عن إجراء هذا الحوار مع أديبنا الكبير يوسف إدريس قال الشاعر والإعلامى عمر بطيشة: كانت تربطنى بهذا العملاق علاقة وثيقة جدا، وكان متابعا لبرامجى الإذاعية وأغنياتى التى أكتبها لكبار المطربين، وعندما فكرت فى تقديم برنامج « شاهد على العصر» كان من بين الأدباء والمفكرين والكتاب الذين أتمنى وأحلم باستضافتهم نظرا لإعجابى الشديد بكتاباته، ومقالاته النقدية الساخنة، وريادته لفن القصة القصيرة. .................................... وبعد إذاعة الحلقة الأولى يوم 3 يناير عام 1983 مع المفكر الكبير الدكتور زكى نجيب محمود، اتصلت به وطلبت منه أن يكون ضيفى القادم، لكنه طلب تأجيل التسجيل ، حتى يستمع إلى مجموعة من الشهود على العصر ليعرف ماذا سيقولون؟!، وبالفعل أجلت الموعد، وبعد حوالى ست حلقات وافق على أن يكون شاهدا على العصر، وأبدى إعجابه بالبرنامج وقال لي: « يهمنى جدا أن أدلى بشهادتى للتاريخ، لأن هذا البرنامج عندما تستمع إليه يأخذ بتلابيبك، فلا تملك إلا أن تواصل الإصغاء إليه حتى تنتهى الحلقة، لدرجة إننى كنت أستمع إلى إحدى الحلقات من راديو السيارة، وعندما وصلت « لجراج» البيت لم أستطع النزول، وظللت أتجول بالسيارة فى الشوارع الجانبية لمنزلى حتى ينتهى الضيف من الإدلاء بشهادته». ويستكمل بطيشه كلامه قائلا: عندما ذهبت إليه وجدت لديه صحفيا شابا يجرى معه حوارا لجريدته، وكان إدريس منفعلا فى الرد على أسئلته، ورفض استكمال الحوار، الذى انتهى ب»خناقة»، فقلت بينى وبين نفسى أكيد سيرفض إجراء الحوار معى بعد هذه « المشادة الكلامية»،أو سيكون مزاجه سيئا ولن أستطيع التسجيل معه، لكن المفاجأة أنه رحب بى، وانسلخ بسرعة من الانفعال وهدأ، و بدأنا الحديث ، وبعد الانتهاء من التسجيل طلب منى بشكل شخصى ، الانتقاء الدقيق لضيوفى، وعدم التسجيل مع أى شخص، فلابد أن يكون أعلى مستوى فى تخصصه، وينطبق عليه شاهد على العصر، لأن عنوان البرنامج جميل وخطير، ويحمل دلالات كبيره، وينبغى أن أحافظ عليه. وقال : نصحنى يوسف إدريس، وكان متابعا لإنتاجى الغنائى ، بأن يكون لى قاموسى الخاص، ولا أردد نفس المفردات التقليدية فى الأغنيات المصرية، وأن أبحث عن مفردات جديدة، و شجعنى على كتابة الأغنية القصيرة ، فكان يفضل أغنياتى القصيرة التى غنتها لى فايزة أحمد مثل « حبيتك وبدارى عليك، على وش القمر، وإنسانى يا حبيبى». .................................... وقد بدأ عمر بطيشة الحديث هكذا: أيها الأصدقاء.. ضيفنا اليوم هو باختصار «شاهد عصره» كما يقول عنوان كتابه! ولو كانت برامج الإذاعة تفصل خصيصا لكان هذا البرنامج «مفصلا» خصيصا له! فهو هذا المراقب الدءوب لحركة الحياة وتفاصيل السلوك، ونبضات الفكر الإنسانى، يحولها قلمه إلى كل ألوان الإبداع الفكرى.. فنقرأها مرة على شكل قصة أو مسرحية أو مقال أو رواية.، وفى لقائنا اليوم، سيتمهل القلم ساعة، لنسمعها منه، فى حوار منه ، وإليه! يوسف إدريس: أبدأ حديثى بتحيتك على هذا التقديم الذى جعلنى أعتقد أنه كما أن لدينا بلاغة كتابية أو فنية فإن لدينا أيضا بلاغة إذاعية، فشكرا لبلاغتك، وأحب هنا أن أوضح بداية أننى أؤمن أن الأشكال الفنية هى لغات داخل اللغات، وسأوضح هذا فى البرنامج، والإذاعة أيضا لغة داخل اللغة، وأنا ألاحظ أن كثيرا جدا من برامج الإذاعة تتحدث بلغة المقال مثلا لا لغة الإذاعة، أما تعريفى للغة الإذاعة فهى اللغة التى تمسك بالأسماع.. وما يميزها عن أى لغة أخرى أنه بمجرد أن يتوقف مؤشر الراديو على هذا البرنامج وتلتقط منه كلمتين أو ثلاثاً على الأكثر، فإن المستمع لا يقدر على تحريك المؤشر بعيداً، ليس للإبهار الذى تأتى به، وإنما للخاصية التى يمتلكها المتحدث فى الراديو.. فمثلا تجد فى الراديو متحدثا يقول كلاما عظيما، وإحصائيات قد تكون مهمة، ولكنه لا يملك موهبة الإرسال الإذاعى الممسك بأذن المستمع. هذا البرنامج يتسع لملاحظات ورؤى ضيوفه للعصر الذى نحياه، ومختلف الظواهر التى تموج فيه.. فعلى ساحة العصر ماذا تري؟ الملحوظة الغريبة الآن أن الكلام انفصل عن الاحتياج، بمعنى أن كلامنا «كتر» جدا، والمفروض أن تكون هناك نسبة معينة بين الكلام والفعل.. والمفروض أن الإنسان العادى منذ استيقاظه فى الصباح تحتوى حياته فى هذا اليوم على كم من الأفعال وكم من الكلام، ما يحدث عندنا أن الكلام طغى على الأفعال! وبالتالى، قلت فاعلية الوجود البشرى.. أو وجود المواطن المصرى.. لأن الوجود لا يكتسب من كم ما يقال من كلام.. وإنما من كم الفعل الذى يحقق به وجوده.. لعلى أذكرك هنا بتعبير أطلقته سابقا وهو «الكلمة الفعل»؟ بالضبط.. لأن حتى الكلام ليس كله كلاما! يعنى يوجد كلام «أى كلام» كما يقولون! ويوجد كلام فعل، العقد كلام مكتوب ولكنه ملزم، إذن هنا الكلمة تساوى رصيدها من الفعل، لأنها ستنفذ. كما لا ينبغى أن يكون الكلام بديلا عن الفعل، بمعنى أنه إذا كان الموقف يقتضى أن تتضارب مع آخر عضليا، فلا يغنى عن ذلك أن تسبه! أيضا الكفاح المسلح أو الثورة أو المقاومة إذا استلزمت معركة مسلحة فلا يمكن لأى خطب رنانة أو غير رنانة أو كلمات أو تصريحات أن تغنى عنها! حتى أعظم الكلمات.. وهى الشعر لا تغنى عن الفعل.. أما عندنا فالشعر ليس فعلا وإنما هو بديل لفعل.. حينما يكتب الشاعر عندنا قصيدة حب، فإنه يتصور أن مهمته الأولى أن يكذب على الحبيبة.. ويصور لها أن حبه لها أكبر من أى شيء ولو وزن لوزن أكبر من كتلة الأرض والشمس معا.. وهذا كلام فارغ.. يمكن هو يتمنى أن يحبها بهذه الدرجة ولكن المفروض حين يكتب أن يكون صادقا مع نفسه فى الوصف.. لو كان حقا مستعدا أن يموت فى سبيلها ووصف هذا لجاء كلامه شعراً.. أما إذا كان لا يستطيع أن يشترى لها حتى (فستان) ثم يؤلف معلقة حبه لها فهذا كلام فارغ. أهو كذب أم مبالغة يا دكتور؟! المبالغة حين لا يكون لها رصيد من الفعل تصبح كذبا.. إن أكثر كلمة نستعملها فى حياتنا هى القسم و»الحلفان».. واحد يقول للثانى «رقبتى»! هل هذا معقول؟! الحمد لله أن الكلمة غير جادة وإلا كانت طارت رقاب كثيرة بسببها!؟ كل واحد يتفنن فى أنواع القسم: رقبتى، وحياة تربة أبى، ورحمة أجدادك.. فى أى لغة أجنبية لن تجد هذه الأنواع من الحلفان أبدا.. كلمة القسم والحلفان لا تذكر فى الخارج إلا فى المحكمة فقط، لأن الإنسان هناك تربى على الصدق، فهو غير محتاج لتأكيد كلامه بحلفان! وأنت لا تقسم إلا إذا كنت تفترض أن هناك شكا فى كلامك .. الإنسان الصادق أهم شيء بالنسبة له أن يكون صادقا مع نفسه.. أما الكذاب فلا يقنع إلا بأن يصدقه الآخرون. إذن هنا يقفز سؤال.. المفروض أن الكاتب يجنح إلى التعبير الفنى وقد يسوقه هذا إلى المبالغة كأسلوب من أساليب البيان، وفى نفس الوقت المفروض أن يكون صادقا مع نفسه.. فكيف ترى هذه المعادلة الصعبة؟ هذا سؤال وجيه «وحلو» لأنه يجعلنى أفكر لأول مرة فى هذا الموضوع.. الواقع أن هناك تاريخاً للمبالغة والصدق فى الكتابة. تاريخ؟ نعم.. وربما كان لهما أيضا قانون تناسب عكسى أو طردى..! لأنه فى البداية كان الناس يلجأون إلى المبالغة كطريقة للإقناع بالشيء العادى.. ولعله فى هذا الوقت ظهر مبدأ «أصدق الشعر أكذبه»؟ نعم . وحين تطور وعى الإنسان المستهلك السامع أو القارئ وأصبح الطريق لإقناعه أن تصدق لا أن تبالغ.. وأحب هنا أن أوضح بين قوسين أن هناك فرقا بين الصدق وقول الحقيقة. ما الفرق؟ الحقائق ثابتة، بينما الصدق نسبى ومتغير.. حينما تقول لى إن الكرسى الذى تجلس عليه مصنوع من الخشب وله أربعة أرجل ومسند، فهذه كلها حقائق. أما الصدق فهو أن تقول إنه رغم هذا أحس وأنا جالس عليه أننى جالس على خازوق! فالصدق هو صفة للإحساس، بينما الحقيقة صفة من صفات القياس أو مواصفاته، الشمس تشرق من الشرق وتغرب فى الغرب.. هذه حقيقة، ولكن حينما تقول: أحسست والشمس تشرق أنها فى الحقيقة تغرب، فقد كانت ليلتى يوما طويلا! فهنا كذب فى شكله الخارجى ولكنه صدق فى الإحساس، وصف حقيقة ذاتية لا حقيقة موضوعية. نعود إلى مثال الشعر وأنه ليس بديلا للعقل.. وأصبح شعره مواقف حقيقية.. لوصل إلى الصدق. ويمتد هذا الصدق حينئذ عبر التاريخ لأنه يرتفع إلى مرتبة القانون.. قانون من قوانين الوجود.. مثل كلمة شكسبير الخالدة «ليدى ماكبث» أنك لو استعملت كل عطور العرب فلن تمحو من يدك رائحة الدم! هذا هو الاكتشاف الشعرى الذى لا يتم إلا بالصدق المذهل لشكسبير .. فاكتشف أن رائحة الدم لا تزول أبداً.. ويبقى لهذا البيت بكارته على مدى العصور. ويسجل المعنى الجديد باسم صاحبه على مدى الدهر.. فتقول لمن يكرره بعد ذلك.. لقد قيل هذا المعنى من قبل أو هذا التعبير.. قاله شكسبير! هل مازال للكاتب صوته المرتفع فى هذا العصر الذى تدوى فيه أصوات القنابل وصيحات جماهير الكرة.. والميكروفونات من الشرق والغرب ومن هنا وهناك؟ يا سيدى، دائما، وإلى أبد الآبدين، سيظل للأدب والفكر دوره القائد.. إن البشر هم الذين وضعوا السياسة بقراراتها وحروبها، وهذا الفكر صادر عن فلسفة سائدة.. مثلا فى السنوات القليلة الماضية كلنا لاحظنا ظاهرة الاندفاع نحو البحث عن المال، وهذه الظاهرة وراء ما نتحدث عنه من فساد وانحرافات، لأن الإنسان المصرى بدأ فى البحث عن أسهل طريقة تأتى له بأكبر قدر من المال، وإذا مددنا هذا القانون لنهايته سنجد أنه فى النهاية لابد أن يقوم بعمل مخالف للمجتمع.. لأن القانون الطبيعى للحياة والمجتمع أن النقود مقابل عمل حقيقى وجهد يبذله الإنسان وزمن يقضيه فى هذا العمل.. فالبديل أن تكون لصا! وهذا أيضا نوع من الفلسفة يرتكز على أنه فى فترة سادت الفلسفة الفردية وعبادة القوة فى كافة أشكالها ومظاهرها.. وهذه الفلسفات نابعة أساسا من أوروبا فى وقت ضعفت فيه قبضة القيم والقانون. فالفكر والأدب ما زال لهما دورهما.. ولكن وسائل الإعلام أصبحت مخيفة التأثير.. فبالعكس.. يمكنك القول إننا نعانى من الانتشار المبالغ فيه من الفلسفات لا انحسار الفلسفات.. وللأسف نعانى من انتشار الفلسفات الضارة.. بينما الفلسفات الحقيقية انكمش دورها.. لأن تحويل رسالة الفكر والأدب إلى برامج وتمثيليات يحتاج إلى براعة فائقة، بينما اللعب على الطمع فى النفس البشرية أمر سهل.. وأننى أذكرك هنا بموضة انتشرت فى أفلامنا ومسلسلاتنا فى هذه الفترة وهى موضة عادل إمام يجد «شنطة» مليئة بالفلوس! حينما تدقق فى هذا تكتشف أن «حلم» المصرى العادى أن يجد هذه الحقيبة، وأن الفن السريع لعب على هذه الحقيبة وجعلها محور الصراع.. وذلك لتغذية هذا الحلم، رغم النهايات الأخلاقية المفتعلة.. وهكذا أصبح الحلم المصرى.. يارب مائة ألف جنيه وسراية فى محرم بيه وأجرة الشيال الذى يحمل الشنطة.. كمان! لهذا المطلوب منا.. قبل الإنتاج والتصنيع وحل مشاكل المياه والمجارى والكهرباء أن نحل مشكلة الحلم المصرى وأن نغيره. فيصبح الحلم بماذا؟ فى جيلنا كان الولد يحلم أن يكون أديسون، والفتاة أن تكون مدام كورى.. كنا نحلم أن نكتشف البنسلين مثل فليمنج مثلا.. وهذا النوع من الأحلام هو الذى ينبغى استزراعه فى الواقع المصرى.. لن يتغير الواقع المصرى ونحل مشاكله إلا إذا غيرنا الحلم الخفى الكامن فى النفس المصرية أو العربية.. يجب إعطاء فرصة للحالمين العظام فى حياتنا من مفكرين وأدباء لا يملكون رذالة الصغار ولا إلحاحهم فى فرض إنتاجهم على أجهزة الإعلام ولا يرضون بمنافسة هؤلاء الصغار.. هؤلاء العظام هم الذين سيغيرون حلم الشباب المصرى.. هذه رسالة الكتاب.. تغيير الحلم المصرى من حقيبة الفلوس إلى البطولة فى مواجهة الواقع. لكن.. كما رصدت بروز ظاهرة «شنطة الفلوس» لابد أنك رصدت بالمقابل ظاهرة محاسبة المنحرفين ومحاسبة الفاسدين؟ لا يكفى ذلك.. فالمضادات الحيوية لا تشفى المريض.. لابد من مقاومة الجسم ذاته والرغبة فى الحياة لديه.. فالمفروض أن نغير الرغبة فى الحياة أو نوعية هذه الرغبة.. يمكن بأعمال فنية بسيطة أن نعرض أن المتعة الحقيقية ليست فى كثرة المال.. وإنما يمكن للإنسان العادى أن يجد المتعة الحقيقية فى حياته لو رأى هذه المتعة.. لأن مصيبتنا- أننا طوال الوقت لا نرى إلا شنطة الفلوس- لا نرى واقعنا.. مثلا الناس لديهم أولاد وذرية ويقولون «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» ولكن.. هل ذاق متعة أن يكون له ابن أو بنت يتكلم معها ويلاحظ كيف ينمو عقلها وفكرها، ويناقشه أو يناقشها لمساعدتها فى تصحيح أحلامها؟ هل لفتنا النظر إلى متعة أن يحس الإنسان أنه لعب دورا فى حياة ابنه أو حياة أسرته أو حياة مجتمعه بالتالي؟ حتى متعة أن تكتب شيئا يؤثر فى الناس.. أليست أعظم من أن تكتب شيئا يأتى لك بمليون جنيه؟ متعة أن تشارك الآخرين فى المتعة.. الشيء الغريب أن الحلم بالفلوس مرتبط دائماً بالفردية. سأنقل مع د. يوسف إدريس نقلة بعيدة وقريبة فى نفس الوقت.. وأذكرك بوصف قدمته مرة من قلب الشارع المصرى لخناقة كلامية يتبادل فيها الطرفان خطبا تكسب الرأى العام لصفه.. فى الواقع هكذا الخناقة الحضارية! فأنا، أعتبر الشعب المصرى شعبا مصيبته أنه متحضر زيادة عن اللزوم وعجوز زيادة عن اللزوم! هناك شعوب فى العالم اليوم مازالت تعيش فى عصر الأسرة المصرية الرابعة.. والمتقدم من هذه الشعوب تجده فى مرحلة الأسرة التاسعة عشرة! وهى مرحلة فتح الإمبراطوريات وغزو البلاد الأخرى.. أما المتقدم جدا تجده «يدوب» فى عصر اخناتون.. أو عصر توجه الدولة إلى تقديس المعبد وتوحيد الآلهة والعبادة.. لقد مر الشعب بكل هذه المراحل وانتهى إلى قانونين أساسيين يحكمان حياته.. القانون الأول أنه مؤمن.. لأن البشرية تروح يمينا ويسارا محاولة الفرار من فكرة أن الإنسان لابد أن يكون مؤمناً.. وأن الإنسان غير المؤمن بشيء لابد أن يموت .. لأن أحد صفات البشر أنه كائن لابد أن يؤمن.. وأن يؤمن بشيء خارج ذاته.. والصفة الأخرى أن الإنسان وظيفته الأولى والأخيرة فى الحياة أن يعيش.. يعنى لا يموت.. يعيش حياته.. وهذا معناه إدانة لتجارة الموت والحروب والمشاحنات والخناقات.. فالمصرى يلغى ثلاثة أرباع شرور البشرية بهذين القانونين! وماذا عن الخناقات الأدبية والصحفية الحالية وما تعكسه من ظواهر؟ لماذا هذا الإحساس بالمرارة مع أنك- وربما يعلن هذا الخبر لأول مرة الآن قد رشحت لنيل جائزة نوبل فى الأدب- وهذه أول مرة تحدث فى العالم العربى؟ لقد أبلغونى فعلاً بوضع أسمى فى القائمة وترشيحى لهذا العام.. ولكن لم أسع لنشر هذا الخبر ولا حتى أقرب الناس إلى أن يعرفونه.. فحين يمنح الإنسان جائزة.. فليمنحها.. ولا يجب شغل الصحافة ولا الآخرين بهذا الموضوع.. ولا يجب خلط التقدير بالدعاية.. هذه الجائزة لا تشكل لكاتب حقيقى مهمته الأولى الصدق مع نفسه- مكافأة على هذا الصدق.. ولكن من ناحية أخرى هذه الجائزة ليست تقديرا للأدب العربى لأنه على الأقل يوجد خمسة أو ستة يستحقون هذه الجائزة من زمان.. مثل توفيق الحكيم.. نجيب محفوظ.. طه حسين مثلا أكبر من الجائزة.. زكى نجيب محمود.. جمال حمدان.. وآخرون.. دورهم أكبر من الجائزة كجائزة.. بالعكس أنا أعتبر الأدب العربى الآن وبالذات بعد حركة الإحياء من أعظم آداب العالم.. بل إنى أقرر أن حركة القصة القصيرة بالذات.. تكاد أن تكون أعظم مستوى وصلت له القصة القصيرة فى تاريخها كله وفى العالم كله.. ولهذا أنا أقول لكاتبى القصة من الأدباء الشبان الذين يحضرون إلى أن الأشكال الفنية لغات داخل اللغة الفنية.. القصة لغة.. والمسرحية لغة والرواية لغة.. وهكذا كما قلنا.. واللغات ليست رسالات.. هل المسألة إظهار البراعة فى اللغة فقط؟ أم فى مضمون الرسالة التى تحملها هذه اللغة.. الكاتب الحقيقى أكبر من أى لغة.. لأنه خالق هذه اللغة.. بمجهود بسيط يستطيع الكاتب الحقيقى أن يكتب أى لغة.. رواية.. مسرحية.. قصة قصيرة.. وهكذا.. ولكن.. المهم الرسالة.. ثم يتحدث ويكتب اللغة المناسبة (أى الشكل المناسب) بعد ذلك.. وقد حدد القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا لأول ولآخر مرة مهمة الكتاب ومهمة الكاتب.. هل لديك أقوال أخري؟! أنا مذنب لأننى كنت كبير الطموح فيما يمكن للكاتب أن يحققه فى عمره.. بينما الرسالة تحتاج إلى أعمار. ندعو للدكتور يوسف إدريس بأعمار تضاف إلى عمره ليظل يمتعنا بفنه الراقى..