تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    التموين: حررنا محاضر ضد مخابز مخالفة لقرار الأسعار وتحويلهم للنيابة    بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024 (آخر تحديث)    بحث الملفات القديمة وفرصة أكبر للمخالفين.. مميزات قانون التصالح الجديد قبل تطبيقه    مياه الشرب بالجيزة: عودة المياه تدريجياً لمناطق كرداسة والهرم    استشهاد 4 فلسطينيين في قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات وسط غزة    لا بديل ولا غنى عنه للشعب الفلسطيني.. بوريل يشيد بتقرير الأمم المتحدة حول الأونروا    الخارجية الأمريكية: التقارير عن المقابر الجماعية في غزة مثيرة للقلق    بينهم نتنياهو.. مخاوف إسرائيلية من صدور قرارات اعتقال لمسؤولين بدولة الاحتلال    «القاهرة الإخبارية»: تطور نوعي في العمليات العسكرية بالجنوب اللبناني    مواعيد أهم مباريات اليوم الأربعاء 24- 4- 2024 في جميع البطولات    تأهل 3 مصريين لنصف نهائي بطولة الجونة الدولية للإسكواش    شقيق العامري فاروق: الأهلي سيعلن قريبًا عن التمثال الخاص بالراحل    رئيس البنك الأهلي: نريد العدالة في توزيع حقوق بث المباريات    رئيس «البنك» يكشف كواليس مفاوضات الأهلي مع أبو جبل    الفرح تحول لحزن في البحيرة وكفر الشيخ.. وفاة صديقة الزوجة وإصابة العروسين أثناء «الزفة»    عاجل - درجات الحرارة ستصل ل 40..متنزلش من البيت    متشغلوش التكييفات.. تعليمات عاجلة للمواطنين في الموجة الحارقة اليوم    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    «المتحدة للخدمات الإعلامية» تطلق أكبر برنامج لاكتشاف المواهب والوجوه الجديدة    «رب ضارة نافعة»..أحمد عبد العزيز يلتقي بشاب انفعل عليه في عزاء شيرين سيف النصر    عصام زكريا: الصوت الفلسطيني حاضر في المهرجانات المصرية    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    رئيس هيئة الاستعلامات: الكرة الآن في ملعب واشنطن لإيقاف اجتياح رفح    قيادي بالشعب الجمهوري: ذكرى تحرير سيناء درس قوي في مفهوم الوطنية والانتماء    الأشد حرارة خلال ربيع 2024.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024    تحذير شديد بشأن الطقس اليوم الأربعاء .. ذروة الموجة الخماسينية الساخنة (بيان مهم)    محافظ الغربية: ضبط طن رنجة غير صالحة للاستخدام الآدمي وتحرير 43 محضر صحي    تراجع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024    تراجع جديد لأسعار الذهب العالمي    تعرف علي موعد تطبيق زيادة الأجور في القطاع الخاص 2024    الخطيب يفتح ملف صفقات الأهلي الصيفية    حظك اليوم برج الدلو الأربعاء 24-4-2024 مهنيا وعاطفيا.. الماضي يطاردك    أول تعليق من نيللي كريم بعد طرح بوستر فيلم «السرب» (تفاصيل)    السياحة توضح حقيقة إلغاء حفل طليق كيم كارداشيان في الأهرامات (فيديو)    مشرفة الديكور المسرحي ل«دراما 1882»: فريق العمل كان مليء بالطاقات المبهرة    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    بعد تأهل العين.. موعد نهائي دوري أبطال آسيا 2024    أرسنال يحقق رقمًا مميزًا بعد خماسية تشيلسي في الدوري الإنجليزي    واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأمريكية بعد هجومين جديدين    الاعتماد والرقابة الصحية توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنوفية لمنح شهادة جهار- ايجيكاب    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    ما أهمية بيت حانون وما دلالة استمرار عمليات جيش الاحتلال فيها؟.. فيديو    أمين الفتوى: "اللى يزوغ من الشغل" لا بركة فى ماله    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    "بلومبرغ": الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على 10 شركات تتعامل مع روسيا    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عفيفي مطر: شعري صعب.. وكتابة قصص الأطفال أكثر بهجة!
نشر في الدستور الأصلي يوم 02 - 07 - 2010

هناك عنصر من عناصر الكون يغيب إذا غابت كلمة من القاموس.. والشعر حيود الوباء موجود مهما تكتموا أمره.. وهو يسري بين الشعب الذي يعبر عن رغبته في مملكة أخري ليست لدينا مدن.. نحن أبناء القري الصغيرة والكبيرة روحي في تلقي اللغة
الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر
«عشت طول عمري إما في القرية وإما علي مشارفها، أو في مدن هي في حقيقتها قري كبيرة».
هذا بعض ما قاله «محمد عفيفي مطر» ونحن في شرفة شقته القاهرية المطلة علي «النيل»، نحتفل ببلوغه سن السبعين بعشاء بسيط أعده بنفسه، بينما توليت إعداد كوبين من الشاي، أحدهما لي، والآخر لشاعر منحوت الوجه من جرانيت الصلابة وتاريخ المعرفة، أبيض الشعر كأن سحابة من الشيب تظله أينما ذهب، أسمر البشرة كأن شمس «العالم الثالث» لم تلوح غيرها. هو الفلاح الذي زادته الثقافة تمسكاً بأرضه، وتعامل مع المعرفة بشهوة الزارع وهو يبذر بذوره، وصبره وهو يرتقب الحصاد.
وأذكر أن الكاتب الصحفي «إبراهيم عيسي» سألني وهو يشير إلي «عفيفي مطر»: في رأيك لماذا نحبه كل هذا الحب؟.
فقلت بلا روية: لأنه بإنسانيته العميقة يكتشف إنسانيتنا ويتواصل معها.
تحدثنا عن اللغة والحضارة، عن نذر الانقراض وعن شعره الصعب وقرائه الأقل قالها برضا كأنه يراهن علي الامتداد عبر زمن لا يصمد السهل أمام كر أيامه وتحدثنا عن الإبداع كمرآة لثقافة الأمم.
داعبته: أصبحت في السبعين.
فرد: هكذا علي غفلة.. والله لم أنتبه!.
قلت: مرت السبعون الأولي، وعليك أن تنتبه إلي السبعين المقبلة!.
وبدأنا حوارنا مع «لقمة علي ما قسم»، لم يكن حواراً صحفياً سابق التجهيز، ولا كانت المرة الأولي التي أحاور فيها «صديقي الشاعر الكبير»، لكنني، لسبب ما أدرت جهاز التسجيل، وحين استمعت إلي ما قاله أدركت أنني كنت علي حق عندما سجلته.
قال لي «محمد عفيفي مطر»: القاهرة هي في حقيقة أمرها قرية كبيرة، أحياؤها الأرستقراطية المنفصلة عن الروح الريفية قليلة جداً. ثلاثة أرباع أهل القاهرة ريفيون غادروا قراهم بالأمس القريب وجاءوا إليها عمالاً وموظفين وذوي مناصب أيضاً، لكنهم من قبل ومن بعد ريفيون.
وقال: الثقافة العربية هي أيضاً ثقافة قروية في حقيقة الأمر، حتي الرواية التي هي فن المدينة أقرب عند العرب إلي حكي السمار في الريف منها إلي الشخصية المعقدة المركبة المتأملة في المدينة. وأنا أحب الريف، أحب الزراعة وأمارسها حتي الآن، أزرع أرضي كأبي الذي كان فلاحاً وأربي النحل والحيوانات، ولا مانع أن أخسر بعض أموالي في مشروعات زراعية، فأنا أعود إليها مرة أخري لأخسر وأعود.. وهكذا.
حظوظ المبدعين من حظوظ أممهم
قلت: وتنفق نقودك علي الكتب أيضاً، فنحن في هذه الشقة "ضيوف علي الكتب «نحن» الإضافة والكتب هي «الأصل»، وأذكر أنك حدثتني مؤخراً عن رواية «شفرة دافنشي» التي فرغت لتوك من قراءتها؟.
رأيي أن «شفرة دافنشي» رواية بوليسية بسيطة نالت شهرة أكثر مما تستحق، فالكتب وحركات الفكر والشعراء والروائيون يأخذون غالباً أقدار شعوبهم، فيحصل المنتمون إلي شعوب متقدمة علي مكانة رفيعة، وتعرف أن هناك شعراء ومبدعين في الساحة العربية لا يقلون بأي حال من الأحوال عن أكثر الشعراء والمبدعين شهرة في أوروبا وأمريكا، لكنهم لا يحصلون علي بعض حظهم.
وقال «عفيفي مطر»: في المقابل هناك روايات تشعر وأنت تقرؤها بمدي الجهد الذي بذله المؤلف، مثل «لعبة الكريات الزجاجية» ل «هيرمن هيسه» أو رواية «اسمي أحمر» التي تشعر فيها بجهد عجيب في تتبع ومعرفة فنون الزخرفة والمنمنمات والمخطوطات في إيران القديمة، وصلات الفن التشكيلي في إيران والهند وتركيا، وحياة هذا الفن في قصور السلاطين والأطر الرسمية، وصراع الفنانين دفاعاً عن رؤاهم وأحلامهم الفنية، والخوف من التأثيرات الخارجية علي مسار المنمنمات والمخطوطات. تشعر وأنت تقرأ هذه الرواية برؤية خلاقة للفن كرسالة، والفن كرؤية للعالم. هذا الجهد العجيب المبذول في «اسمي أحمر» يدل علي دراسة طويلة لموضوع الرواية، دراسة إلي درجة المعايشة لسنوات طويلة.
وقال «عفيفي مطر»: في الرواية هناك عدة مدارس، منها: مدرسة تعتمد علي عمق الرؤية الإنسانية، علي تأمل الشجون والخصال والأخلاق، وهي المدرسة الروسية التي قدمت لنا كاتباً مثل «ديستوفيسكي» كان تحليله للنفس الإنسانية يصل إلي حد الكشف. وهناك المدرسة المصابة بداء التاريخ، التي تتصور أن الروائي هو التطور الطبيعي لحكاء السير الشعبية، وتقصر جهدها علي التاريخ والتأريخ وتحديد معالم المكان وتطور الأجيال بغير تأمل كبير ولا مكابدة لأي مفهوم فلسفي، وهذه هي المدرسة التي يميل إليها كثير من الروائيين العرب، ولا أميل إليها. وعندما قرأت «لعبة الكريات الزجاجية» تصورت أنها رواية تبين الأساس التربوي والأخلاقي للحضارة الأوروبية، خاصة في كيفية التعلم وطرق العلم والمعرفة، في المقابل فإن الرواية العربية في معظمها تعتمد علي فكرة «التأريخ»، تعتمد علي الحبكة القريبة من حبكة الرواية البوليسية. وأتصور أن هذا النقص أو هذا الفقر في التأمل يحول دون خروج الرواية من المجال الضحل التأريخي أو التعليمي إلي مجال التأملات الكبري العميقة. هذا الفقر الذي تعانيه الرواية العربية موجود أيضاً في الشعر وفي المسرح وفي السينما.
ديكتاتورية المتنبي
قلت: إذاً أنت تري أن الأمر يمثل «ظاهرة»؟.
- فقال «عفيفي مطر»: ذات مرة كتبت فصلاً نثرياً عن «المتنبي» وتوظيفه في الثقافة العربية كملخص للحكمة التي يمكن الاستشهاد بها كلما استعصي علينا التعبير عن موقف أو عن خلق، وكأن شعر المتنبي يلخص تجارب البشر، وهو يمتعنا أولاً ويبهرنا، وفي الوقت نفسه نردده لنشعر بحالة وهمية من التعبير عن النفس، بينما نحن نردد كلماته هو ولا نعبر عن أنفسنا، نستشهد بشعر المتنبي حتي لا نتحمل مؤونة البحث عن العبارة الخاصة والكلمة الخاصة.
كأننا نصادر حياتنا لصالحه، وهي حالة من حالات «الديكتاتورية»؟.
أوافق، وقارن بين موقفنا من شاعرنا الكبير «المتنبي» وموقف الحضارة الأوروبية من شاعرها الكبير «هوميروس»، الذي نشأت بين يدي شعره حيوات وإبداعات، ومازالت أعماله تلهم المبدعين. «هوميروس» لم يقف عند حدود الاستشهاد بشعره، لم تقف أمته معه عند الاستمتاع ببراعة العبارة أو إصابة الهدف من أقصر طريق كما فعلنا مع شعرائنا، ومنهم المتنبي.
وقد لاحظت هذا وسألت: هل العيب في المتنبي، أم في قراء المتنبي؟ فوجدت أننا نحن أهل المتنبي وقراؤه نملك ملاحم لا تقل في عظمتها ولا في روعتها عن «الإلياذة» و«الأوديسة». لكنها ملاحم ظلت أسيرة «السامر الشعبي»، ظلت في دائرة الاستمتاع الفلكلوري في حين تطورت ثقافتنا الحديثة بعيداً عنها، فلم تتفجر هذه الملاحم في أعمال فنية أخري، لم تتحول باستثناءات بسيطة.. زخرفية غالباً إلي إلهامات في السينما ولا في الشعر ولا في القصة.
وقال «عفيفي مطر»: إذاً المسألة ليست في الموروث ولا في المقروء، المسألة في الوارث لأن روح الإبداع هدأت تحت سطح الاستبداد السياسي والاجتماعي، الاستبداد هو الذي حرم أهلنا من الفرح بالتعدد والفرح بأنماط التحقق المختلفة، كانت هناك قوالب كل من يخرج عليها يصبح مكروهاً أو متهماً.
نعود إلي ما أشرت إليه من الجهد الوثائقي والدراسي، وهو جهد يلاحظه قارئ شعرك بلا عناء، يلاحظ باستمرار أنه يحسن به لو قرأ كتاب كذا أو كذا، أو تزود من فرع ما من فروع المعرفة ليحقق تواصلاً أفضل مع قصيدتك، كيف تري الشعر في ظل هذا الإحساس؟
أولاً أشير إلي أنه يمكن أن تختلف وجهة النظر بين شاعر وشاعر حول ماهية الشعر ووظيفته ووظيفة الشاعر وموقفه من العالم. وأنا بالطبع لا أقصد الاتكاء علي قراءاتي وما تعلمته مع أن هذا الاتكاء موجود في القصيدة لكن كثرة القراءات وتشابكها يجعلها تنفجر معبرة عن نفسها أثناء كتابة القصيدة، هذه الأوليات الموجودة داخلي من مواقف تراثية ومواقف فلسفية ومعارف تعبر عن نفسها في الشعر. لكنني أعتقد أن جهد الشاعر الأساسي هو "اللغة"، والشعر حيود روحي ونفسي في تلقي اللغة وإبداع المعني. اللغة اليومية هي لغة الكلام، لغة التواصل اليومي، لغة المعلومة، لغة الرسالة المراد توصيلها، أما الشعر فهو خلق باللغة وفي اللغة، وأحب أن أستخدم تعبير «متعة نظم الكلام»، وكثيراً ما يقال لي إن العصر تغير، وإن القصيدة لا بد وأن تكون قصيرة، وأن نوعاً من الشعر شاع يكاد يشبه "النكتة" أو الطرفة التي تعتمد علي المفاجأة في نهايتها. كأن العرب وصلوا في مجال استغلال الوقت لدرجة أن الدقيقة أصبح لها قيمة كبري، كأننا جميعاً موجودون في المعامل والمختبرات، والواقع غير هذا، فالوقت عند العرب رخيص جداً وقليل الأهمية.
وقال «عفيفي مطر»: نحن نعرف العالم من خلال الشعر، والكون مرصود في القاموس، حيث إن غياب كلمة من القاموس بمعني عدم معرفتك بها هو غياب لعنصر من عناصر الكون، فمحاولة ابتداع استخدامات معينة للألفاظ أو انتشال ألفاظ ميتة، أو الجرأة في أن تستخدم ما هو مهجور من الكلمات كلها أمور لا تقصد لذاتها، المسألة هي الكون الذي مسته الحياة وتجاوبك مع هذا الجزء الذي انتفض أمامك حياً منه.
وقال: ذات يوم قال لي أحد الشعراء منتقداً أنت تتحدث عن «الناقة» فهل رأيتها؟.
قلت له: وأنت لماذا لا تتحدث عنها؟.
فقال: لأنني لا أراها.
قلت: لكنني أراها، وأربيها. ثم إنكم تتحدثون عن بلادنا وكأنها ليست صحراء، مع أن بلادنا هي في حقيقة الأمر صحراء، ونحن بدو محدثون، وطبيعي أن ينتفض قاموس الصحراء حياً في الشعر.
الأفكار الكبري.. وطزاجة اللغة
في المقدمة التي كتبتها لديوان «كائنات علي قنديل الطالعة» للشاعر الراحل «علي قنديل» عبرت عن رؤيتك للغة والشعر، وقد تم اعتبار هذه المقدمة وثيقة لحركة اختلفت مع كثير مما أسفرت عنه فيما بعد، وعلي طريقة «كليلة ودمنة» أسألك: وكيف كان هذا؟
في السبعينيات كان هناك تحول في تذوق الشعر، في مثير الكتابة ومثير التلقي، كانت هناك عودة إلي الذات الإنسانية بعد سنوات استولت فيها السياسة بمباشرتها علي الشعر، عدنا إلي الأحاسيس الشخصية العميقة والتجارب الروحية البسيطة، بعد أن انسحبت «الأفكار الكبري»، وكان «علي قنديل» من أول من خاضوا المغامرة مع اللغة في طزاجتها مرتاداً طريقاً أصبح موجة بعد ذلك.
لكن الحديث عن ذاتية التجربة ومغامرة اللغة أصبح فيما بعد مبرراً للاستسهال وتبرير الخطأ في اللغة؟.
نحن نتحدث عن لحظة البداية، أما تحول كل ذلك إلي منزلقات العدمية والاستسهال واحتقار التراث والتاريخ ومشروعات الأمة.. الخ. فهذا انعكاس لأمراض سياسية واجتماعية تفرغ الأمة من روحها، وتحول الطزاجة والعذوبة إلي سخرية مدمرة من أحوالها، كما تحول المغامرة إلي جرأة الجاهل لا جرأة المجرب الحكيم، حتي الخطأ لم يعد خطأ بريئاً، لم يعد الخطأ المشروع للمجرب، بل خطأ الوقاحة.
ولهذا حرصت علي تذكير الجيل الجديد بقيمه وتاريخه، وكتبت «حكايات للصغار كي لا يناموا»؟.
أنا كتبتها بعد ما أحسست بأن التليفزيون استولي علي أبنائنا، وتخلي الآباء والأمهات عن تأكيد معاني الصواب. لا أحد الآن يجلس مع أبنائه أثناء الغداء أو العشاء يسمع منهم ويوجههم خلقياً وإنسانياً أو يحكي لهم ما يربطهم بماضيهم الشخصي أو ماضي سلالتهم أو أمتهم، وإنما يتولي «التليفزيون» هذا كله. الآباء والأمهات الآن لا يكلمون أبناءهم الكلام العادي، والناس يقضون وقتهم أمام التليفزيون حتي في وقت تناول الطعام الذي كان فيما مضي فرصة للكلام والجدل والأوامر والتوجيه والشكر والتوبيخ. الآن نشاهد التليفزيون ونتناول طعامنا بدون أن نتذوقه.
ويضيف «عفيفي مطر»: هناك أيضاً الفقر الرهيب في التعليم، وحقيقة أفزعني فزعاً لا مثيل له أن أري أبناء قريتي الذين أنهوا تعليمهم المتوسط لا يتقنون القراءة والكتابة، بينما كنت وأنا في سنهم أقرأ للجاحظ والعقاد وطه حسين وأكتب وأحاور، ولم أكن وحدي في هذا، بل كان أبناء جيلي من الطلاب يثيرون نشاطاً هائلاً، وما آل إليه حال التعليم كارثة من الكوارث، ومؤشر علي أننا ربما نسير في طريق الانقراض إذا لم ننتبه ونتدارك الانهيار قبل أن يصبح حتماً لا فكاك منه، وأشير هنا إلي تدني عدد الكتب التي نؤلفها ونترجمها، وعدد الأبحاث التي نجريها والأوراق العلمية التي نقدمها مقارنة بأي أمة أخري. هذا الواقع قررت أن أقاومه بهذه المجموعة القصصية التي كتبتها للأبناء «حكايات للصغار كي لا يناموا» وأنا أعتز بها اعتزازاً شديداً، وأقول إنني لم أبتهج بشيء مثلما ابتهجت بكتابتها.
الشعر سيرة الذات
لك تجربة نثرية أخري هي كتابك «أوائل زيارات الدهشة» الذي يقع بين القص والسيرة الذاتية والمقال التأملي، وأسأل: هل هذا هو الشكل الذي اخترته لكتابة سيرتك الذاتية؟
وبتواضع جم يقول «عفيفي مطر»: منذ زمن بعيد والأصدقاء يطلبون مني كتابة سيرتي الذاتية، وكنت أقول لهم: وما الذي يجعل سيرتي الذاتية شيئاً مهماً؟ هل فتحت عكا؟ هل حررت القدس؟ في تصوري أن حياتي كأي حياة فيها بعض ما يستحق الحديث عنه، ثم إن الذات وسيرتها بالنسبة لي كلها مرتبطة بالشعر، وقد سعدت بالكتابة عن اللحظات المؤثرة في حياتي، والتي مازلت أذكرها وأستمد منها دروساً، لهذا أخذ «أوائل زيارات الدهشة» الصورة التي ظهر بها، وأنا منحت نفسي ما تمنحه الكتابة التلقائية والتذكر والالتزام بالصدق، ووقفت عند لحظة خروجي الأول من قريتي إلي براح العمل والكد. وما تلا ذلك سيرة أخري ربما أستطيع كتابتها فيما بعد، فيها المذاهب والآراء والكتب والشعر والسياسة، وإن كنت أخشي أن أفتح علي نفسي أبواب جهنم.
قلت إن ذاتك وسيرتها مرتبطة بالشعر، وفي الشعر مازالت قصيدة "68" هي الأكثر جماهيرية بين قصائدك، في رأيك لماذا اكتسبت القصيدة جماهيريتها هذه؟.
يبدو أن الجزء الذي تتناول فيه القصيدة المظاهرات التي خرجت في 1968 هو الجزء الشائع من القصيدة، في المقابل هناك جزء تأملي في القصيدة خاص بصراع الأجيال ومحاولة «قتل الأب»، كانت حركة 1968 تمرداً من الابن علي الأب، أفضي إلي تواطؤ بين الاثنين علي أساس تحويل الحركة إلي جزء من المستقر العام، في الجزء المسمي «مملكة أخري» من القصيدة هناك حوار بين الأب والابن يتضمن إعادة لقراءة أسطورة «أوديب» وعلاقته بأمه وأبيه، وكأن هناك نوعاً من التواطؤ بين الثلاثة، وهو جزء له عمق فلسفي لم يهتم به أحد ممن كتبوا عن القصيدة، وكلهم اهتموا بالظاهر منها: الخروج والنهر الذي يشارك في المظاهرة، ولهذا وعلي الرغم من الفارق الواضح كثيراً ما تتم المقارنة بين هذه القصيدة وقصيدة «الكعكة الحجرية» ل «أمل دنقل»، علي أساس تناولهما للمظاهرات والعساكر في البعد الوقائعي وكأننا في السينما لكن عمق المسألة ودلالتها الثقافية والحضارية لم ينتبه إليها أحد، وفيه أشرت إلي تواطؤ أوديب مع أبيه، وتواطؤ أمه معه، بينما «الوباء» الذي افتتحت به المشهد موجود مهما تكتموا أمره، وهو يسري بين الشعب الذي يعبر عن رغبته في «مملكة أخري».
وقال «عفيفي مطر»: الناس يحتاجون إلي الشعر ويتداولونه بحالاته المختلفة، من أبسط الأغاني الشعبية الشائعة حتي أكثر القصائد تعقيداً، هذا التنوع مطلوب، وليس هناك لون يلغي الآخر. أنا أكتب الشعر كما أعرفه وكما أحب أن أكتبه، وغيري يكتبه كما يعرفه ويحبه، والناس ينتقلون بين هذا وذاك، ولست مولعاً بأن تهيمن مدرستي علي الشعر، وقصيدتي يقبل عليها من يغويه التناول الصعب، أنا لا أختار القارئ، بل القارئ هو الذي يختارني، ما يعني أنني مقيد بنفسي والقارئ حر لا يقيده شيء، لا يوجد «سقف شعري واحد» علي الجميع أن يطأطئوا رؤوسهم تحته، هذا مفهوم قاتل. الخلاصة أن شعري صعب وقراؤه أقل، وغيري يكتب شعراً سهلاً وقراؤه أكثر، وهكذا!
أن تمارس ما تحب وتعرف، هل هذه هي «حكمة السبعين»؟.
لا أحب أن ألعب دور الناصح أو الحكيم، لا أحب أن أصادر حق الناس في أن يصنعوا حكمتهم بأنفسهم، لكن يمكن أن أشير لهم علي الطريق الذي سرت فيه، ورأيت أن الخير يملأ العالم، فقط هو يحتاج إلي يد تتناوله في الحقول والمصانع، في تربية البشر وتربية الحيوانات.
علينا أن نستعيد قيمة «الإتقان» التي غابت عنا، أعرف بعض الناس الذين لا يمكنهم أن يكملوا قراءة كتاب بدأوه، لا بد أن يتركوا منه المقدمة أو أحد الفصول وكأنه مرض ملح، كأنه لا يطيق أن يؤدي عملاً كاملاً.
ويقول «عفيفي مطر»: أيضاً مسألة الانتماء إلي هدف أكبر وإلي أهلنا الذين خرجنا من بينهم لنري العالم ونعرفه، ثم لم نرجع إليهم، وأسأل: ماذا لو عاد المثقفون إلي قراهم وأهلهم؟ ماذا لو اهتم الطبيب والمهندس بتعليم أهله؟ كيف تكون أستاذاً جامعياً، مفكراً، ومناضلاً يحلم بتغيير العالم، بينما أبوك وأمك لا يعرفان القراءة ولا الكتابة؟.
فليزرع منا الزارعون، وليصنع الصانعون، وعلي من يستطيع أن يكسو شبراً واحداً من الأرض بالخضرة أن يفعل، ربما يفجر هذا المنهج روح الإبداع في الحياة عامة، ومنها الفنون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.