عفيفي مطر شاعر نسيج وحده (يقول: "استضيء بشمسك أنت")؛ يجمع ظاهريا بين نقيضين فهو مجدد إلي أبعد آماد التجديد ومع ذلك ملتزم بأساليب التراث الشعري العربي في تراكيبه اللغوية بعمق ووعي وشمول. وله حضور في أشعار كل الأجيال التالية أكثر من أي شاعر آخر. وهو أبعد الشعراء عن سهولة القراءة؛ فهو لا يكتب بالطريقة التي اعتادها الفهم وألفتها الأذن، وإنما يطالب القارئ بالتفكير والتأمل. وقبل أن يستكمل عفيفي مطر ملامحه الفريدة كان يتأثر بالمناخ العام. ففي الثانية والعشرين من عمره (عام 1957) كتب قصيدة "الديك الأخضر" متجاوبًا مع المد الوطني. "أرض بلادي يسقيها نهر دفاق سيال المنبع منذ التاريخ الطفل يسقي بدماء الشهداء أرض بلادي ويفتح في الأرض عروقًا نضاحة حب وبطولة كي ينمو زهر الحرية في أرض المجد السمراء" وهنا لا نجد عفيفي مطر كما نعرفه، ولكننا نجد صدي التعميم الحماسي. ولن نطيل فالقصيدة تنهال فيها الأوصاف الجزئية للديك المخضوضر فوق سطوح بيوت نعسانة يتهادي في الأفق نشيده ولتحيا الأرض السمراء، وليحيا سلم البشرية. فالشاعر هنا، كما لن يكون بعد ذلك أبدًا، خطيب مفوه يهتف. وما أسرع ما يكتسب ملامحه الأصيلة في قصيدة "الجوع والقمر" حيث يستلهم تجربة القرية مع الموت ويقدم فانتازيا يقظة الموتي المحتجين علي جوع أطفال القرية: "فاترك عباءتك القديمة يا قمر واسرق لهم بعض الذره" ويري غالي شكري أن عفيفي مطر أحال مشكلة الجوع من المستوي الفكري المجرد إلي المستوي الفني المكثف استنادًا إلي ميراث شعبي قديم من خيالات وأوهام. ولكن عفيفي مطر منذ الخمسينات والستينات بدأ أشعاره المتمردة في ملامح من الوجه الإنبادوقليسي حيث دافع شعره عن نزعة مثالية إنسانية عالمية تنحاز لاتجاه يتخيله عن أممية وإنسانية الإسكندر الأكبر تأكيدًا لرفض نزعة الحاكم الفرعوني. وسرعان ما يستبقي من تلك الفترة رفضها للاستبداد الفرعوني ويتجه نحو القومية العربية. وفي السبعينات أسس شاعر الإنسان والطمي مجلة "سنابل" التي تصدرت حركة شعرية ناشئة. واستمر في تأصيل ملامحه الشعرية باعتباره شاعرًا للشعراء ولقراء الشعر الجادين. فهو مدرسة شعرية مستقلة. إن شعر عفيفي ينزع الألفة عن الأشياء والأفكار والتراكيب اللغوية التي أصبحت آلية في الاستخدام، وهو بذلك يضفي طزاجة علي إحساسنا بالحياة والتجربة وإن لم يكن سهلاً في قراءته. وتختلف قراءته عن القراءة المألوفة التي تخضع فيما تقرأ المخالفة للتوقع إخضاعًا يؤكد نمطية الاستجابة وخضوعها للعرف السائد المتحجر والأفكار المهيمنة البالية. فقراءته علي العكس تنزع الألفة وتقوم علي الإدهاش وتجديد الإحساس بالحياة خارج قوالب الإدراك المفروضة. في ديوان "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" الغني بالصور الشعرية ورمزيتها وخصوبة العلاقات الداخلية بينها ما من سور في هذه التجربة الشعرية بين الخبرة النفسية والنضال الاجتماعي القومي والتشكيل اللغوي. كما تحتفي القصائد بالأحلام والوقع النفسي للعناصر الأولية مثل النار، وتزخر بإيماءات إلي أساطير الموت والبعث في تفاعلها مع التراكيب اللغوية والألفاظ وحتي الحروف (في دراسة شاكر عبد الحميد عن الديوان). وتتعانق في شعر عفيفي عمومًا البنية القصصية والغنائية، ويتحقق أكبر قدر من التكثيف المجازي في الموسيقي والصور والمصاحبات اللغوية. كما نجد محوًا لسيادة التعبير المباشر حيث تقوم وحدات القص أحيانًا بوظيفة المجاز في تشكيل البناء المتخيل للصورة الشعرية وضمان تأثرها الجمالي. فالمحور القصصي الذي يكثر عفيفي من اللجوء إليه يعبر في كليته عن استعارة غنائية. ونجد عند عفيفي مطر مثل معظم الشعراء الكبار لمسة من الرومانسية دون أن يكون رومانسي المذهب، وتتمثل تلك اللمسة في إيمان الشاعر بقدرة الخيال والوجدان علي اختراق الحجب واجتلاء الحقيقة وما يخالط ذلك من نزعة نبوئية أو صوفية. وقد يصاحب ذلك انغماس في المشاعر الذاتية والسباحة مع الأحلام والانجراف من إدانة قبح العالم إلي بناء عالم خيالي، عالم الحب والجمال أو عالم المجد والخلود، أي إذابة الواقع في جو الحلم الذاتي أو القومي. ولم يقدم عفيفي مطر أفضل قصائده في توهج التجربة الصوفية، بل قدمها أحيانًا في تجربة تغلب عليها العقلانية دون الوقوع في أسر أي رواسم (كليشيهات). وقد وقف عفيفي مع الكثير من الشعراء عند حافة التقابل بين الاغتراب الحديث وضروب التكامل المتخيلة القديمة، بين الضياع الحديث والمجد القديم، وبمثل ذلك أحيانًا في الأقنعة وتقديس بعض جوانب التراث، وكان هناك إلحاح علي السمو والتكامل الذي تهبه السماء للأرض. ومن الأشياء المثيرة للانتباه أنه بعد أن رفض أن يكتب قصيدة النثر لأن الكون عنده لا يكون كونًا بغير موسيقي كتب قصيدة نثر رائعة في كتابه الرابع عشر بعد 13 ديوانًا شعريا عنوانه "أوائل زيارات الدهشة". وهي لمسات تصور لحظات غنية من تجربة حياته. إنه يري أن نثر النفري والجاحظ والتوحيدي والرافعي لا يخفي الحس الموسيقي المبثوث في أنماط التقسيم والتقابلات والتوازنات والصور. فهناك إيقاعات داخلية عميقة وهو لا يعتبر هؤلاء ناثرين. فهل يعتبرهم شعراء؟ لا نجد الإجابة. إن رفضه لقصيدة النثر ليس رفضًا عقائديا جامدًا. وفي أحد أحاديثه لا يضع النثر في مكانة إبداعية أدني من الشعر شريطة أن يتسم بالنشوة الروحية والامتلاء بالحياة، وإن تكن الإيقاعات الداخلية في النثر العظيم تنتمي إلي اللغة وحركة الأفكار دون أن تنتمي إلي الموسيقي بمعناها الرياضي الصارم. فهو يصل إذن إلي أن الأفق الشعري للنثر ممكن ومتحقق بالفعل عند عدد من المبدعين الجادين الذين يفرق بينهم وبين الغوغائيين. ويذهب عفيفي عندما يشرح أفكاره إلي أن الشعر الكلاسيكي بطريقته القديمة في رؤية العالم قد وصل إلي نوع من الجدب والجفاف والتكرار واستنزاف الذاكرة. ولابد من روح جديدة تبني عالمًا فنيا جديدًا يواجه كوارث عالم اليوم. ويتطلب ذلك حسًا آخر بالعالم ونطاقًا فعليا آخر للقيم وأشكالا جديدة تجسد القيم والرؤي الجديدة. لقد عمل عفيفي دائمًا علي تحرير الشعر من الجمود الصارم للعروض ومن تجمد قاموس النظم وكتب شعرًا يمور بالحياة رافضًا المسكوكات بقدر رفضه للانغلاق في مصيدة الهموم الشخصية الضيقة. ومن الملاحظ أن الشاعر المبدع لم يكن يعاني من تفكك الحساسية بين الأفكار والعواطف. فقد كان يحتفي بالأفكار لا في تجريدها بل في كونها تجارب معيشة. وكان القراء يتلقونها باعتبارها ذات مذاق وفاعلية كما لو كانت شذي وردة: "يا حبيبي غلقت روحك في وجهي طريق الهرب صرت في جمرة إنشادك نبرة صرت في شطحة أوهامك وهمًا ومسرة" ولا نجد التراث عند عفيفي مطر بمعناه الاجتراري أو في أطر عقلية جاهزة عند الأسلاف بل كأمنية تتحقق في المستقبل. يقول: "أسرعوا أسرعوا ... فالبلاد القديمة ركضت خلفكم، واكتبوا واكتبوا...فالبلاد القديمة قطعت شجر الأبجدية. مطلع جاهلي يجيء تطلع الشمس في الذاكرة تحت إيقاعه يستضيء وطن للخراب الطلولي، نهر تجرره الصرخة الغائرة صخب، وبلاد تجلجل في حجر السمع، والرعد يزرع أعضاءه... انتظروا...تصهل الخيل في الأروقة". لم يكن عفيفي مطر يري المجتمع العربي أو المصري في شعره كتلة واحدة متجانسة ولا العصر روحًا مساوية لنفسها، بل كان يفسح للتناقضات مكانًا في الفهم والتأويل والتعبير. وكان ناجحًا في تحقيق التوازن بين ما تقتضيه مواقفه الفكرية من حرارة في القول وحماسة في التعبير ونبرة عالية في الإيقاع وما يتطلبه الفن الشعري من عمق واعتماد علي ما للصور الشعرية والتراكيب اللغوية من ظلال وهالات وقدرة علي الإيحاء. إنه يرفض ضيق الأفق الحماسي وبلاغته ليست بلاغة لفظ ومعني؛ اللفظة الرائعة للمعني الفريد بل بلاغة بناء وسياق ونمو داخلي. وهو يقدم في شعره السياسي نموذجًا مختلفًا عن بعض أفراد مدرسة الأدب الهادف الذين قال عنهم لويس عوض إنهم قد عاثوا في أدبنا الجديد يسخرونه لشعارات الكفاح وكفاح الشعارات. فليس المضمون جاهزًا عند عفيفي بل هو يكتشفه ويبدعه. وليس الشكل زينة، بل حافل بالدلالة: "أمارس الدفاع والموت، تمارس الأشياء طقوسها اللياية المكثفة: كل جدار معبر، كل زوايا الأرصفة أقدام شرطي يسير سيره المنتظما". وهو في وقوفه ضد جمود الممارسة الشعرية الذي طال بأساليبه المحنطة وضد العالم الواقعي الذي يسحق حريته لم يسلك سبيلا فرديا في الاحتجاج، بل بحث عن حقيقة كلية وعن معني للحياة داخل حقائق الواقع الاجتماعي. كما أولي أهمية كبيرة للتجريب والتجديد في التقنية والأسلوب واللغة، وكذلك لرؤيته للعالم والواقع، فالإنسان عنده رغم أهمية فرديته منغمس في علاقات مع أهله وقومه، بعيدًا عن اللامبالاة واللايقين. فهو يرفض التعارض المصطنع بسن الفردية والمجتمع ويؤمن بالفعل الإنساني ولا يعتبره عبثًا غير مجد أو محكومًا عليه بالإخفاق واللاجدوي. وقد وجد بهجة في الالتحام مع الاحتفاظ باستقلاله ببعض الاتجاهات السياسية والفكرية. وربما يخطيء في الاختيار، ولكنه أحسن اختيار إبداعه الشعري الذي سيظل خفاقًا يحيا في العوالم الشعرية لمن يأتي بعده من الشعراء..