«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبراهيم أصلان: عشت عمري كله مرعوباً من الكتابة!
نشر في نقطة ضوء يوم 26 - 10 - 2010

يشبه إبراهيم أصلان كتابته لدرجة كبيرة. لحضوره الأناقة نفسها. حين تستمع إليه وهو يحكي تتحول كلماته على الفور إلى مشاهد تتحرك أمامك. وكما يحرص في أعماله على ألاّ يفكر نيابة عن قارئه وألاّ يفرض عليه معنى بعينه، تجده، في كلامه، متوجساً من التورط في أحكام يقينية. لذا كان، من وقت لآخر، يعيد التأكيد على أنه لا يتكلم عن الصيغة المثلى للكتابة، إنما فقط عن وجهة نظره المنطلقة من تجربته. التقيته، وفي ذهني أن اللقاء لن يستغرق أكثر من ساعة، فإذا به يمتد لأربع ساعات متواصلة دون لحظة ملل واحدة. وكانت النتيجة هذا الحوار الذي بدأ بعمله الأحدث «حجرتان وصالة» وانتهى برؤيته لأبناء جيله.
- سوف أبدأ من التصنيف الموضوع على غلاف «حجرتان وصالة»، لماذا الحرص على تصنيف الكتاب ك«متتالية منزلية»؟
لا يوجد أي حرص على هذا. وجدت أن «متتالية منزلية» تعليق لا يخلو من طرافة. لكن يمكنك اعتبار العمل مجرد كتاب، وأنا عادة أتعامل مع أي كتاب أثناء كتابته باعتباره كتاباً له ملامحه وشخصيته المستقلة، وهذا يعني، قدرته على التأثير أو البقاء إن أمكن. لا يهمّ إن كان هذا الكتاب مجموعة قصصية أم رواية. التصنيف يتم عادة من قِبل الناشر، لكني أثناء الكتابة أكون مشغولاً بإنشاء الكتاب كحالة متكاملة، فحتى لو كان مجموعة قصصية، أحرص على ألا تكون القصص منفصلة عن ارتباطات أعلى بالمجموعة ككل، أي أنني انتقل من حالة لأخرى لاستجلاء عالم مرتبط ببعضه بعضاً من أجل تقديم حالة جمالية متكاملة ومترابطة.
- لكن ألاحظ أنك أكثر أبناء جيلك اهتماماً بفكرة التصنيف ظاهرياً على الأقل. الكتابان السابقان «خلوة الغلبان»، و«شيء من هذا القبيل» حرصت على تصنيفهما كنصوص سردية.
هذه النصوص السردية كانت قائمة على وقائع حقيقية مع استخدام تقنيات القص. لديّ اعتقاد أن أهمية المادة التي تتعاملين معها لا تُكتسب من كونها مادة متخيلة أم واقعية تعتمد على وقائع حياتية، إنما تنبع الأهمية من الطريقة التي تتعاملين بها معها. هذا ما يهمّني بالأساس، وثمة هاجس دائم لدي بأن الواقع ممتلئ بإمكانيات إنسانية وجمالية ونقدية كثيرة، وإذا قام الواحد منا بتأهيل نفسه جيداً للتعامل مع هذا النثار اليومي، يمكنه أن يخرج بأعمال فنية بالأساس رغم أنها وقائع يومية.. «خلوة الغلبان» و«شيء من هذا القبيل» كانا وقائع حياتية. لجأت لتقنيات قص بالكامل، لكني كنت أتغلب على المحاذير الإبداعية التي أرى أنه لا يليق التجاوز عنها. بهذا التصنيف منحت نفسي مساحة أرحب، واستطعت التغلب على خوفي.
- كانت إذاً حيلة نفسية للتحرر؟
بالضبط. لأنني مع الوقت أصبحت أراعي بشدة مجموعة من المبادئ التي أضحت بشكل تلقائي جزءاً من شغلي. هذه المبادئ تحجب المساحات التي لا تتلاءم معها. وكنت أريد اختبار هذه المساحات، وهذا الشكل من الكتابة أتاح لي ذلك.
- إذاً لم يكن الغرض من تصنيف «حجرتان وصالة» كمتتالية منزلية إبعاده عن أن يُصنف كرواية.
إطلاقاً. تقديري أنه عمل روائي. «حكايات حارتنا» لنجيب محفوظ كانت حكايات لا علاقة بينها غير أنها حدثت في «حارتنا». كان المكان فقط هو ما يجمعها ببعضها بعضاً. في «حجرتان وصالة» المكان واحد والشخصيات وخلافه، كما أنه يجب أن يُقرأ بالترتيب. هو عمل روائي.
على ذكر المكان، أشعر أن المكان هو البطل الأول للعمل بدايةً من العنوان، حتى أنك لم تركز كثيراً على وصف الشخصيتين الرئيسيتين قدر اهتمامك بوصف المكان الذي يتحركان فيه وجعله مرئياً للقارئ ..عنوان الكتاب له - كما تعرفين - مدلول شعبي شائع جداً في موروثنا الشفاهي.
- صحيح. معظم الأسر المصرية تعيش في شقة من حجرتين وصالة، كما أن العنوان يشير لطبقة محددة ويرسم ملامح اجتماعية واقتصادية معينة للشخصيات.
بالضبط. أثناء الكتابة كان يعنيني تأمل اللاشيء الجامع بين زوجين متقدمين في العمر. لأنك لو تأملتِ أي علاقة ستجدينها قائمة على نسيج هين جداً ولا يصلح لشيء على الإطلاق.
- البطلان هنا مسنان جداً، ومحاولة تأمل مجموعة التفاصيل العينية التي تدور عليها حياتهما هي أساس الكتاب.
هناك من كتبوا أنك بهذا العمل أبدعت للشيخوخة أدبها، ما رأيك في توصيفات كهذه؟
الكتاب من الممكن أن يؤدي في النهاية لقراءات مماثلة لأنه مكتوب عن اثنين تقدم بهما العمر. لم أقصد هذا، لكني كبرت، وأنتِ عندما تكبرين ستجدين أن العالم الذي تحبينه يكبر معكِ، وهذا شيء لطيف. من هنا أحببت تأمل علاقة تقدم بها العمر وأصبحت صلاحيتها شبه منتهية (يضحك). ثم أنه من الكتب القليلة التي أكاد أشعر أني لم أكتبها. رغم ما تحتمله العبارة من إدعاء، أشعر أن هذا الكتاب كُتِب من خلالي. لم أجد في كتابته أي عنت إلا المجاهدة مع البناء والصياغة وتحويل الأمر إلى جهد غير ملموس. هي كتابة تجفف عرقها تماماً. الكتاب يتحول في النهاية إلى ابتسامة تقابلين بها شخصاً آخر، لدرجة أني لا أتذكر محطات في كتابته، وكيف جرت الأمور على هذا النحو. لا أعرف كيف جاءت التفاصيل، شعرت فقط أن دوري أن أُتيح لهذا الكتاب أن يُكتب، لا أن أكتبه أنا.هذا الشعور وصل للقراء. أثناء القراءة أحسست أن خليل وإحسان شخصيتان موجودتان فعلاً، وأن دورك هو أنك فقط جعلتهما مرئيتين لي. وصلني هذا من قراء كثيرين. وسمعت أن كثيراً من الأزواج يتبادلون الكتاب. في هذا الإطار اعتقد أنه نجح في إزالة العوائق بينه وبين أي متلقٍ.
- بالمناسبة، الطبعة الأولى نفدت خلال أسبوعين فقط، ما إحساسك بعد أن أصبحت «بست سيلر»؟
هذه أول مرة يحدث معي هذا، وبدأت أقتنع أن ال«بست سيلر» من الممكن أن يكون دلالة على شيء طيب. (يضحك).
- هل تعرف أنني كلما قرأت لك أتساءل عن سبب تمسكك شبه الدائم بالراوي المحايد؟
هو انحياز شبه دائم بالفعل. الحياد هنا ليس تعبيراً عن موقف فكري بقدر ما هو أداة فنية، لأن القارئ لا يقرأ الكاتب كي يعرف انحيازاته. انحياز الكاتب يُعرف من جملة، من رأي ولا يستحق التعبير عنه مشقة كتابة كتاب. نحن نقرأ كي تساعدنا الكتابة على اتخاذ مواقفنا، وهي ليست مجالاً لي ككاتب للتعبير عن مواقفي. هذا نوع من الحضّ لا أحبه، وأرى أن عليّ أن أعمق في نفسي إحساس شاهد العدل الذي يتوخى الأمانة وهو يعرض الحالة لأنها أخطر من أن يقول رأياً فيها. الغرض في النهاية أن يأخذ المتلقي مواقفه على ضوء ما يتلقاه.
- قد يرجع هذا الانحياز للراوي المحايد إلى أنه من أكثر أنواع الرواة اهتماماً بالمشهدية، إذ يقدم العالم عبر مشهد بصري محايد لا يفصح عما وراءه، وأنت رؤيتك بصرية بالأساس.
صحيح. أنتِ عادة ما تجدين نفسك مدفوعة إلى تقنيات تتوافق مع إمكاناتك وطبيعة رؤيتك للكتابة، ودورك ككاتب. أنا رؤيتي بصرية بالفعل. وعندي معركة طويلة جداً مع اللغة رغم أن هذا لا يظهر بسهولة.
- لغتك تبدو كما لو كانت تأتيك بسهولة.
وأنا أكتب أريدك بالأساس أن تري وتسمعي وتتذكري وتحسي. إذا قرأتِ بدرجة من العنت، إذاً أنتِ لا ترين إلا بشيء من العنت. أنا أريدك وأنتِ تقرئين كأنك في مواجهة كادر حي ينمو فيه حدث وتتحرك علاقات. هذا ما أتوخاه، وهو يتضمن بعض الأشياء التي قليلاً ما أصرح بها.
يتضمّن مثلاً أني إذا كنت أسعى نقيضاً لفعل القراءة فأنا أسعى نقيضاً للدلالة، لأني ليس لديّ معنى أرغب في توصيله للقارئ. أنا أسعى نقيضاً للدلالة سعياً لدلالة أخرى تتوصلين لها بنفسك. أسعى لأفق آخر. لا أبدأ بدلالة أحاول البرهنة عليها في العمل، لأن الحقيقة الفنية عموماً ليست بحاجة إلى برهان. هي شبيهة بحقيقتك وحقيقتي، وأي إنسان وجوده لا يتطلب برهاناً على أنه موجود. هذا مسعاي، وهو ما دفعني للعناية بالفنون المرئية، وبالإمكانات الفنية الموجودة فيها. كنت راغباً في إغناء الوسيط الذي أعمل من خلاله، لأن اللغة ليست الوسيط المناسب لتقديم شيء مرئي. بمعنى أنكِ إذا دخلتِ إلى مكان وأردتِ وصفه سوف تنتقلين من تفصيل لآخر عبر جمل يعبرها القارئ، ويكون من الصعب عليه أن يرى المشهد كاملاً مثل كادر سينمائي أو مثل لوحة، فأنتِ تأخذين الوسيط الذي تشتغلين عبره للتعرف على إمكانات أخرى. مثلاً في ما يخصّ العلاقات بين الأشياء، لو توقفتِ عند تفصيل ما، وأنتِ تقرئين تكون هناك علاقة ما تربطك بشيء آخر فتتردّد التفاصيل مع بعضها بعضاً داخل الجدارية، ويكون هناك حدث ما دائر نتيجة لهذه العلاقات حتى لو كانت صامتة. لو أنصتنا بشكل جيد فسنشعر أن هناك حواراً ما بين هذه الأشياء.
- بالعودة للراوي، هل حاولت ذات مرة أن تكتب براوٍ عليم مثلاً أو بضمير الأنا ووجدته غير مناسب؟
كتبت بضمير الأنا من قبل.
- لا أقصد المرات التي تحققت بالفعل، بل تلك التي حاولت فيها ولم تستطع.
نتعامل مع هذا أحياناً، لكن لا بد من التعامل معه بحذر، لأني موقن أن الكاتب لا يمكنه اصطناع سيكولوجية لشخصية. أرى هذا أمراً محكوماً بالفشل. فداخل أي إنسان كون كامل، والإدعاء بأنني أخلق شخصية حية قد يقودني لخلق جثة. المفارقة بالنسبة لي أن الشخصية لا تحيا أمامي إذا تكلمت عنها أو وصفتها، إنما تحيا بمجرد أن تنطق كلمة واحدة تخصها، لأن هذه طريقة في التفكير وإيقاع داخلي ما، وتبدأ الشخصية في النمو من ردود فعلها وليس من أفعالها، ونحن نهتدي في هذا بالدنيا من حولنا، بمعنى أنك عندما تقابلين شخصاً ما لن تجدي على صدره لافتة بمكوناته وصفاته، إنما بمجرد أن يتكلم تبدئين في التعرف عليه رويداً رويداً. نحن نهتدي بما يحدث في الدنيا، ومن المفارقات أنكِ عندما تفعلين هذا قد يرى القارئ أن ما تكتبينه غير حقيقي لأنه تربّى على الروايات مثلما عرفها. الدنيا ليست مرجعه إنما الروايات التي قرأها ويقيس عليها. ما هو حقيقي بدا غير حقيقي.
- جملتك الأخيرة مناسبة تماماً في ما يخصّ «حجرتان وصالة» بمعنى أن العمل يتناول تفاصيل واقعية جداً وقد تحدث أمامنا يومياً، لكنها تصيبنا بالدهشة حين نقرأها مكتوبة.
يلفتني دائماً المتميز في قلب الشيء العادي. أنتِ ككاتبة جهاز استقبال مؤهل لاستقبالات معينة. بمعنى أن هناك تفاصيل معينة تجد استجابة لشيء بداخلك، وتشعرين فيها بما هو إنساني وتحسينه بقوة، هي التفاصيل التي تبدو مستغربة جداً لكن المهم هو أن نجيد استقبالها.
- السخرية عنصر أساسي في الكتاب، لكنك كنت حريصاً على أن تكون سخرية خفيفة، هل يعبر هذا عن موقف ما من السخرية الواضحة كما نجدها لدى كتاب آخرين؟
الضحك صنوف ودرجات، أنا أستهدف الابتسامة التي تعمّق إنسانيتك حين تبتسمين، الإبتسامة التي تعمق الإحساس بالتعاطف وبالإخوة مع ما تقرئين، وهذا النوع من السخرية يجب أن يكون محسوباً بميزان داخلي، بحيث يصل بالقارئ لدرجة من التعاطف الإنساني.
- شعرت بالفعل بالتعاطف مع بطلك خليل حين جلس عن طريق الخطأ في غرفة انتظار عيادة الأمراض النفسية.
(يضحك) أيوه. هو قرر فجأة يعمل أشعة مقطعية لأن اسمها له وقع محترم. «قال لك هي دي اللي هتحل كل حاجة».
- بدأت النشر عام 1965، وفي عام 1969 نشرت مجلة «غاليري» 68 ملفاً كاملاً عنك، أي أنك كنت كاتباً مدللا منذ البداية، كيف أثر هذا عليك؟
صحيح. كان هناك اقتناع كبير بما أكتبه. وأعتز اعتزازاً لا مزيد عليه لأن من قدموني هم أبناء جيلي. فعلوا ذلك باعتبار أن ما أكتبه يعبر عن سمات مشتركة لهذا الجيل. سعادتي بهذا كبيرة جداً، لكنه خلّف أثراً عكسياً، لأنه أخافني وأفقدني درجة كبيرة من تلقائيتي. كنت عندما أمسك القلم أشعر أن هناك من يراقبني. كنت لا أريد أن أظل حبيساً للصيغة التي طرحتها. وفي الوقت نفسه هذه الصيغة نالت التقدير والإعجاب، ومن هنا يكون هناك ميل للحرص عليها كي لا تفقدي هذا التقدير. كان هناك صراع داخلي، استغرقت من «بحيرة المساء» 71 حتى «مالك الحزين» 82 كي أصل لصيغة مختلفة.
- على ذكر جيل الستينيات، شخصياً أحبّ عبد الفتاح الجمل وأحترم كتابته، وقرأت كثيراً عن دوره بالنسبة لجيلكم، كيف ترى هذا الدور من منظور شخصي؟
مثل الجمل نموذجاً اختفى من حياتنا الثقافية، وهو نموذج الكاتب والمسؤول الثقافي الذي يحتفظ في وجدانه بقوام كامل للمنجز الأدبي المصري، بحيث لو قرأ أي قصة مثلاً يعرف مكانها في هذا المنجز، وما الإضافة التي تمثلها. كان لديه معيار جغرافي وجمالي داخلي يتيح له أن يشمّ التجديد ولو في جملة. يتوافق مع هذا، الضمير الخالص. أسميت الجمل أحد أفراد قوى الخير التي كانت موجودة ومعه يحيى حقي وعلاء الديب.
- علاء الديب كان من جيلكم نفسه؟.
نعم، لكنه أخذ على عاتقه متابعة وتقديم كتّاب الجيل والبحث عن المواهب الحقيقية. أفراد مثل الديب والجمل وحقي يحفظون لأي حياة ثقافية توازنها. أنا مثلاً كنت نشرت في «حوار» في بيروت و«صباح الخير» و«المساء»، وغيرها، لكني لم أشعر أني كاتب إلا عندما نشر لي يحيى حقي في مجلة «المجلة»، لأني أعرف أن المعيار وراءها هو معيار بالغ الرهافة. في تقديري أن التربية المثلى لفنان لم تتوفر لأحد في الثقافة المصرية كما توفرت ليحيى حقي. كانت لديه معرفة رفيعة في السينما والمسرح والتشكيل والشعر والأدب والأوبرا، الخ.
- وعلى الرغم من هذا لم ينل ما يستحقه من تقدير؟.
هذا طبيعي لأنه كان محباً للظل كارهاً للأضواء. أنا إذا كنت خرجت للضوء بدرجة ما فقد حدث هذا رغماً عني. حقي استطاع أن يحتفظ بالظل طوال الوقت. تخيّلي أنهم في «الأهرام» سعوا طويلاً وراءه كي ينضم لكتّابهم، لكنه رفض، وفضّل الكتابة في «التعاون» التي لا يقرأها أحد.
- بدأتم، كجيل، بكتابة القصة القصيرة في أوج تألق يوسف إدريس، كيف أفلتم من تأثيره لهذه الدرجة التي جعلتكم تنحازون لذائقة ومزاج كاتبين مختلفين تماماً عنه؟
حدث هذا لأسباب قهرية تتجاوز إدريس وتتجاوزنا. الظرف الاجتماعي وتخلق حساسية جديدة كان لهما دور كبير في هذا. كما أني لم أتعلم فكانت مرجعيتي دائماً هي الحياة. وعلى المستوى الشخصي لا أصلح لحمل رسالة حُملت قبلي عشرات المرات وتم توصيلها، وأكاد أكون لا أقدر على هذا عضوياً. ما أدهشني في إدريس قدرته على إيجاد معادل حياتي إنساني لما هو أيديولوجي. على المستوى الإنساني كان إدريس أكثر دفئاً وحميمية من نجيب محفوظ، فالأخير على الرغم من كونه ابن بلد، كان لعلاقاته حدود معينة لا ينبغي تجاوزها. إذا قام من مقهى ريش مثلاً، تنتهي علاقته فوراً بالجالسين فيه.
- دائماً ما تخيلت العكس بالنظر إلى أن إدريس كان نجماً وطاووساً عاشقاً للأضواء؟.
لا، كان لطيفاً وحميمياً جداً على المستوى الإنساني. ومع ذلك كانت نرجسيته وحبه للأضواء يدفعانه لمهاجمة جيلنا في حواراته. كان يقول لمحفوظ عنا: «دول خطافين طواقي يا نجيب بيه!». محفوظ كان يلجأ لأسلوب أكثر ذكاءً. عندما كان يُسأل عمّن يعجبونه في جيلنا كان يذكر مثلاً خمسة أسماء، منهم اثنان جيدان، وثلاثة رديئون جدا. وهذا أسلوب يتكرر كثيراً، لكن أنتِ مع الوقت تصلين لمرحلة لا يستطيع أحد فيها أن يتجاهلك، ولو فعل سيبدو مجحفاً وغير موضوعي. سيقلل من قدر نفسه لو فعل.
- منذ سنوات عرفت من صديق مشترك أنك كثيراً ما تتدرب على الكتابة؟.
بل دائماً، حتى كتاباتي المنشورة هي تدريب على الكتابة. يبدأ الموضوع كتدريب ثم ينتهي بعمل منجز. عشت عمري كله مرعوباً من الكتابة. كان بداخلي دائماً مقاومة داخلية لها تتكافأ مع رغبتي فيها. ولم أفقد رعبي هذا إلا بسبب كتابتي الأسبوعية للأهرام والتي بدأت منذ ثلاث أو أربع سنوات.
- من أين أتى حرصك على تطعيم الفصحى بالعامية على النحو الذي نجده في أعمالك، أحياناً تدخل للسرد كلمات عامية أو عامية تم تفصيحها، والحوار قد تتجاور فيه العامية مع الفصحى دون احساس بالتنافر بينهما؟
كنت حريصاً على الوصول لنبرة معينة، مثل العازف حينما يضبط أوتار العود كي تتواءم مع إمكاناته الصوتية. هذه النبرة تتحقق في الموسيقى عبر لوازم، وفي الكتابة عبر جمل. أسعى نحو تجسيد هذه النبرة أياً كانت المفردات التي أستخدمها، المهم أن يتحقق صوتي. السرد ليس سرداً روائياً فقط، بل سرد اجتماعي وسياسي، الخ. هذه السردوات تقوم بها مؤسسات حاكمة، وتتبدى في صياغات لغوية، ومنطق هذه الصياغات اللغوية أنها تفكر بدلاً من الناس، تتخيل بدلاً منهم، ونحن نستلهم هذه الصياغات كي لا نفكر بأنفسنا، والحقيقة أننا نفكر بدلاً من الآخرين. نحن غالباً نفكر بأنفسنا ونستلهم هذه الصياغات الجاهزة لأنها هائمة في الهواء الطلق مثل الطواقي والطرابيش، والواحد منا يحرك رأسه إلى أن يلبس طاقية يفكر بها. مهمة الكتابة تحرير الكلمات من صيغها الثابتة. لأنكِ بمجرد أن تقومي بتغيير الكلمة داخل الجملة، تحررينها وتمنحين المتلقي إمكانية أن يفكر بنفسه. أنا أستلهم نبرة الحكي الشفاهي، لأنه الحكي الوحيد الذي لا يفكر بدلاً من القارئ/ المستمع.
- في النهاية، مَن مِن كتاب جيل الستينيات تشعر أنه أقرب لك ولذائقتك؟
محمد البساطي. أحب كتابته، وقدّرته مبكراً. قبل ظهوري كان متألقاً وكان ينشر قصصاً في المساء نالت الإعجاب لأنه مثّل جسراً بين القصة الواقعية التي كانت سائدة قبلنا وبين النقلة التي أحدثناها كجيل. أنا كنت أمثل قفزة لكن لها جذور. البساطي، ولا بأس من بهاء طاهر في بعض أعماله. أيضاً كنت أحب عبد الحكيم قاسم وكنت أعتبره كاتباً والحقيقة من أعتبرهم كتاباً قليلون جداً. عبد الحكيم قاسم كان كاتباً لا جدال في هذا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.