تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    بطائرات مسيرة.. استهداف قاعدة جوية إسرائيلية في إيلات    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    موعد مباراة الأهلي ضد الهلال اليوم الإثنين 6-5-2024 في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    هشام يكن: خسارة سموحة محزنة.. ويجب أن نلعب بشخصية البطل ضد نهضة بركان    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    مخرج "العادلون": تقديم المسرحية ضمن المهرجان الإقليمي لفرق القاهرة الكبرى    حملات تموينية على المخابز السياحية في الإسكندرية    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    رضا عبد العال ينتقد جوزيه جوميز بعد خسارة الزمالك أمام سموحة    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    بإمكانيات خارقة حتدهشك تسريبات حول هاتف OnePlus Nord CE 4 Lite    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقابلة عفيفي مطر في منزله الشعري
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 07 - 2010


1
لقد سكن محمد عفيفي مطر منزله الشعري في (رملة الأنجب) منذ مولده في عام 1935م، لكن عقد السكني كان في عام 1957 عندما قدم أول مستندات الملكية في قصيدة (فردوس بائعة المانجو)، والعنوان ذو دلالة واضحة علي الواقع الاجتماعي للبيت، من حيث انتمائه إلي الطبقة الدنيا التي بدأ منها عفيفي مطر أولي إجراءاته في تأسيس هذا البيت. ومن المؤكد أنه كانت هناك محاولات سابقة علي (فردوس) لكنه كما يبدو أسقطها عمدا، إذ إن البدايات كانت إرهاصا مشبعا (بالهوس الشعري) قراءة وتذوقا وحفظا، ثم إنتاجا أميل إلي الفطرة في كتابة الأزجال والقصص وبعض الأشعار. وربما كان الإسقاط إشارة مبكرة إلي وعيه بالعالم ومفارقاته المأساوية الممزوجة بكثير من الزيف والخداع، ومع بكورته في الوعي قرأ عن الدعوة إلي السلام. لكنه رآها دعوة مدفوعة الأجر، وسطوتها كانت غالبة حتي شغلت الواقع العالمي بالصوت المرتفع (لأنصار السلام)، وفي ظل هذا الصوت المرتفع جاءت قصيدة عفيفي (أريد السلام) يقول عنها: «كانت قصائدي المبكرة الأولي هراء يعيد إنتاج الهراء، كانت أولي قصائدي التفعيلية الطويلة بعنوان: (أريد السلام)... كان غليان دمي واضطراب وهيجانات أفكاري قد خنقت مراهقتي، وحاصرت خطواتي الأولي، وما كدت أسأل نفسي: السلام بين من ومن؟! ومع من ضد من؟! وأنت أيها الشاعر التافه لا تملك في الحرب أو السلام في العالم عيرا أو نفيرا».
إن انفتاح وعي عفيفي المبكر حوله إلي متسائل دائم، بل تحول هو نفسه إلي سؤال دائم، ومن ثم كانت تصدر منه الأسئلة لتتجه إليه قبل أن تتجه إلي غيره، وكان سؤاله الأول: من الذي يقود العالم: الإنسان أم السلام؟ وعندما باع أبوه مسدسه بعشرين جنيهاً، كان سؤاله الفاجع: بكم باعت الشعوب سلاحها؟ لكن إسقاط عفيفي لشعر البدايات لم يهز ثقته في أن المنزل الذي سوف يستقر فيه هو (منزل الشعر)، وسكني هذا المنزل هي التي سوف تنقذ إنسانيته، وتفتح أمامه مسالك الرؤية والوعي، وتحرره من إحساس الخوف من الموت في توافه الهموم اليومية في القرية. لقد انفتحت نافذة من نوافذ البيت الشعري ليطل منها عفيفي علي مرحلة البكورة التكوينية وليقدم (كلمته النفسية) في قصيدة من قصائد الخمسينيات يقول فيها:
أنا طفل.. وأعلم أنني طفل
وعشت بقريتي خمسا وعشرينا
أسامر كوكبا في الغيم مسجونا
وأعلم أنني سأعيش أصغر شاعر
وأموت مجهولا ومغبونا.
وفي تصورنا أن نبوءة عفيفي في هذه الأسطر صادقة في جانب، وكاذبة في الجانب الآخر، أما كونها صادقة: فهو أنه قد غبن في مسيرته الحياتية وفي مسيرته الإبداعية، ومن ثم فإني أراه مسيح عصره. وأما كونها كاذبة، ففي قوله: إنه سيعيش أصغر شاعر مجهول، فعفيفي رغم الغبن قد ملأ الدنيا وشغل الناس منذ أن أطل من نافذة الشعر حتي يومنا هذا، وأعتقد أن هذا الانشغال سيظل إلي ما شاء الله. لقد كانت بداياته مجمرة مليئة بالرماد والحصي وشرر الاحتمالات، وفي كهولته يسعي لالتقاط بعض ما كان يهز زمن صباه، أو يسعي ليستمد منها بصيص توقد وارتعاد، أو يسعي ليستمد بعض الإرهاصات بعد أن أخليت المجمرة من رماد كثير، ولم يبق فيها إلا بعض حصي التذكر.
2
لقد أطل عفيفي من نافذة منزله الشعري وهو في الثانية والعشرين من عمره، ومنذ تلك الإطلالة توالت إبداعاته حيث قدم أربعة عشر ديوانا، كل منها يمثل من وجهة نظري زمنا شعريا متكاملا، أو ما يوازي غرفة في منزله الشعري الفسيح، وهي:
1 مكابدات الصوت الأول.
2 من دفتر الصمت سنة 1968.
3 ملامح الوجه الأنبادوقليسي سنة 1969.
4 الجوع والقمر سنة 1972.
5 رسوم علي قشرة الليل سنة 1972.
6 كتاب الأرض والدم سنة 1972.
7 شهادة البكاء في زمن الضحك سنة 1973.
8 والنهر يلبس الأقنعة سنة 1976.
9 يتحدث الطمي سنة 1977.
10 أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت سنة 1986.
11 رباعية الفرح سنة 1990.
12 فاصلة إيقاعات النمل سنة 1993.
13 احتفاليات المومياء المتوحشة سنة 1994.
14 من مجمرة البدايات سنة 1994.
والشيء اللافت في مجموع هذه العناوين أنها تكاد ترصد المسيرة الشعرية لعفيفي مطر، وترصد في الوقت نفسه مكونات منزله الشعري، فبداية المسيرة كانت نوعا من (مكابدات الصوت الأول) الذي سعي إلي أن يسجل في (دفتر الصمت) شيئا من (ملامح الوجه الأنبادوقليسي) في ظل (الجوع والقمر) وشيئاً من (رسوم علي قشرة الليل)، ثم يفتح (كتاب الأرض والدم) ليقدم (شهادة البكاء في زمن الضحك) لأنه زمن القهر حتي إن (النهر يلبس الأقنعة)، ومع القهر والصمت لابد أن (يتحدث الطمي) ليعلن المقولة الأولي: (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) التي تبث (رباعية الفرح) وتجسدها في (فاصلة إيقاعات النمل)، لتنتهي المسيرة إلي (احتفاليات المومياء المتوحشة) حيث العودة الدائرية إلي (مجمرة البدايات).
إن قراءة العناوين قادتنا إلي النظر فيها بوصفها نصا مكتملاً، لكنه غير مغلق، بل ينتظر الإضافة والإضافة، وهو نص متحرك للأمام حركة منضبطة، لكنها لا تخلو من المغامرة، وبرغم هذه الحركة الأمامية، فإن عفيفي كان دائم التلفت في كل الاتجاهات حتي تظل رؤيته شاملة، تلحظ الكل في إطار الجزء، وتلحظ الجزء في إطار الكل، ولعل تلفته الدائم هو الذي أدخل مجموعة عناوينه في إطار النص الواحد، حتي إننا نلحظ لكل عنوان إرهاصا فيما سبقه من دواوين، وأصداء فيما يتلوه من دواوين، فديوان مثل ديوان (كتاب الأرض والدم) سنة 1972 كانت له إرهاصات في قصائد سابقة علي الديوان، ففي قصيدة (مهر الصيف) سنة 1965، يقول عفيفي:
طفلي في ظلمة بطني يحلم أحلام الشهر الرابع
يتخلق مني عضوا عضوا
يتدفق فيه الماء الطافح من جنبي
ينسل إليه عبير الأرض خلال الدم.
ومع الإرهاصات، كانت هناك أصداء في الشعرية التالية، يقول الشاعر في ديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) سنة 1986:
قلت أمشي في عروق الأرض أشهد
ساحة البدء المجلجل والختام
كيف استتمت نارها ورمادها في
الخطوة الأولي، وكيف انشق من مهل الغمام
برق من الدم فاستضاءت تحته الأطلال
والأجداث
إن الإرهاصات والأصداء تجعل شعرية عفيفي مطر شعرية (منجمة) مهمتها الأولي والأخيرة قراءة عالمها قراءة فريدة، هدفها الإمساك بالمادة الأولي للوجود، ثم الوقوف علي تحولاتها الصاعدة والهابطة، التكوينية والتدميرية علي صعيد واحد.
3
لقد استتمت الغرفة الأولي في منزل الشعرية المطرية في بناء يكاد يلتحم بالواقع الذي دخله من بوابته السوداء:
أنا طفل طري العود سرت سنين فوق الجسر عريانا
تفوح خطاي نارنجا وليمونا
أمر خلال بواباتنا السوداء
وأسمع في حنايا الدور صوت رثاء
يشيّع في ضمير الأرض موتانا
وأحفظ ما يقول الناس في الطرقات .
ويتجلي هذا الالتحام في ديوان (يتحدث الطمي)، حتي إن المبدع ألحق به عنوانا إضافيا: (قصائد من الخرافة الشعبية)، ومجموعة قصائد الديوان تستغرق مساحة في زمن الستينيات من سنة 1962 إلي سنة 1963، والقصائد في جملتها محملة بروائح الخلق في قرية الميلاد (رملة الأنجب)، ومشحونة بعالم الأسفار والخرافة والطوالع، ومشبعة برائحة الطمي، يقول عفيفي في أولي قصائد الديوان:
لفائفهم، وتراب الظهيرة، والزيت فوق الجباه
وشيء بأوصالهم يتنفس إعياؤه، تعب، وطريق
تموت علي جانبيه الظلال، يطول ويقصر حتي ارتموا بالوصيد.
إن المنزل الشعري لمطر متعدد الغرف، وكل غرفة لا تنفصل عن الأخري، ومن ثم نلحظ في الغرفة (الواقعية) أن الذات المطرية سعت إلي تغييب قطاع من طبيعتها الفيزيائية. لتصعد إلي نوع من التجريد القادر علي الرؤية الممتدة في الزمان والمكان، بل له القدرة علي التحرر من الزمان والمكان، وهذا التحرر أتاح للشعرية ديمومة إدراكية تتسلط علي الكيف أكثر من انشغالها بالكم، وأتاح لها نوعا من الدهشة الممزوجة بالوعي الأسطوري الذي لا يتكئ كثيراً علي منطق العقل، ولا يمتنع فيه حضور ملامح بدائية تحمل طفولة الإنسان بكل محاوراتها الذهنية المفرغة من المعقول، لكن هذا كله أوغل في المعرفة من كل إدراك عقلي.
ولا يمكن أن نغفل في هذه الغرفة بعض حضور إشارات وجدانية تعمل علي الحد من خشونة المواجهة مع الواقع في معطياته الحسية وغير الحسية:
يا زمنا قد مر علينا.. لو كنت تعود
وتذيب ثلوجا، وتعيد حكاية أهداب سود
كنا نهواها، ننظر فيها سحر الإنسان،
وحلاوة عشق سكران.
وفي هذه الغرفة الشعرية تبدت الذاكرة بكل اتساعها الذي يطول ثلاثية الزمن الخالدة: الماضي والحاضر والآتي. وهي ذاكرة ضمت الفيزيقي والميتافيزيقي حيث ارتفعا معا إلي أفق الرمز المزدوج الذي يشير في جانب إلي الحاضر، وفي جانب آخر إلي الغائب، ووسيلة الذاكرة في إنتاج هذا وذاك الإشارة اللسانية الصاعدة إلي أفق الشعرية بالابتعاد عن المباشرة، والمؤجلة لمعناها، سواء في ذلك باعتمادها علي الإطار الأسطوري، أو باعتمادها السمو الإشراقي.
ومن المهم الإشارة إلي أن اللغة عند عفيفي أخذت تتخلي عن مهمتها الأصيلة وهي (التوصيل) التي تمارسها في الخطابات المألوفة عموماً، وغير الشعرية خصوصاً، حيث تتحول من وسيط إلي مستهدف في ذاته، فالذي يتكلم في مدونة عفيفي الجمل والتراكيب التي تقدم نفسها لمتلقيها.
4
يقول النفري «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».
وفي رأينا أن مقولة النفري يصح أن تكون مفتاحاً لاستشراف آفاق شعرية عفيفي مطر، ذلك أن خطابه الشعري هز معايير الإدراك، كما أن مقولة النفري قلبت معايير إنتاج المعني، إذ المألوف أن يؤدي اتساع الرؤية إلي اتساع العبارة التي تعبر عنها، لكن القلب الإنتاجي عكس هذا المنطق، تأسيساً علي أن المهمة المركزية للعبارة الإبداعية (الستر والإخفاء) الفني، دون إعطاء رعاية كاملة لمقولات العقل وقوانينه. إن قراءة مدونة عفيفي الشعرية تؤكد أن خطابه ينفر من الوضوح، ويعادي الإضاءة، مؤثراً العتمة المشرقة بنورها، ومؤثراً تأجيل المعني، أو لنقل بما قال به عبد القاهر الجرجاني، الاتجاه دائما إلي المعاني الثواني، أو معني المعني، فكلما أمسك المتلقي بركيزة دلالية، سعت الشعرية إلي أن يغادرها إلي سواها ليظل في حالة دائمة إلي الارتواء.
يقول عفيفي في (فاصلة إيقاعات النمل):
كف ظل كانت النخلة
موماة سراب في ابيضاض الشمس
رحل، ورحي تستف وحش الظمأ المنقض بالطير،
جراد من شظايا الذهب الشفاف
ها أنت، وهذا حلم يسترجع الموتي.
من الواضح أن إنتاج الدلالة في هذه الدفقة يعتمد (الموقف) العرفاني الذي يدرك أن وراء العالم الظاهر، عالم باطن يحتاج إلي الملاينة لبلوغه، كما يحتاج إلي قدر من (المشاهدة) لاكتناهه، إذ إن التوجهات العرفانية جعلت الموت هدفا تسعي إليه بديلا عن الحياة، ومن ثم لا بد أن ينظم السالك طريق الموت قبل المواجهة، لكن هذا الناتج هل يمكن اعتماده والاطمئنان إليه؟ أم أن الدفقة تؤجل دلالتها إلي تأويل قادم؟.
لا شك أن الغرفة الثانية من غرف شعرية عفيفي قد أحدثت تبديلا في الوعي، حيث حلت (المشاهدة) بديلا عن (الرؤية) والمشاهدة تتسلط علي الوجود في مادته الأولية (الخام) في نقائها وبراءتها.
يقول الإبداع معبرا عن هذه المشاهدة:
في وخم الزرائب الليليلة
حلمت أني عشبة طرية
تعبر بين الفرث والدماء.
لكن المشاهدة تسلطت أيضاً علي التخريب الذي حل بهذه المادة الأولي حتي أصبحت مادة دامية، وامتدت الدماء إلي الذات المشاهدة.
يقول عفيفي في (درعية مديح)
تركتم دمي سَبْيًا.. فليس يُجيرهُ
عدوٌ يداجي أو صديق يصاولُ
وحمٌ قضاء الليل ظلما وظلمةً
وقد حُبكت دون الفرار المخاتلُ
فبتُّ علي ظنٍ دمائي تَؤُجُّهُ
وتذروه في الريح البروقُ الصواهلُ
يقلّبني شك ويأس مخامرٌ
وتنحتُ صلصالي الرجومُ الهواطلُ.
بل إن هذا الامتداد للذات أثر فيها ماديا ومعنويا:
خمسون من زنك وقصدير
أم العمر الذي ولي
أم البددُ
خمسون أم سعف يذوي
أم الجسدُ
أم رمة بالشيب ترتعدُ(17).
5
وفي الغرفة الثالثة من غرف منزل شعرية عفيفي مطر، تم الخلاص المرحلي من الخارج، والدخول إلي النفس، أي أن هذه الغرفة كانت (غرفة الأحاديث) النفسية التي لاحقت الآخر مطلقاً، ولاحقت السلطة في مناطق نفوذها، ولاحقت بعض وقائع الثقافة، ثم استقرت عند محاورة اللغة بوصفها من ممتلكات الذات الحميمة. ومن الواضح أن ملاحقة الآخر بدأت مع بواكير شعرية عفيفي، وبخاصة في أغلب قصائد ديوان (من مجمرة البدايات)، ولم تتوقف هذه الملاحقة في كل الدواوين الشعرية. أما ملاحقة السلطة فقد بلغت ذروتها في (احتفاليات المومياء المتوحشة) يقول عفيفي:
ها أنت تحت سياط الكهرباء وبين القيد والظلمات السود
: تعترفُ
:.. إن الكلاب ملوك، والملوك دمي
والأرض تحت جيوش الروم تنجرفُ..
فاخرج طريد بلاد كنت تحرثها
حرث العبيد.
الأهم في ملاحقة الإبداع للسلطة، أن كشف سلطتها الزائفة، ففي موقف المعاناة يقول عفيفي في تجل نفسي عرفاني بالغ المأساوية في حواره الضمني مع (بروجل) الأعمي:
وأشهدني مقام الذل تحت يد الأذلاء المهانين.
وربما كان ديوان (رباعية الفرح) خالصا للملاحقة الثقافية في عناصر التكوين الأولي وفرح الذات بالماء والنار والتراب والهواء.
أما ملاحقة اللغة، فقد اتجهت إلي ملاحقتها في أفقها الصاعد إلي الشعرية، يقول عفيفي في (طردية):
أنت أيها الشاعر المنتشي بالخرائب والذكريات
تعقد أحبولة من مجازات فصحاك
تنصب أفخاخ شعرك عل الطرائد تأتيك طيعة من
فجاج السموات والأرض بين انتظار وصمت
قصيدك محتدم في حطام المنارات
والسفن المتفككة،
الوزن افعيلة من جنون الدم المستباح.
إن الذات المطرية لم تستقر في غرفتها الثالثة إلا بعد مسيرة طويلة من المعاناة والاغتراب الدامي:
فكل بلاد ترتضيها إقامة
فجيعتها فيها، ومنها النوازلُ
هزائم جلادين تزهو سجونهم
وتعلو علي هام العبيد المقاصلُ.
وهذه المسيرة لم تتوقف لتتيح للذات مساحة تستريح فيها، ومن ثم كان الخروج إلي الداخل بعد خراب الخارج:
لا الأرض أرضي ولا الأيام أيامي
يا جسمي الظامي
أشرب دماءك واحفر قبرك الدامي
في الريح،.
لقد بدأت مسيرة عفيفي بسكني غرفة (الأعراف) التي اصطحب فيها واقعه، ثم انتقل منها إلي غرفة (العرفان) التي اصطحب فيها الروح والجسد، واستقر في غرفة (النفس) التي أدار فيها أحاديثه.
6
ومن صحيح هذه القراءة لمدونة عفيفي مطر الشعرية، أن تقف متأملة في منزله الشعري لترصد مكوناته وتأسيساته، أما التأسيسات فهذا ما يحتاج إلي قراءة مستقلة، لأنها تأسيسات تغوص في الأعماق، وتحتاج إلي جهاد طويل، وأما التكوين فقد اعتمد لبنات لغوية ذات مواصفات مفارقة للمألوف والمحفوظ، ومباعدة للمستهلك والجاهز، فقد استهلكتها مدارس الشعر المتتابعة في القديم والحديث، حتي أصبحت لبنات (جاهزة التركيب)، واللافت أن مفارقة لغة مطر للغة السائدة لم تعتمد الحركة الأمامية دائماً لاقتناص البكر والطارئ، بل إن هذه الحركة قد تكون للوراء مستهدفة طفولة اللغة وبراءتها من الهوامش التي لحقت بها من طول الاستخدام، واكتنازها بوقائع الخرافة والأسطورة، وامتلاءها بالأحلام البدائية.
يقول عفيفي:
استرحت الآن
هذا الحلم يأتي:
فأنا أسمع إيقاع دمي، الأرض
قباب امرأة
والحلم يأتي:
رعدة خالقة تجرف أعضائي
: ينابيع دم أم ظمأ يطلع في
النخل أنا أم طينة الرعد
وحلم الطيران؟.
وقد تتعلق الحركة التراجعية بالأبنية الإفرادية التي نسيتها اللغة، فتعمل شعرية مطر علي التذكير بها أولا، وبث الحياة فيها ثانيا خلال السياقات الجديدة التي تحتويها، وظاهرة الدوال المهجورة من الظواهر المألوفة في مدونته، ففي ديوان (رباعية الفرح) مثلاً يتردد من هذه الدوال خمس وعشرون مفردة، ومثلها أو يزيد في ديوان (فاصلة إيقاعات النمل).
يقول عفيفي في (نوبة رجوع):
ثقلت علي عباءة الدم والرماد وقضقض الزلزال
هيكل مجثمي والريح تصفر في
بوالي العظم نفخ الصور..
هودج ناقة ويدان يقطر منهما ورد الدهان.
إن ملاحقة اللغة في حركتيها الأمامية والتراجعية قد امتد إلي بناء الصور، ومن ثم جاء بعضها إحياء لصور تراثية، بوصفها واقعة ثقافية، وهذا ما نلحظه في الاقتباس، السابق، حيث انتقال (العباءة) من طقس الملبس، إلي طقس الدماء، وانتقل الهيكل البشري إلي عالم الحيوان في (هيكل مجثمي)، إذ إن الملبس والعباءة علي وجه الخصوص، والحيوان والجمل علي وجه الخصوص من وقائع الثقافة في التراث العربي، وقد استطاعت الشعرية استحضارها بوصفها من وقائع الحاضر الحي.
كما امتد الحوار مع اللغة إلي منتجها الدلالي في أطره الكلية، سواء أكان هذا الحوار بالرفض أم القبول، وهذه الأطر الدلالية هي الأخري تمثل وقائع تراثية تم استدعاؤها في الخطاب الحاضر:
يقول عفيفي في (اصطلاء النشيد):
غزل هو القطيفة والحرير المنمنم ووشي
الدراهم الذهبية وورود الصباحات الساطعة
صيد وطراد للغزالات والنسور هما ليونة
العراك الشبقي مع الأوزان وقوافي
الطبول البعيدة
وإحكام المجاز والفاصلة
وإتمام النعمة بالحكمة وسيار المثل.
مراث هي زحام الآفاق بمواكب الدم وبطائح
الشهداء وداثر الثارات المؤرثة
بكاء أطلاء هو وشم الدمع علي هول
التدوير وانفراط المكان المنثور
مدائح نساجين لم يتركوا خيطا من الغيم
والأفلاك وعروق السلالات والمصائر إلا
نسجوه في مخرمات الغامض المنكشف.
الشعرية هنا تراجعت إلي الذاكرة التراثية ومدونتها الشعرية لتستحضر بعضا من وقائعها الثقافية التي سجلها (ديوان العرب): الغزل، الصيد والطراد، الحكمة والمثل السائر، الرثاء، الثأر، البكاء علي الطلل، المديح.
إن إحياء المفردات والصور والأغراض لم يكن عائقاً أمام القدرة الابتكارية لعفيفي مطر، إذ إن النظر إلي جملة الصور التي وظفتها شعريته يشير إلي انطلاقها الواضح من إطار الصورة الجزئية إلي أفق الصورة النصية بوصفها مشهداً تنصهر فيه العناصر المفردة لتستحيل إلي سبيكة محكمة، علي الرغم من أن القراءة الأولي لها قد توهم بتمزقها علي السطح، لكنها متماسكة، بل متلاحمة علي مستوي العمق.
وما كان من الممكن لهذه الصور أن تدخل عملية الإحياء من ناحية، وعملية التركيب النصي من ناحية أخري، إلا لأن عفيفي قد تحرك بشعريته جملة من مرحلة (التجربة) بكل ملامحها الإحيائية والوجدانية، إلي مرحلة الرؤيا، ثم مرحلة (المشاهدة) بكل أبعادها الشمولية أفقياً، وأبعادها العميقة رأسياً.
ومع اللغة والصورة والمشاهدة تحولت الصياغة عنده إلي جهاز توقيعي يدفع المتلقي إلي الدخول فيما يشبه (الحضرة الشعرية)، سواء أكان التوقيع باعتماد البحور الخليلية، أم كان باعتماد (التفعيلة)، فكلها أدوات للعزف تؤازرها الأبنية الصرفية والحرفية والبديعية.
من كل هذا نقول: إن شعرية عفيفي مطر هي شعرية التراكم لا القطيعة، وكأن قصائده عمرها ألف عام مع أنها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوهم جاء لأن الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها.
ولا يمكن بحال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني.
إن قارئ مدونة عفيفي الشعرية سوف يقابل العالم كله في شخوصه المقدسة وغير المقدسة، في فلاسفته ومفكريه، في شعرائه وفنانيه، في زعمائه وطغاته، في سحرته ومخادعيه، في مناضليه ومتخاذليه.
إن عفيفي رائد لزمن شعري، لا لجيل من الشعراء، هو زمن البكارة والجدة، وزمن النضج والاكتمال الذي لا نسأل فيه: ماذا قال هذا الشاعر؟ وإنما سؤالنا الأول: كيف قال ما قال؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.