطن وبناته، ولعدة سنوات تالية، كان يوم 13 نوفمبر من كل عام يومًا عظيمًا فى تاريخ المصريين الحديث، وقد اسماه المصريون يوم الجهاد العظيم وعيد الجهاد الوطني، وكانوا يحتفلون بهذا العيد سنويًا حتى منتصف القرن العشرين باعتباره يومًا مشهودًا ودليلًا على النضال الوطنى الذى يستحق أن يُروى جيلًا بعد جيل بكل فخر واعتزاز وتقدير. والسؤال الآن: هل قمنا بالاستعداد اللائق والترتيب المناسب للاحتفال بهذه المناسبة القومية التى تعيد الروح للهوية المصرية وتنعش الذاكرة الوطنية؟ إن دورًا مهمًا يقع على عاتق المؤسسات العلمية والمراكز البحثية، وغيرها من الجهات الثقافية، فى مقدمتها المجلس الأعلى للثقافة والهيئة المصرية العامة للكتاب ودار الكتب المصرية وقصور الثقافة، ومراكز الشباب، ومكتبة الإسكندرية، والمدارس بمراحلها المختلفة، والكليات والمعاهد، بالإضافة إلى المؤسسات الصحفية العريقة التى عاصرت تلك الأحداث وشاركت فى نقل تفاصيلها لجمهور القراء آنذاك، ما حفظ مجريات الثورة وأحداثها للأجيال التالية، ونقصد هنا جريدة الأهرام التى تصدر منذ سنة 1876م ومجلة الهلال التى تصدر منذ سنة 1892م، وذلك بإقامة ندوات تثقيفية وإصدار المؤلفات والمطبوعات، وتنظيم معارض الصور والأعمال الفنية، التى تسلط الضوء على هذا الحدث الجلل وشخصياته التاريخية. نحتفل بعيد الجهاد الوطنى وثورة 1919م للاستفادة من دروس تلك الفترة وتحقيق التواصل بين الأجيال وتدعيم الانتماء للوطن وحفظ تاريخ الرموز المصرية والقامات الوطنية، فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى إنعاش الذاكرة الجمعية الوطنية للمصريين بقراءة التاريخ، وحفظ آثار الآباء والأجداد، من أجل حاضر أفضل ومستقبل مشرق لنا ولأولادنا من بعدنا. لمزيد من مقالات د. رامى عطا صديق