آخر تحديث.. أسعار العملات مقابل الجنيه اليوم الأحد 5-5-2024    «الإسكان»: تخصيص الأراضي بالمدن الجديدة تنمية شاملة وفرصة للاستثمار    أسامة كمال: بايدن وترامب خياران كلاهما مُر    أحد الناجين من الهولوكوست: أنا والكثير من اليهود ندعم قضية الشعب الفلسطيني    الزمالك يعلن سبب غياب زياد كمال عن مباراته أمام مودرن فيوتشر    3 ظواهر تضرب البلاد خلال ساعات.. «الأرصاد» تحذر من نزول البحر    عمرو أديب: «مفيش جزء خامس من مسلسل المداح والسبب الزمالك» (فيديو)    أمين الفتوى: الله شرف مصر أن تكون سكنا وضريحا للسيدة زينب    نافس عمالقة ووصل بالأغنية السعودية للقمة.. تعرف على رحلة «فنان العرب» محمد عبده    قصواء الخلالي: مصر لا تحصل على منح مقابل استقبال اللاجئين    «الصحة»: أكثر من 2500 سيارة إسعاف منتشرة بالمتنزهات والطرق في شم النسيم    لدعم صحة القلب والتخلص من الحر.. 5 عصائر منعشة بمكونات متوفرة في مطبخك    إصابة 3 أشخاص في تصادم 4 سيارات أعلى محور 30 يونيو    وزير السياحة يشارك كمتحدث رئيسي بالمؤتمر السنوي ال21 للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    وكالات الاستخبارات الأوروبية: روسيا تخطط لأعمال تخريبية في أنحاء القارة    الفيضان الأكثر دمارا بالبرازيل .. شاهد    وزيرة الهجرة: نستهدف تحقيق 5 مليارات دولار قيمة أوامر الدفع بمبادرة المصريين في الخارج    منافسة بين آمال وأنغام وشيرين على أغنية نجاة.. ونبيل الحلفاوي يتدخل (فيديو)    حزب الله: استهدفنا مستوطنة مرغليوت الإسرائيلية بالأسلحة الصاروخية    نجل الطبلاوي: والدي مدرسة فريدة فى تلاوة القرآن الكريم    الهلال يحقق بطولة الوسطى للمصارعة بفئتيها الرومانية والحرة    أفراح واستقبالات عيد القيامة بإيبارشية ميت غمر |صور    فحص 482 حالة خلال قافلة طبية مجانية في الوادي الجديد    أعراضه تصل للوفاة.. الصحة تحذر المواطنين من الأسماك المملحة خاصة الفسيخ| شاهد    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    لوائح صارمة.. عقوبة الغش لطلاب الجامعات    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    تامر حبيب يعلن عن تعاون جديد مع منة شلبي    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    عودة المهجرين لشمال غزة .. مصدر رفيع المستوى يكشف تفاصيل جديدة عن المفاوضات    خوفا من الإغراءات الخارجية .. الأهلي يسعي لتمديد عقد مصطفى شوبير بعد نهائي دوري أبطال أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف إدريس
العاصفة
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 11 - 2011


يوسف إدريس كما لا نعرفه
في هذا البستان نلقي الضوء علي يوسف إدريس، الكاتب المثير للجدل، عاشق الأضواء، كاتب القصة القصيرة الكبير. نقرأ هنا عن مولده وسنوات طفولته الأولي، تجربته البكر مع المرأة، فقره المدقع وإتهامه بالسرقة، العلم الذي أنقذه من أن يصير لصاً كبيراً أو متشرداً. كاتب القصة القصيرة حياته طويلة، ممتدة، ممتلئة بالمحطات والطرق والصراعات والمنافسات، مكتظة بالنساء.

يحوي البستان أيضاً سنوات مراهقته ودراسته بالطب وبدايات الكتابة، ودون أي ميل للدفاع، نقدم الأحداث كما هي، بما في ذلك عشقه للنجومية وتمهيد الأرض له ليكون كاتباً كبيراً، لعبات الحظ التي وضعته في المقدمة، تغيرات اجتماعية وسياسية جاءت في صالحه. بالإضافة لذلك، ثمة آراء اعتنقها في حياته، في الكتابة والجنس والمرأة، وخبرات ضرورية ساهمت في تكوينه، ونظرة خاصة في اللغة التي استخدمها. وننشر هنا أيضاً قصتين لم يضمهما كتاب من قبل، تمثلان بشكل ما التجربة الإدريسية.

يعيش المبدع النابغ بين ظهرانينا دون أن نعرفه معرفه حقيقية، لأنه ومن خلال شهرته- إضافة إلي عوامل أخري- يشكل غربالا يحجب ما يود أن يحجب، ولا يسمح إلا بما يود أن يصلنا عنه، وغالبا ما يركز علي ما يؤكد عبقريته وتفرده. والخاسر من نقص المعرفة هو المجتمع والناس لأننا في هذا الإطار لا نفهمه، ولا نفهم نواميس النبوغ، فهما صحيحا.
كنت قد محصت في دراسات استطلاعية نبوغ أكثر من عشرين مبدعا عربيا في مجالات مختلفة، حين اخترت يوسف إدريس- في أطروحة الدكتوراه- لأدقق عليه منهج فهم متاهات الطريق الموصل إلي الإبداع والنبوغ، لأنه بدا وكأن مقدمات حياة إدريس يستحيل أن تصنع سوي متشرد كبير!!
وقد كان يوسف إدريس أحد عوامل تشويه فهمنا لسيرة إدريس وأدبه. لهذا لابأس من أن تكون ذكري غيابه وقفة مع سيرته وأدبه ونبوغه.
عشق النجومية وتحقيق الذات
أهم ماينشده أي طفل هو اعتراف الآخرين به. لكنه كان للطفل يوسف إدريس ظروف إضافية خاصة عززت حاجته إلي الاعتراف.
كانت أم يوسف- وفقا لوصفه- لا تؤمن بشيء في الوجود. لا بالرجال ولا بالنساء ولا بالأطفال ولا بالأمومة. كان كل ما يهمها في الحياة أن يشتري زوجها أرضا ويكتبها باسمها، ومن هنا لم تمنح يوسف اهتماما ذا بال منذ أن تولت جارة مسيحية إرضاعه. وقد وصل يوسف في مجال الحديث عن قسوة أمه إلي أن وصفها صراحة ب "المتوحشة" لسلوكها عموما مع أولادها، بما في ذلك عقابهم علي أقل هفوة، مما أورث يوسف شعورا دائما بالذنب وبعدم الثقة في النفس.
ولما كانت وظيفة الأب كناظر زراعة تتطلب الترحال فقد عهد بيوسف، وعمره خمس سنوات إلي بيت أجداده. كان الطفل الوحيد وسط البالغين، وكانوا ينتظرون منه أن يتصرف كشخص ناضج مسئول، وكان العقاب ينتظره إذا ما تصرف بغير ذلك.
وعاش إدريس في المدرسة الابتدائية حياة تعسة يحس بيتم شامل، فهو بلا أهل ولا صداقات، وإلي جوار ما جرته إليه الحياة الفقيرة من حرمان (وصل حتي إلي الطعمية والبسبوسة) ومن عقاب مستمر (لعدم نظافة ملبسه) ظل يعامل لثلاث سنوات من المدرسين والتلاميذ علي أنه لص يسرق كتب تلاميذ المدرسة! حتي أن الأمر وصل إلي أن جعل الناظر تلاميذ المدرسة يهتفون وراءه في طابور الصباح، وهم يشيرون إلي إدريس: اللص اللص!!
لكن حادثا عارضا فتح ليوسف طاقة نور. كان يمتلك زادا إضافيا غير الزاد المدرسي، من الأيام التي ارتاد فيها "كتاب" القرية. وكان قد استذكر دروسه جيدا حتي لا يضاعف من متاعبه المدرسية. ولما جاء دوره بعد أن أخفق عدد من التلاميذ في الإجابة عن سؤال لمدرس اللغة العربية أجاب يوسف. ولما تكرر الأمر مرات، بات المدرس يقصده كلما عجز التلاميذ عن الجواب: "قل لهم يا أصفر يا أبو علة". وكان يوسف يبتلع تعريض المدرس، لأنه كان يتيح له وسيلة للقصاص من كل ما يوقعه المجتمع به، وكان ذلك بداية علاقة إيجابية خاصة ربطت إدريس باللغة العربية.
هكذا فإن الطفل يوسف- الذي كان ينظر لنفسه علي أنه "اليتيم الأوحد"- لم يحرم من حضن بيته وأمه وأبيه وأصدقائه فقط، ولا من اللحظات النادرة التي يشعر فيها أي من أقرانه أنه كائن محبوب، ومحل تقدير وإعزاز فقط، بل عاش جوا عدائيا رهيبا في المدرسة بصفته لصا، وهكذا كبر حجم القلق والمخاوف وافتقاد الأمان التي أحاطت بطفولته، مقارنة بطفولة أقرانه، مما طفر بحاجته إلي الاعتراف درجات، حتي عن الحاجة الملحة للأطفال الآخرين. وهكذا برز التفوق كمخرج وحيد.
وقد أكد إدريس أن الساعة التي استغرقها طريق عودته من المدرسة إلي المنزل يوم ظهور نتيجة السنة الأولي الابتدائية، بعد اكتشاف أن ترتيبه الأول علي المدرسة، هي أسعد ساعة في حياته، لإحساسه بأنه انتصر هو اليتيم الفقير المقهور الذي أوقع به المجتمع ظلما شديدا، وانتصر علي كل التلاميذ "اللي لهم أهل وآباء وأمهات، واللي بياخدوا مصروف، واللي بيلبسوا كويس ويجوا المدرسة راكبين".
وقد أدي القهر والافتقار إلي الأمان والنظام واليقين في حياة إدريس إلي تزايد حاجته إلي الشعور بالأمان علي نحو حاد. والأرجح أن غياب الدفء في خبرات الطفولة أضر بصحته النفسية، فإلي جوار علاقته الغريبة بأمه ساهم الحراك الأسري- التنقل في العيش والدراسة- في إحباط فرص الحب والصداقة القوية والانتماء، الأمر الذي ينتج عنه- وفق آبرهام ماسلو- سوء التكيف والأمراض النفسية والاجتماعية.
وهكذا جعلت الوحدة والعزلة وافتقاد الصداقة والنبذ الاجتماعي والرفض، جعلت يوسف مستعدا علي الجانب الآخر لأي علاقة توفر له حاجة الإنتماء والحب، إلي جوار الأمان. والأرجح أن حاجات إدريس إلي التقدير والاحترام نمت بشكل كبير منذ طفولته، لتعويض الحاجات السابقة، ومن هنا كان السعي إلي التفوق في الدرس.
وخلال المرحلة الثانوية تعددت محاولات إدريس نيل "الاعتراف"، وكان منها الاهتمام بالقراءة والثقافة، لكن أهمها تمثل في محاولته الانضمام إلي فريق المسرح بالمدرسة، فقد كان ما يحيط بممثليه من شهرة و "نجومية" هو ما يحتاجه إدريس.. وفيما بعد كتب أن الحزن الذي أحس به حين طرد من الفريق لفشله في التمثيل كان أفدح من أي شيء سيعانيه في سنوات حياته التالية.
ووفق كلمات يوسف عن هذه المرحلة: "نموت خارج إطار العائلة وشغلت بالمجتمع الخارجي.. واجهت الحياة مباشرة، حتي سكنت وحدي ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة من عمري، أتعامل مع مجتمع كامل، أدافع عن نفسي. وعندما جاءني أخي الأصغر وسكن معي أصبحت مسئولا عنه. وكنت آخذ ثلاثين قرشا في الشهر، تهفو نفسي إلي الطعمية فلا أجرؤ علي شراء قرص ثمنه مليم".
وفي مواجهة المجتمع الخارجي الظالم الذي يحكمه الكبار كان علي إدريس أن يتعلم المراوغة، ومن هنا دانت له رويدا القدرة علي التعامل مع الجو المحيط مهما كان معاديا له، فضلا عن القدرة علي تجاوز الصعاب، وهذا الدرس الذي تعلمه منذ الصغر لقي تعزيزا فيما بعد بما خبره في حياة عمه-الذي كان مقعدا- من قوة معنوية. ومن هنا برع يوسف في تملك القدرات الاتصالية والإرادية اللازمة لإقامة علاقات مثمرة مع الواقع.
ولم يكن أمام يوسف لنيل "الاعتراف" في المرحلة الثانوية أيضا إلا التفوق الدراسي، الذي قاده إلي كلية الطب والقاهرة.
يقول الكاتب صلاح حافظ الذي زامل إدريس في هذه المرحلة: "كان يوسف منذ عرفته يعشق النجومية. وكان نجوم كلية الطب، أيام كنا طالبين فيها، هم قادة الحركات السياسية، فعشق- يوسف- السياسة. وكانت الصحافة مسرحا أخر للنجوم فسعي إلي العمل فيها".
وكان يوسف لكل ظروف طفولته جاهزا للانتماء، إذا أخذنا بعين الاعتبار صدمة العيش في القاهرة التي كانت تهدد القرويين بالضياع، وقول آبراهام ماسلو: "إن الدين والفلسفة ونسق القيم لدي
الفرد مما يساعد علي تنظيم الحياة في شكل كلي متماسك مما يوفر الأمن النسبي".
كان حلمي إدريس شقيق يوسف الأصغر يدرس في كلية الفنون الجميلة، وكان قد سبقه إلي العضوية بتنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وكان صلاح حافظ زميل يوسف عضوا نشطا في التنظيم، وأثار ذلك غيرة إدريس، فارتبط بالتنظيم، بعد هروب أحد قادته (كمال عبد الحليم) فترة في بيتهم.
تلك الأيام كانت منعطفا تاريخيا لجيل، تشكلت طموحاته وبطولاته أيام الطفولة من خلال عالم روايات الجيب ومغامراتها! لكن مع الأيام لم يعد طرزان وأرسين لوبين هم الأبطال. أخذ حب المغامرة وركوب الخطر شكلا وطعما آخر أرقي! صار الزهو من نصيب القوة الفكرية والروحية، وبات للقضية منظور آخر: "نحن لسنا لصوص مغامرين، نسرق قصورا أو بنوكا، بل ثوار وأصحاب رسالة، نبغي تغيير الدنيا مع ثوار العالم".
ورشة القصة القصيرة
التي تخرج فيها
في كلية الطب ومن خلال الأنشطة الطلابية اكتشف يوسف (في ظل حاجته الماسة إلي الاعتراف وعشقه للنجومية) أن زملاء له (صلاح حافظ ومصطفي محمود ومحمد يسري أحمد) نجوم بكل معني الكلمة، ينشرون أعمالهم رأسا برأس مع د.طه حسين، وأن أسماءهم ورسوم قصصهم تظهر علي غلاف مجلة "القصة" التي يرأس تحريرها إبراهيم ناجي وتباع في الشوارع، وتتواري بجوارها المجلة الطلابية التي يجاهد مع زملائه من أجل إصدارها بالكلية.
وكان يسري أحمد فيما يخص هذه المجموعة "مدرسة عملية" لكتابة القصة. كان أفراد "شلة الأنس" يمرون معا ب "الموقف الحياتي العادي"، وفي اليوم التالي يجدونه وقد أصبح قصة تنبض بالحياة علي يد يسري أحمد.
وكانت مجلة "القصة" تساعد علي تيسير المعارف النظرية الخاصة بالقصة القصيرة. وكانت تحض علي الكتابة وتنظم المسابقات وتقدم طريقا للنشر. وعرف إدريس ذلك كله، وأنطوي فيما يخصه علي كثير من الغيرة والتطلع والحفز والتعلم والتدريب والممارسة.
وفي ظروف شغف إدريس بالاعتراف كان طبيعيا حين يقع علي ما يمكن أن يشكل كفاءة وتمكنا في قدراته (تفوقه في تملك أدوات القصة كما سنوضح حالا) أن يدرك ذلك للتو ويتشبث به. بالذات والأمر يعني اعتراف الآخرين وانتباههم، إضافة إلي الشهرة لكن إدريس ظل "يماحك"- خوفا علي دراسته الطبية- في أن الأدب حرفة غير لائقة بالنسبة لرجل العلم، وكان من تأثيرات الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي، أن محا ذلك من ذهنه تماما.
لقد حابي القدر إدريس مرة بلقاء مجموعة كتاب كلية الطب. وحاباه أخري حين وفرت له مجلة "القصة" وعلاقاتها ورشة حقيقية أتاحت المعرفة المبسطة النافذة للقصة نظريا وممارسة. وحاباه ثالثة حين وقع في الورشة علي معلم حاذق هو محمد يسري أحمد.
لكن محاباة القدر لم تقف عند هذا الحد. فقد صاحبت السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية موجة كاسحة من الدعوة إلي الاشتراكية. فازدهر التيار اليساري وأخذ يمتد إلي الوفد حزب الأغلبية والمنتديات العامة، فحاولت الحكومة تصفية الأندية والهيئات الثقافية، ليتحول الصراع إلي الجامعة وعدد من "الندوات" التي تعذر إغلاقها، لأنها كانت تعقد في "الشارع"، مثل "ندوة قهوة عبد الله"، التي تخرج فيها أغلب الكتاب الذين عرفناهم خلال الفترة التالية علي قيام ثورة يوليو.
ووقع يوسف إدريس في مناقشات ندوة قهوة عبد الله علي ورشة فنية حافزة ثانية، أكدت له أن المرجعية الأولي للكاتب هي الخبرة المباشرة بالحياة، التي تسبق المعرفة بالتراث القديم والثقافة العالمية، وأن المهم هو أن يعبر الكاتب بما معه من حصيلة لغوية. كما أكدت مناقشات الندوة الاتجاهات الشعبية لمجمل آداب وفنون المرحلة، وأكدت الحاجة إلي قصة مصرية غير القصة الشائعة، وانتقدت واقعية قصص محمود تيمور، وحاولت اكتشاف بذور الواقعية (الحقيقية في القصة عند يحيي حقي، ناهيك عن أنها حملت بضراوة علي القصص الرومانتيكية التي كانت شائعة في حينه.
كما أن قهوة عبد الله فتحت القنوات بين عبد الرحمن الخميسي وبين إدريس، مما قاد خطاه إلي النشر المنتظم في جريدة "المصري"، أوسع الصحف انتشارا، لينفتح باب تحقيق الذات علي مصراعيه أمام إدريس عاشق النجومية.
وهكذا كانت "الورشة القصصية" التي أتيحت ليوسف إدريس في حينه (في مجلة القصة وقهوة عبد الله) ورشة راقية بحجم ما أتاحته من تعليم وممارسة، ومن اكتمال دائرة الإبداع والاحتضان والتشجيع والنشر والحفاوة والنقد، بل والعائد المادي المجزي. ذلك ناهيك عن ميزة تلقائيتها وعدم تقيدها بمناهج عامة، قد تعطل المبدع عن إبداع برنامجه الخاص وفق قدراته واحتياجاته الذاتية. وربما كان الأهم أن خبرات هذه الورشة أتت وقت حاجة يوسف إدريس إليها بالضبط، فقصرت طريقه إلي النضج كثيرا.
وبالقطع فإن لعمليات التعلم عامة أرضية غريزية. ولهذا ربما اتفقنا مع إدريس فيما يراه من أن عملية القص غريزية في أدائها وتلقيها. لكننا لا نتفق معه في إغفاله، تأكيدا لتفرده وإلهامه، أن يكون هناك دوافع وعوامل وظروف وراء اهتمام هذا أو ذاك- ممن درجوا علي أرضية الميول الغريزية- بالفن ونجاحه في ممارسته. نعم قد تظهر أفكار الكتابة فجأة كما يقول إدريس أنه حدث معه، ولكن جذور ذلك لابد أن تأخذنا إلي تاريخ حياة صاحبها وخبراته وتعاملاته وتعلمه فلا شيء ينتج من لاشيء.
خبرات التكوين
الأدبي
مع رغبة إدريس في اللحاق بنجومية زملائه كتاب كلية الطب، ومع التعامل مع الصحافة، كان عليه أن "يذهب بما معه". ولم يكن إدريس خلوا من الزاد، الذي جمعه من أيام الطفولة.
كانت خبرات المعاناة الشعورية الأصيلة خلال رحلة إدريس القاسية عبر أقاليم مصر زادا هائلا قربه من نبض ووجدان قاع المجتمع، مما أتاح له كنز من الأحاسيس الحميمة التي تخص بسطاء المصريين (البطل الأدبي الجديد)، وأعطاه ميزانا يبرع به في تقدير هذه الأحاسيس، مما ساعده علي استبطان العوالم التي يريد التعبير عنها، بل وجعله قادرا علي تمثل أبطاله بدرجة تساعده علي أن "يتقمص"، بل وأن يعيش، أدوارهم واحدا وراء الآخر.
وكان القهر والحرمان المادي والعاطفي قد دفع يوسف في طفولته إلي التنفيس عن نفسه والبحث عن الإشباع العاطفي والمال والجاه في الخيال من خلال أحلام اليقظة. وهكذا وجد التخيل والتأمل، طريقا إلي عقل يوسف ووجدانه وهو مازال صبيا. ومنحت المناسبات والطقوس الشعبية يوسف مثيرا إضافيا لخياله. ثم جاءت قراءته لسيل من الروايات البوليسية ذات الحبكة المتميزة، لتعزز حبكات الحكي الخاص بأبيه. ووصلت به حبكات حكايات "ملكة" أم جدته والنساء المترددات علي بيت عمه المقعد إلي ذروة جديدة، من حيث آفاق وحميمية ودرامية الحكايات وارتباطها بالواقع وإطارها الشعبي. ولم يقف الأمر بيوسف الباحث عن "الاعتراف" عند التلقي أو أحلام اليقظة، بل حاول جاهدا أن يجد لنفسه مكانا "فوق خشبة المسرح" منذ أيام المدرسة الثانوية.
هكذا كان يوسف إدريس يملك خبرة "المرارات" وبذور القدرة علي التخيل، والقدرة علي الحكي، فضلا عن خبرة الكد المستمر والسعي إلي التفوق. وكانت هذه الخبرات نقاط تميز مؤثرة.
لكن الأمر لم يقتصر علي معرفة الواقع الشعبي، لأنه حدث نوع من تراسل أو تلاقح الخبرات وطرائقها ومناهجها، حين مكنت الدراسة والممارسة الطبية إدريس من خبرات أفادته في عمله الأدبي، إذ شحذ عالم الطب: بعض الخبرات العامة الضرورية للكاتب.
فأعطاه خبرة عميقة بمفاهيم انتقلت إلي الأدب من علوم الحياة (كالوحدة العضوية). وساعده علي قراءة الواقع دون إضافات خارجية ( في التشريح). وأتاح له خبرات القدرة علي المعايشة (العلاقة الراقية بالمريض). وأعطاه معرفة منهجية شاملة بالإنسان (جوهر الدراسة الطبية). وقربه من معاناة المرضي وحياة الإنسان المأزوم.
بعض الخبرات الخاصة بعمليات إبداع القصة القصيرة.
مثل القدرة علي التركيز (الجراحة). وعملية المراقبة والالتقاط (الكشف علي المريض). والوقوع علي العرق الأساسي الذي ينبض (التشخيص) وسهولة الاستعداد والاحتشاد للكتابة (مواجهة حالات الطوائ). وعمليات الكتابة ذاتها بما تحتاجه من طلاقة وتدفق ومواصلة الاتجاه (مواجهة الطوارئ) وقدرة علي التقييم والتعديل وصولا إلي اكتمال العمل الفني (تدقيق التشخيص والعلاج).
بعض الخبرات التي تتصل بماهية وطبيعة القصة القصيرة
مثل خبرة انتقاء العينة الدالة (الدم والبول). وخبرة التعامل مع اللحظة الحرجة.
كما منحته الدراسة الطبية خبرات علم النفس والطب النفسي، اللذان أتاحا لإدريس أكبر قدر من المعارف الموثوقة، المرتبطة بالأعماق النفسية لأبطال أعماله، والصراعات الداخلية والآلام التي يعانونها. إضافة إلي مقومات راقية لملاحظة نفسه ملاحظة واعية، الأمر الذي شغل إدريس- دون قصد- منذ صباه، وكان المعمل الخاص الذي جعله قادرا علي تمثل أبطاله بدرجة تساعده علي أن "يتقمص"، بل يعيش، أدوارهم واحدا وراء الآخر.. وقد تلقي اهتمام إدريس بالمعارف النفسية دفعة هائلة حين قرأ دستويفسكي، الذي كتب- إدريس- مرارا أن العالم لم ينجب كاتبا مثله.
صحيح أن الدراسة الشاقة الطويلة في كلية الطب حرمت إدريس مؤقتا من التفرغ للقراءة المباشرة في الأدب، لكن هذه الدراسة كانت تحفر بعيدا في قدراته. من خلال تراسل وتلاقح طرائق الخبرة ومناهجها وأدواتها من مجال الطب إلي مجال الكتابة، لتساعده علي إنجازه الأدبي المتميز، كما علمته قراءة ووصف ظواهر الحياة والواقع بدقة متناهية، دون إضافات غريبة، ودون التأثر بأحكام مسبقة (كما في التشريح)، مشكلة بذلك درجة أساسية علي سلم إنجازه الفريد. ومن الممارسة الطبية تعلم إدريس أن يسيطر علي حساسيته فجاءت صوره موضوعية لم تهوشها الانفعالات. وهكذا بات أستاذا في كشف ما يدور بنفوس أبطاله، ورؤية الدوافع التي تحركهم، و...، فاستطاع أن يكشف لنا عن حقائق إنسانية تكاد تعادل في صدقها حقائق العلم الطبيعي، إذا راعينا المعايير الخاصة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار فيما يخص الموضوعات التي تنتمي لمجالات مختلفة ومتباينة.
وقد تعلم إدريس من التجسيد الراقي لكل ماسبق عند الطبيب أنطون تشيخوف، وهو واحد من أعظم كتاب القصة القصيرة في العالم، فإدريس صادق فيما ذكره عن التأثر بالآخرين مثل جوركي، لكن الذي لا جدال فيه أنه تأثر منذ قصصه الأولي بقصص تشيخوف المبكرة (مثل موت موظف، والحرباء) التي كادت أن تكون لوحات ساخرة تأخذ شكل النادرة أو النكتة العامرة بثراء إنساني لا يحد. وكان أكثر ما استوقف إدريس في قصص تشيخوف الشخصيات العادية البسيطة، والمفارقات الكوميدية الناعمة، وإحساسه بأن المناخ الشعري الرهيف لأعمال تشيخوف يتلاءم مع الولع المصري بالتهكم اللاذع اللماح، كما يظهر في النكتة الشعبية. ويشبه إدريس تشيخوف في المزاوجة بين المضحك والمؤسي، وبين الغنائي الشفاف والمحزن، والبعد عن الإسهاب في الوصف مع الاقتصاد في استخدام الكلمات. والقدرة علي تمثيل العينات والتفاصيل الصغيرة للكل. ولعل الأهم من ذلك كله ملمح الصدق الداخلي الذي ذهب به تشيخوف إلي أبعد مدي، فهذا الصدق كان ذا تأثير واضح في طريقة كتابة إدريس، التي يعايش فيها أبطاله.
إن الدراسة الطبية من الدراسات التي تحتفي- وبالأخص أيام إدريس- بالوصفية. إلا أنها تضع هذه الوصفية في إطار موضوعي صارم. ولعله يكمن هنا، مع ثقافة إدريس العلمية، مصدر نزوع معظم قصصه إلي أخذ شكل "القانون". إن نتاج إدريس ينطوي علي جرعة وافرة من التكوين الفني تتمثل في الترابطات التركيبية الشاملة، لكن هذه كثيرا ما كانت تنطلق من وعي علمي عميق، ومن هنا عدم مخاصمتها أيضا للعلاقات الخطية الممنطقة سببيا.
وعادة ما يكون للجماعات السيكولوجية التي ترشد وتحث وتشجع أهمية كبيرة، بالذات فيما يخص الكاتب الجديد، نظرا لعدم اكتمال أناه
المبدعة، فهي تنبهه وتوجهه التوجيه السليم فيجد فيها اقتداء واع متبصر. وقد أتاحت "الورش" التي انتمي إليها إدريس طريقا لكل ذلك، فضلا عما كانت تتمتع به من رؤية اجتماعية متقدمة في حينه، ساعدت إدريس علي تعلم كيف يري، إلي جوار: كيف يلتقط ويسمع ويحكي.
إن الظروف قد هيأت ليوسف- منذ البداية- "جماعات" دعم سيكولوجية مختلفة من الكتاب والنقاد المحترفين. وكان يوسف منفتحا في عرض محاولاته علي هذه الجماعات، التي قامت بدورها الحيوي في عمليات الحفز والاستثارة والتدعيم. وبالإضافة إلي تقديمها نصائح نافذة فقد ساعدت يوسف علي مواصلة الطريق، موفرة عليه كثير من العثرات، وكان لها تأثيرها النفسي الحاسم، حتي لو اقتصر بعضها أو حتي كثير منها علي المجاملة، فمن المسلم به ميل إدريس في هذا الصدد إلي الاستهواء.
وقد زود الفكر الاشتراكي إدريس، مع خبرته بالواقع- الجدلي بالطبيعة- بنظرة جدلية حقيقية امتد أثرها إلي قراءة هذا الواقع. لكن فكر إدريس تميز بأنه اغتني بروافد عديدة أثرته كثيرا. لقد كان الفكر التطوري أحد مصادر النظرة المتفائلة في أعمال إدريس الأولي. وكان الفكر البيولوجي خطا أساسيا في تكوينه، اتضح خلال نتاج مراحله المتقدمة بالذات. كما كانت الثقافة العلمية تضرب عميقا في نظرة إدريس إلي كل أمور الحياة. وكان كل ذلك بين ما أتاح له "قوانين إنسانية" شكلت قوام عدد من أعماله الهامة، وبين ما أكسب بعض أفكاره الفانتازية مسحة من الإقناع.
إن كل ما سبق جعل أعمال إدريس أقرب للطرح الحداثي، في إطار شعار "الأصالة والمعاصرة" الذي شاع في حينه، وفي إطار ما يقوله إدريس عن المراحل التي مر بها أدبه: "لقد مرت بي مرحلة عملت خلالها علي خلق قصة مصرية قصيرة. وقد حدث. ثم اتجهت إلي تطوير هذا المفهوم وربطه بلغة العصر. وقد حدث".
لقد أثرت المعارف الطبية والنفسية والاجتماعية والعلمية خبرة يوسف إدريس العميقة بالواقع، وأتاحت له أن يقدم قراءة واعية له، لم تكن تحتاج لتبز ما كان موجودا علي الساحة في حينه إلا أن يربطها المنهج الذي تمرس به في دراسته الطبية، مع الحس الدرامي الراقي الذي تكون له عبر دروب الحياة.
وحابي القدر إدريس من جديد حين اكتملت "دائرة الإبداع" فيما يخصه، علي نحو نادر الحدوث: من فرصة التكوين الجدلي الجيد، إلي وفرة الخبرات، إلي إمكانية النشر والوصول إلي أوسع دائرة من القراء، إلي العائد المادي الباذخ في حينه، إضافة إلي احتفاء النقاد.
هذا كما كان الجو ممهدا بأمثل الصور لإبداع جديد، مما وفر علي يوسف كثير من مقاومة القديم، وهيأ له- بعد الورشة والجماعات النفسية الحاضنة- الأدوار الاجتماعية الهامة التي يقوم بها النقاد والقراء. والمعروف أن ما تقدمه هذه من تدعيمات وإشباعات، أو ما تحدثه من إحباطات ومضايقات تشكل عاملا هاما في تيسير أو إعاقة عمل المبدع. ولعل الظرف الاجتماعي الذي أتاح الفرصة لكل ما سبق، وهو ظرف النهوض الذي شهدته مصر خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وأسفر عن ثورة يوليو، لعل هذا الظرف هو العامل الحاسم في حاجة المجتمع إلي الإبداع، وفي اكتمال دائرة الإبداع، لأنه تسبب في حراك اجتماعي كان وراء خلق طلب حقيقي علي نتاج يلعب دورا ارتقائيا بالنسبة للعامة، أكثر من نتاج مغترب يكتبه مأزومون الواحد للآخرين.
لقد كان ذلك كله حافزا ليوسف علي أن يعمل من جانبه علي تطوير إبداعه والعلو به إلي ذرا جديدة. وقد حابي القدر إدريس من جديد في تملك أدوات التثقيف الذاتي والدراسة المنهجية. فقد أوضحت دراسة الطب ليوسف أهمية معرفة اللغة الإنجليزية، كما أتاحت له درجة عالية من إتقانها. هذا كما أن دراسة الطب واحدة من أرقي الدراسات النسقية المنهجية، وقد أتاح له الوعي بذلك- إلي جوار الأداة- نموذجا يحث امكانية تثقيف نفسه تثقيفا نسقيا جادا في أي فرع يريد. ولاشك أن قراءة الكتب الإنجليزية كان لها تأثير
بالغ علي نظرة إدريس للحياة، وأنها فتحت آفاقه علي مستويات لم تتح لكثيرين ممن حوله، ومنحه ذلك اعتدادا بنفسه إن لم يكن تعاليا.
لقد أمدت القراءات المكثفة إدريس بثروة لا تباري فيما يخص طبيعة الفن عامة، وطبيعة القصة القصيرة خاصة، ودفعت قراءاته لنماذج الأدباء الكبار- ذات القيمة الفنية العالية- بقدراته الفنية خطوات واسعة. لكنه بين عوامل التكوين المتميز ليوسف تحصيله، أيضا، للكتابات النظرية الخاصة بفن القصة القصيرة، رغم نفي يوسف إدريس أنه قرأ في هذا الباب.
لكن إدريس تمكن من أن تكون لقصصه حبكة محكمة وبداية مشوقة من خلال الحس الذي تشكل له، عبر الكم الكبير من القصص البوليسية المشوقة المحكمة الحبكة التي قرأها في طفولته. ولا جدال في أن المواضعات التشويقية التي تفرضها ممارسة العمل الصحفي قد لعبت دورا في هذا الصدد.
لغة إدريس الفنية
هذا كله كان مع يوسف عندما اضطر إلي "الذهاب بما معه"، كما تطالبنا ثقافة الصحافة التي لا تنتظر ولا تمهل، غير أن أهم ماكان بين يديه هو لغته الفنية.
كتب يوسف: "كنت أزور عائلتي الحقيقية في الإجازات كأي ضيف.. واستمع إلي محاورات أخوتي فأحس وكأنهم يتفاهمون معا بلغة لا أفهمها.. فقد كانوا ينعمون بوضع اجتماعي أعلي بكثير من وضع القرويين، وإذا تحدثت ضحكوا لكلامي ولهجتي الفلاحية".
وجد إدريس أخوته يضحكون علي لهجته المختلفة وهو صغير فحاول أن يجاريهم في لهجتهم فدانت له، واستمرأ مع التنقلات الكثيرة (الزقازيق. طنطا. المنصورة. دمياط. البحيرة. الفيوم. القاهرة...) أن يتحدث مع كل بلهجته، فكان تدريبا كبيرا للذاكرة، ومخزونا متنوعا لها، وثروة من موسيقات اللغة، وخبرة مكنته في النهاية من إنجاز هائل.
يقول يوسف: "لدي ذاكرة سمعية قوية. بعضهم تتوقف ذاكرته اللغوية عند العاشرة.. عند لهجة أهل دمياط أو المنصورة أو بورسعيد... أما أنا فقد لاحظت علي نفسي التطور والتراكم. فعندما انتقلت من "البيروم" إلي الزقازيق وجدتني اكتسب اللهجة الجديدة. وحين ذهبت إلي القاهرة ربحت لهجتها دون أن تفقد ذاكرتي مخزونها القديم. وكنت أنطق اللهجة الجديدة نطقا سليما. ولما قرأت طه حسين وتوفيق الحكيم لم أكن أقرأ هكذا (يقصد قراءة عادية). وإنما تجد "الأيام" مطبوعة في رأسي. القرآن حفظت منه جزء عم وجزء تبارك. وأذهلني وأنا بعد صغير في هذين الجزئين أنهما جماع الموسيقي اللغوية العربية".
راح إدريس في سنوات عمره الأولي ينصت ويتعلم: "كنت شديد الشغف بالاستماع إلي حكايات الفلاحين وأساليبهم في الحوار والأحزان والأفراح و"الخناقات" والبيع والشراء. وكانت ذاكرتي تختزن في صمت".
والثابت علميا أن الطفل يتمتع في هذا الصدد بقدرات عجيبة تفوق إمكانات الكبير بكثير، ذلك أن القدر قد زوده بإمكانات تجعله قادرا علي تعلم أي من لغات العالم، لكن هذه القدرات تضمحل إن لم يجر دعمها، وأن كثيرا من الأصوات التي لاتعني شيئا بالنسبة للكبير أو التي لا يميز بينها، تنطوي علي إثارة وحفز بالنسبة للصغير.
وإلي جوار يوسف حلمي الرئيس المتحمس لجمعية أصدقاء فن سيد درويش (ورئيس تحرير مجلة الكاتب) تعرف إدريس علي نحو أوفي، عالم المعبر الأول عن شخصية مصر الموسيقية، الفنان العبقري سيد درويش. ووجد في هذا العالم استجابة عميقة لشيء يدور في نفسه. فقد خبر سيد درويش في أزقة الفقراء الأبجديات الوجدانية والصوتية التي يتعامل بها المصريون، وكان الوجدان الشعبي الوتر الذي امتدت إليه أنامله، فسلس له التعبير عنه، وراح يناجي الناس بما يهز كيانهم، ومنه انسابت الموسيقي إلي عروقنا لتشعل جذوة حياة حقيقية في قلوبنا.
ومن البين مغالطة إدريس في ارجاع هذه القدرة اللغوية إلي أمر خصه القدر به، بعيدا عن الخبرة والتدريب، فمن الواضح مما سبق أنها اكتساب أقصي ما يمكن التأكيد بصدده أن إدريس كان مؤهلا بالفطرة له.
المهم أن إدريس راح يؤكد في النهاية: "لم أكن أستخدم المفردات أو التراكيب العامية اعتباطا، وإنما توظيفا للموسيقي الشعبية، لقد غيرت موسيقي العربية الفصحي من كلاسيكية طه حسين إلي الموسيقي الشعبية المصرية أو الفلكلور الموسيقي الشعبي. إن عملي أقرب إلي عمل سيد درويش في استفادته القصوي من الإيقاع الشعبي للموسيقي المصرية".
وتمثلا لخبرته اللغوية وخبرته خلال دراسة التشريح- باختلاف الأنسجة المتشابهة في الأعضاء المختلفة- تنوعت لغة إدريس، مقارنة باللغة الواحدة التي كان يلتزمها كل من مجايليه، حتي أنه يمكن القول إنه ليست هناك "لغة" واحدة في كتابته، فاللغة جزء لا يتجزأ من بنية الشخصية وعنصر من عناصر تكوين الحدث، بحيث يستقل هذا الكيان اللغوي ويصبح له قوامه الخاص.
يقول إدريس: "لست مقتنعا بوحدة اللغة أو الأسلوب في الكتابة. فلكل قصة عندي لغتها الخاصة. كل قصة غالبا ما تكون حدثا فريدا أو شخصية جديدة. ومن ثم أحلاما جديدة ورموزا فريدة. ألا يتكون من ذلك كله لغة جديدة تنفرد بها هذه القصة دون غيرها؟ إن اللغة الفنية هي التي تجسد الواقع الأعمق للشخصية حتي إذا تكلمت بالفصحي المبسطة. أي أن المسألة ليست عامية أو تبسيط لغة. وإنما العثور علي الإشارة السرية الصادرة عن المركز اللغوي الفني للشخصية. والعثور علي لغة هذه الشخصية دون غيرها من الشخصيات".
وهكذا فإن إدريس حين استخدم بعض المفردات والتراكيب العامية في قصصه لم يصدر عن "فكرة" لغوية أو أدبية أو أيديولوجية، وإنما كان يصدر عن "الانسجام" بين الواقع وعالم الشخصية الوجداني. فلغته لغة حالات لا يلجأ الكاتب فيها إلي مخزون الذاكرة أو إلي المستوي الذهني للشخصية، بل يستخرج لغة هنا والآن من قلب الحدث و"الحالة" التي يخلقها الفعل الإنساني، لذلك فهي لغة شديدة الخصوصية، لا يعرف أسرارها معجم ولا حتي المؤلف الذي يكتبها. إذ أنه يستجيب فقط لما تفرضه حالات الناطقين بها، من حيث الإيقاع والمفردات والتراكيب، في أسلوب يتشكل بلا نموذج مسبق.
وقد نجح إدريس في تشكيل لغته علي هذا النحو نتيجة لأسباب مختلفة منها تجربة طفولته والصبغة العملية لتدريبه الطبي وانتماؤه السياسي ومزاجه الفني، وأخيرا تفضيله الالتزام بقواعد الحياة قبل قواعد البيان، كما أثر التعامل مع المطبعة الصحفية بالجاهزية الطبية في تطوير هذه اللغة.
لقد ساهم ذلك كله في صنع قناعة يوسف إدريس بأن نثر القصة القصيرة نثرا مختلفا عن النثر العادي.. صحيح أنه ليس شعرا، ولكن "له بحور لم تكتشف بعد". ومن هنا أهمية الجملة الأولي: "فهي التي تحدد المعني ونوع الموسيقي اللغوية التي سأستعملها والبحر النثري الذي سأخوض فيه".
نهم إدريس للحياة
وعلاقته بالمرأة
وظروف إدريس الحياتية تبرر اتفاق الدارسين علي نهمه للحياة، وعلي أن علاقاته بالمرأة لم تكن من العلاقات المعتادة، وعلي أن شطحاته الشخصية كانت مصدرا يستقي منه "إلهامه" الفني. وتجربة إدريس الدرامية مع المرأة والجنس أعفته من الحرج في الاستفادة منها علي نحو مسهب وبالغ الرقي في عالمه الفني.
وقد كان لعلاقات إدريس بالنساء في طفولته، وبأمه بالذات، تأثير بعيد في تكوينه النفسي، إذ "يعزو إدريس إلي تجربة طفولته وصباه الريب والشكوك التي تملك عليه نفسه في علاقته بالمرأة وبالغير... ومن الواضح أن هذه الشكوك والمخاوف تلم به بصورة قهرية دون أن يستطيع لها دفعا بالعقل أو الإرادة". "ويكشف ذلك المصادر الأولي للقلق والمخاوف وشعور المطاردة والأفكار القهرية التي أصبحت من معالم شخصية إدريس، تحت تأثير المناخ الرقابي الذي أوجدته الثورة"
وفي تفسير ذلك قال:" الأم مش بس تديك الحنان والحب والأمان والعطف، وتحب فيها جنس النساء. الأم تعمل ما هو أخطر وأهم. إنها أول امرأة تعرفها، فإذا كانت العلاقة بينك وبينها علاقة تفاهم، ففيما بعد سيمكنك التفاهم مع بقية النساء. فإذا كانت علاقتك بها علاقة سوء تفاهم ستظل علاقتك بالنساء جميعا سيئة في مستقبل حياتك". ولم يقتصر الأمر في خلل علاقة الطفل يوسف بالنساء علي الأم:" طوال سنوات طفولتي كنت تقريبا محروما من المرأة كأم وأخت وقريبة أيضا". لكن الأمر اختلف حين جاء إدريس إلي القاهرة: "صدمة المدينة بالنسبة لي لم تكن رؤية الجنود الإنجليز أو العمارات والشوارع الكبيرة وإنما كانت المرأة".
وأحدث الواقع الجديد (القاهرة ودراسة الطب والعلاقة بناجي والأدب والأوربيات) إنقلابا في علاقات إدريس بالمرأة. وكان نتاج ذلك نظرة ذات شقين: "إن الجنس هو التجسيد البشري للحياة.. تلف وتدور وستعود إلي أن الحياة تجد تعبيرها الأقصي في الجنس لأنه العلاقة الأقوي والأعمق والأبقي بين طرفي الحياة.. عمليات التسامي وما شابهها هي عمليات المثقفين الخانعين المتهافتين الضعفاء. أما أنا- إدريس- فقادم من لحم ودم الحياة. وحتي لا أبتعد عنها يجب أن أظل مقتربا دوما من مصدرها وألا أخطئ الرؤية... إننا في عز السياسة نلجأ للجنس كعنصر كاشف.. يبقي "الرجل- المرأة- الجنس" أو الحياة، والحياة بعدئذ هي السياسة والمجتمع والاقتصاد. ولكن الأساس أو نقطة الانطلاق هي الجنس".
إن علاقة إدريس غير العادية بالمرأة والجنس امتزجت بالقلق والمخاوف وشعور المطاردة والأفكار القهرية التي أصبحت من معالم شخصيته، تحت تأثير المناخ الرقابي الذي أوجدته ثورة 1952 وتقلباتها. وقد ساهم ذلك كله في اعتماد إدريس علي الجنس بصورة أساسية في بعض مراحل إبداعه. إن "التابوهات" تحيط بعالم الجنس، تماما كما تحيط بالسياسة مما يُسهل أن يعري التمثيل بالجنس المثيل المقصود (السياسة). فضلا عن أن قيمة الجنس ترتفع خلال أزمات الحياة، التي تسعي من خلاله للحفاظ علي استمرارها. وذلك ناهيك عن الصدي القرائي الواسع لما يتصل بالجنس في إطار ما يحيط به من "تابوهات".
إن فلسفة إدريس عن "الجنس والحياة" أعفته من الحرج في الاستفادة الفنية من تجربته الدرامية مع المرأة والجنس، علي نحو مسهب وبالغ الرقي، حتي أن الجنس صار القانون الإدريسي الأكبر الذي لا يقف في طريقه جدار السجن (مسحوق الهمس) أو فارق السن والطبقة بين الصبي المراهق والعجوز (دستور يا سيدة) أو الدين (جيوكندا مصرية).. يكتب إدريس في "جيوكندا": "قداسات الدنيا من المحال أن تباعد بين القوتين الأعظم للحياة إذا وجدتا، الرجل والمرأة، إذ ثالثهما هو القانون الشيطاني الذي لا يمكن عصيانه". ويكتب في "مسحوق الهمس" عما أحسه السجين:" غريزة وحشية مكتسحة كأمطار الصيف فوق خط الاستواء"، ويكتب في "دستور ياسيدة":" وحين تتقارب الأجساد يتطور الأمر وتتم شرارة الالتحام الصاعقة"، ويكتب في "العملية الكبري": "مددا التروللي في موازاة منضدة العمليات وبدا أن قوة علي الأرض لا تستطيع منعهما" من ممارسة الجنس في حضرة الموت،..
ورغم أن "العملية الكبري" كانت قصة عن لحظة حضارية (هزيمة يونيو 67) بالدرجة الأولي.. لأن الجراحات الكبري صارت تجري "بمعلمة"، ولمجرد تحقيق الأمجاد دون اعتبار لصالح المرضي المساكين، لم يبق من أمل أو سراب للنجاه إلا بممارسة الغريزة الفجة بين فكي الموت.. وحتي نوضح علاقة أدب إدريس بالجنس دون ابتسار، وحتي نفصل الحديث عن المرحلة المفصلية الختامية في حياته وفنه اخترنا أن ننشر مع هذه الدراسة قصة "بيت من لحم"، أو قصة الشيخ الضرير الذي دخل البيت ليقرأ علي المتوفي فتزوج أرملته، ليستسلم الجميع في اتفاق صامت للخطيئة ولسلطان الغريزة، لا فرق بين الأرملة الفقيرة وبناتها الثلاث العوانس وزوجها الجديد.. الشيخ الذي يقول لنفسه إن "أقصي ما يستطيعه هو الشك- في هوية ضجيعته- شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر، ومادام محروما منه فسيظل يحدس، محروما من اليقين، إذ هو الأعمي، وليس علي الأعمي حرج، أم علي الأعمي حرج؟".
كانت القضية المطروحة علي المجتمع العربي والكاتب أيام إدريس، ودوما، هي "كيف ننشيء مجتمعا عربيا حديثا في عالم حديث؟" وهل بيننا من يجرؤون علي التفكير في أننا نستطيع أن نضيف للتجربة البشرية؟ وكان التصور في مرحلة عبدالناصر مقابلة قوة الحضارة الغربية (المركزية السائدة) بقوة مماثلة، وجرت نظرة إدريس العامة للفن في هذا الإطار، وسعي لتكريس خصائص مصرية عربية إنسانية في فنه، عمل من خلالها علي تحقيق شخصيتنا المستقلة في الأدب والفن.

كان يوسف إدريس إجابة عن كيف ولمن يكتب الكاتب؟ هل يكتب للقارئ العربي الذي يعيش مشكلات عالمه القديم فيكون أدبه بلا قيمة (بالنسبة للعصر) أم يكتب أدبا "حديثا" يجده القارئ العربي غريبا عليه، ويصمه بأنه "مستورد"؟ رفض إدريس هذا وذاك وكان حالة للبحث عن "هوية واقية" حين تبين أن الهوية الواقية ألزم للعالم العربي.. لأن الدعوات العالمية صارت خليقة أن تجور علي كيان القومية وأن تؤول بها إلي فناء كفناء المغلوب في الغالب. كما كان يوسف محاولة لحل مايضطرنا إليه التناقض بين كوننا شكلا في العالم الحديث وكوننا جوهرا خارجه، مما يضطرنا إلي معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم.

كانت التصور الحضاري في فترة عبدالناصر مقابلة قوة الحضارة الغربية بقوة مماثلة، وكانت من الفترات القليلة التي عرف فيها العالم العربي نوعا من وحدة الشعور، حتي تخيل الكثيرون أن الوحدة السياسية أصبحت قريبة المنال. وكان إدريس يتفق ويختلف في إطار هذا التصور الحضاري. ثم جاءت هزيمة يونيو ووضعت التصور برمته في مأزق. وبموت عبدالناصر- الرمز والأمل رغم كل شيء- هُزمت الرؤية الحضارية التي عمل إدريس في إطارها، وحل واقع جديد سمته التواطؤ العام.. تحول الواقع إلي "بيت من لحم" بشري، استعاض عن التحقق بالوقوع في أنشوطة الخطيئة السافرة المتفق عليها في صمت، لينقلب المقدس إلي مدنس. الجميع (الشيخ والأرملة وبناتها) فاهمون وصامتون ومتواطئون. قوي الغريزة العمياء تعفي نفسها من مئونة الاختيار الأخلاقي، إذ تتبادل النساء الأربع خاتم زواج الأم، محافظة علي المظاهر، وكي يكون الزوج الجديد مطمئنا إلي أن ضجيعته في كل ليلة هي "زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه".
عود علي بدء
هكذا كانت بين يدي يوسف إدريس مقومات هامة كثيرة، حين وجد نفسه مضطرا للذهاب إلي كتابة القصة بما معه.. أسعفته ببعضها خبراته القديمة. مثل خبرته بأحاسيس قاع المجتمع التي أذهلتنا بتداعي الأحاسيس في أعماله علي نحو مبهر، وخبرته بالواقع وبأحلام اليقظة التي جعلت أعماله مرتعا للخيال الخصب الجامح الباهر، كما أسعفته ببعضها خبرات دراسته الطبية واهتماماته السياسية والاجتماعية.
إن تجربة الغربة والعيش منفردا منذ مرحلة مبكرة، جعلت إدريس شخصية مستقلة قوية الشعور بذاتها، من الصعب خضوعها لقواعد أو ضوابط أو عقائد صارمة، وساعده ذلك علي التجدد والتطور باستمرار. هذا كما ساعده التكوين الشخصي القلق المتململ الساخط المتمرد المندفع إلي الفعل، ساعده علي الامتياز في فن القصة القصيرة.. فن اقتناص اللحظة والخاطرة والصورة.
بقيت إشارات لا يمكن تجاوزها هنا أولها إلي أن الظروف المواتية، والطريق الأدبي الميسر نسبيا، مما عزز ميل يوسف إلي "قصر النفس" فلم يتعود الدأب والمثابرة، كما أنه أدمن أن يقابل عمله بالتصفيق والتهليل، مما جعله ينزعج من النقد، بل ومن أن يحظي غيره ببعض الضوء، وساهمت في ذلك عقدته مع النجومية.
أما الإشارة الثانية فهي إلي أن ما سبق يكشف أن هناك خلطا بين كون يوسف إدريس قد اخترع القصة المصرية القصيرة أو اخترع ما كتب دون خلفية سابقة، وبين أنه لم يكن متخصصا في دراسة الأدب، ذلك أنه مر بخبرات تعليمية كثيرة كما فصلنا. ولعله من هذا المنطلق علي وجه التحديد يمكن فهم ما يقال عن أن "يوسف كتب القصة القصيرة قبل أن يتعلم شيئا عنها"، إذا كان المقصود عدم تلقي المرء إعدادا آليا ميكانيكيا لآداء وظيفة محددة، فالواضح أن التكوين الجدلي الذي يترابط فيه كل ما يحصله المرء في الحياة من خبرات، كان ماضيا طوال الوقت علي قدم وساق مع إدريس منذ أيام الطفولة. ولا يقف ما جناه يوسف عند قيمة هذه الجزئية أو تلك أو حتي قيمة مجموع هذه الجزئيات، لأنها تجلت في مستويات كيفية جديدة مع الترابط الجدلي المتواصل.
وإن كان الباحث لا يستطيع البت في أن ما تيسر لإدريس قد جاء نتيجة لموهبة اختصه بها الخالق، فالمؤكد بعد مافصلناه أن ظروفا موضوعية وخبرات مفهومة دانت لإدريس في مسار حياته الدرامي البالغ الثراء، كان لها التأثير الحاسم.
لقد جاء إنجاز إدريس تحقيقا لاحتياجاته الأرقي، وعلي نحو لا يعلي عليه، فإلي جوار ما جلبه ليوسف من احترام لذاته ومن شهرة وذيوع، أتاه باعتراف الآخرين وتقديرهم واحترامهم. ومن الأهمية بمكان أن يوسف حين سعي إلي التعبير عن الحس الشعبي الجمعي كان طموحه لتحقيق ذاته "وعشقه للنجومية" يلتقي مع حركة المجتمع المصري السياسية والاجتماعية خلال المرحلة التي عاش فيها.
د. محمد فتحي
كاتب حاصل علي دكتوراه في نواميس النبوغ والإبداع (متخذا يوسف إدريس نموذجا)، وطبق المنهج الذي خلص إليه ودققه علي مائة مبدع ونابغ عربي. صدر له أكثر من 40 كتابا، وفاز بجائزة أكاديمية البحث العلمي في الثقافة العلمية وتبسيط العلوم ثلاث مرات، علاوة علي جوائز في كتابة القصة والمقال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.