خمسة وسبعون عاما هي رصيد الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر في بنك الحياة عبر رحلة مليئة بالشعر والمواقف الاجتماعية والسياسية والثقافية، في تجربة امتزجت بطمي الأرض والأفق المفتوح لسماء مأمولة، تضافر فيها وعي الفيلسوف بشك الشاعر ومخيلته الجامحة منذ ديوانه الأول «دفتر الصمت» مرورا بدواوينه التالية التي شكلت عالمه الخاص ومنها «يتحدث الطمي» و«الجوع والقمر» و«أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، و«رباعية الفرح» و«فاصلة إيقاعات النمل» و«احتفاليات المومياء المتوحشة» و«النهر يلبس الأقنعة» و«المنمنمات»، بالإضافة إلي كتبه للأطفال «أقاصيص وحكايات» و«صيد اليمام» و«حكايات ومشاهد» و«كتاب النداءات» والتي حملت عنوانا رئيسيا هو «مسامرة الأولاد كي لا يناموا». كان عفيفي مطر بالإضافة إلي ذلك صاحب دور مؤثر وفعال في توجيه وريادة أجيال كاملة، منحها شرعية المغامرة واجتياح مناطق لم تكن مأهولة. كان يري أن «الشعر أكبر من الشعراء جميعا، وأكبر من كل ما كتب، وأكبر من كل ما سوف يكتب»، وكان يري أيضا أن «الشعر العربي كله يشكل جوقة كبيرة، أوركسترا هائلة، يشترك الجميع في عزف المعزوفة التي تعبر عن روح هذه الأمة، وعن تراثها». يري الناقد د. محمد عبدالمطلب أن انفتاح وعي عفيفي المبكر حوله إلي متسائل دائم، بل تحول هو نفسه إلي سؤال دائم، ومن ثم كانت تصدر منه الأسئلة لتتجه إليه قبل أن تتجه إلي غيره، وكان سؤاله الأول: من الذي يقود العالم: الإنسان أم السلام. وكان مقتنعا - دائما - بأن المنزل الذي سوف يستقر فيه هو «منزل الشعر» وسكني هذا المنزل هي التي سوف تنقذ إنسانيته، وتفتح أمامه مسالك الرؤية والوعي، وتحرره من إحساس الخوف من الموت في توافه الهموم اليومية في القرية. الوعي الخلاق أما د. رمضان بسطاويسي فيقول: عفيفي مطر تجربة فلسفية في الشعر العربي.. تؤسس تجربته برؤية متميزة في الكتابة، فهو ينظر إلي الكتابة بوصفها فعلا وجوديا بالمعني الأنطولوجي، حيث تترابط تجربة الجسد بالوعي الخلاق، والذاكرة الحية بالفعل الحسي، لأن الكتابة لديه هي فعل جسدي حي من أفعال التخلق الذاتي، فقد قرأ تجربته من خلال الجسد، والتقط الوحدة العضوية البدهية بين اللغة والجسد، وتناول التراث اللغوي بوصفه فعلا يجسد ذاكرة الجسد، وهو بهذا يؤسس ميتافيزيقا الكتابة بمعني تأسيس شروط أولية لأي كتابة تطمح أن تكون فعلا من أفعال الوجود. ويضيف د. بسطاويسي قائلا: اللغة عند «مطر» ليست علامات ودلائل فحسب وإنما حقائق تتعلق بالأشياء التي تشير إليها، والميتافيزيقا قبل أن تقحم المعاني داخل عملية القراءة والكتابة التي عملت علي إنتاجها فإنها تنظر لهذه العملية كممارسة داخلة تدخل ضمن مجري التفاعل الاجتماعي. أما الشاعر فتحي عبدالله فيري أن «مطر» قدم إنجازا شعريا متميزا ومستمرا لم ينقطع حتي أيامه الأخيرة، فتجربته علي المستوي الوجودي تماثل أو تماهي تلك الذات الجمعية، فقد بدأ تجربته مستلهماً الميراث الفرعوني فمثلا في التجربة الزراعية وخيالها الحسي الرفيع وروحها البسيطة التي اندمجت مع كل التطورات الاجتماعية الوافدة من الحضارات الأخري كاليونانية والإغريقية والعربية، كل ذلك في نسيج خاص يعلي من قيمة الإنسان في مواجهة الطبيعة والحيوان، وتكاد تجربة مطر الشعرية في ذلك الإطار أنضج ما تمثل الذات المصرية، بعد تجربة الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، إن تجربة مطر بكل تناقضاتها الحادة أحيانا لا يمكن ردها إلا إلي الروح المصرية في عمقها العميق. خرائط الروح أما الشاعر أحمد زرزور فيقول: هناك القليل من الشعر الذي يمثل أفكار الشاعر ومشاعره والظروف المحيطة بحياته، والشعر شأنه شأن العلم: فيه نوع من التجريد، والعمل الفني العظيم، مثل الحقيقة العلمية العظيمة، يقف وحيدا فريدا، هكذا الحال عند محمد عفيفي مطر، فهو الراعي المطمئن والفلاح الموقن، عرّاف هو بخرائط روحه، ومن ثم فإن جسده يتجلي بلا مواراة، وما علي الآخر سوي أن يتسلم أعضاءه التي تبدو عبر الكلمات متناثرة فيما هي وباستبصارك لنبض أشلائها، كيان كالنهر يجرف أمامه كل الأشياء، هادرا عبر الوادي بقوة تضامن روافده الصغيرة التي تندرج في معزوفة أوركسترالية جماعية تظل في سمع الزمن خالدة متحدية. أما د. أيمن بكر فيصف «مطر» بأنه آخر شعراء المعلقات عبر تجربة شعرية مغرية ومخيفة، مغرية لأنها تتسع لتغطي مساحة واسعة وعميقة من الطموحات الجمالية للشعراء والنقاد جميعا، فهي تجربة غذت الكثير من شعراء أجيال مختلفة، واتسعت قدرتها علي مواكبة معظم الأشكال الشعرية العربية تقريبا، تتسع تجربة عفيفي مطر فتشمل الأشكال المختلفة للقصيدة ولا تخلو من مناوشات قصيدة النثر، وهي تجربة تتسع لتسمح بتحرك عدد كبير من النقاد في وصف ملامحها والتنظير لها وهي تجربة مغرية لأنها تقبل دون لي ذراع مقولات النقد وتوجهاته علي تنوعها. المتمرد دائماً ويقول الشاعر سمير درويش: «عندما يتعلق الكلام بالشاعر محمد عفيفي مطر فإن ثلاثة عناوين تحتل رأسك: إنه شاعر مظلوم لم يتبصر النقاد قصائده، وإنه متمرد علي الأوضاع السياسية، وقد تعرض للكثير من المشاكل من جراء مواقفه، وأخيرا إنه شاعر مجدد لم يستسهل الكتابة ولم يقتف أثر أحد وأتي بصور ومعان غير مسبوقة، وهو من الممكن أن يكون كل ذلك بالفعل، بل أكثر منه، فالقصائد الأولي لشعراء السبعينيات، وشعاراتهم التي رفعوها أيضا، كانت متأثرة بشعر مطر الممتد أخذا وعطاء إلي تجربة جماعة شعر في لبنان وإن تخلي بعضهم عن العروض، وهو ما كاد يتوج أبا لشكل شعري أخذ في التشكل أثمر عدة مجالات مطبوعة. ويقول الشاعر طاهر البربري إن الكلام عن الراحلين من المبدعين يعتبر فائضا عن الحاجة خاصة إذا كان عن شاعر مثل محمد عفيفي مطر، فهل نتحدث عن إنسان تقطر كلماته حكمة وتأملاً، أم نتحدث عن نموذج المبدع المستقل الذي أمضي حياته في محبة الشعر والأرض؟ أم نتحدث عن تجربة حياتية وإبداعية امتدت لأكثر من نصف قرن؟، من المستحيل اختزال هذه التجربة الممتدة في سياقها الإنساني والإبداعي في سرادق مؤقت من كلمات الأصدقاء، لكن السؤال الأهم - لو أن عفيفي مطر أحد شعراء بريطانيا أو حتي السنغال - هل كانت مراسم جنازته ستلقي هذا المستوي من الإهمال والتجاهل؟، هل يمنحنا هذا الوطن كل يوم «عفيفي مطر» حتي يمر مرور الكرام هكذا دون وخزة ضمير واحدة؟ وماذا لو كانت مراسم الجنازة هذه لممثلة من الدرجة الرابعة في بلد تعاني أجهزته كل هذا الغياب؟!. ويري الشاعر محمد الشهاوي - في شهادة له عن تجربة «مطر» الشعرية أن «عفيفي مطر» يلتقي مع كبار المتصوفة في أن للكلمات «بعدا ما ورائيا» صادما ومقلقا وغامضا وعميق.. بقدر ما هو: مدهش وشفيف وواضح، كما يلتقي معهم في التحليق عبر رحابات المطلق واللا محدود.. والتحول والتجول في ملكوت خلوات الإشراق متخذا من سريرته وتطلعاته بساطة الطائر به ليل نهار.