تفاصيل زيارة رئيس المكتب الثقافي الكويتي لجامعة القاهرة (صور)    سعر جرام الذهب ببداية تعاملات اليوم الإثنين 16 يونيو 2025    ارتفاع تأخيرات القطارات على الوجهين البحري والقبلي    رئيس مياه سوهاج يتفقد أعمال الاحلال والتجديد بمحطة معالجة صرف الكولا    الدكتور سويلم يتابع محطات رفع المياه ومجهودات مصلحة الميكانيكا والكهرباء خلال فترة أقصى الاحتياجات    أسعار الأسماك اليوم الإثنين 16 يونيو في سوق العبور للجملة    قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف مدينة حمد السكنية بخان يونس    الرئيس الإيراني: الوحدة الداخلية مهمة أكثر من أي وقت مضى.. ولن نتخلى عن برنامجنا النووي السلمي    Ynet: أحد الصواريخ سقط قرب مكتب السفارة الأمريكية في تل أبيب    الأخضر يعيد ل سعود عبد الحميد بريقه من جديد    استقرار نسبي في حركة المرور اليوم بالقاهرة الكبرى وأحجام مرورية    إصابة شخصين في مشاجرة بالأسلحة البيضاء بطهطا بسوهاج    طقس اليوم الإثنين.. تحسن كبير في الحالة الجوية    لهذا السبب.. لطيفة تتصدر تريند "جوجل"    أحمد فؤاد هنو: عرض «كارمن» يُجسّد حيوية المسرح المصري ويُبرز الطاقات الإبداعية للشباب    نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 في أسيوط بالاسم ورقم الجلوس.. رابط الاستعلام بعد الاعتماد    تفاصيل مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    اليوم.. نظر محاكمة 11 متهما بخلية التهريب    بوتافوجو يحقق فوزا ثمينا على سياتل في كأس العالم للأندية    تضرر شبكة الكهرباء فى وسط إسرائيل بسبب الضربات الإيرانية    ليس تريزيجيه.. ميدو يحمل هذا اللاعب مسؤولية إهدار ركلة جزاء الأهلي ضد إنتر ميامي    بعد عمله اليومى.. محافظ قنا يتجول بدراجة فى شوارع المحافظة    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الاثنين 16-6-2025.. هبوط كبير تجاوز 900 جنيه    "معتصم النهار يخوض أولى تجاربه السينمائية في مصر ب«حين يكتب الحب».. قصة رومانسية وإنتاج ضخم"    ميدو يتحدث عن أمنيته ل الأهلي في كأس العالم.. ويوجه رسالة بشأن زيزو (فيديو)    مدرب بالميراس: مباراة بورتو ستساعدنا على التحضير لمواجهة الأهلي    الضربة الاستباقية الإسرائيلية ضد إيران بين الفشل والنجاح    أحمد السقا يرد على تهنئة نجله بعيد الأب.. ماذا قال؟    ارتفاع قتلى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى 16 قتيلا    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مراجعة اللغة الفرنسية الصف الثالث الثانوي 2025 الجزء الثاني «PDF»    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    نجوى كرم تطلق ألبوم «حالة طوارئ» وسط تفاعل واسع وجمهور مترقب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    نشرة أخبار الأهلي في أمريكا: صدمة تريزيجيه.. وغضب الخطيب وأزمة بن شرقي    صرف الخبز البلدي المدعم للمصطافين في عدد من المحافظات    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    لا تسمح لطرف خارجي بالتأثير عليك سلبًا.. توقعات برج الجدي اليوم 16 يونيو    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاولة للدخول إلي مطبخ أصلان الإبداعي:
داخل كل إنسان كتاب مهم .. ما أزال أبحث عنه
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 04 - 2010

إبراهيم أصلان في الخامسة والسبعين. لديه ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية ونصان سرديان. وكتاب حديث " حجرتان وصالة" تحتار في تصنيفه (اختار هو أن يسميه متتالية منزلية، ولا مانع لديه أن يسميه النقاد رواية أو قصصاً..)... كما أن لديه العديد من الأحلام المؤجلة.
عندما سألته: هل ندمت علي شيء في مشوار الكتابة؟
أجاب علي الفور: " أعتقد أنني خفت من الكتابة أكثر مما ينبغي". كان يريد أن يكون أكثر جرأة ، أن يستثمر الوقت بشكل أفضل .. لأنه طوال العمر لم يكن مشغولا بشيء آخر سوي الكتابة ومشكلاتها حتي في فترات توقفه عنها ..كان يمارسها بشكل أو بآخر .." يمكن دا اللي عملي درجة الخوف" كما يقول.
الكتابة لدي أصلان هي فن " الاستبعاد" .. يكتب دائما ب "الأستيكة" كما يقول. لذا في واحدة من زياراته إلي خارج مصر، زار أحد المتاحف العالمية الكبري ، شعر بسعادة بالغة لأنه يشاهد " أصول الأعمال " التي رأي " مستنسخات " لها من قبل ... وقتها شعر أنه أنجز شيئا كبيرا في حياته ....
لكن كانت فرحته الأكبر عندما شاهد منحوتات الفنان الشهير جاكوميتي. فنانه الأكثر قربا إلي قلبه تقوم أعماله علي الاستبعاد ... لا يتبق من هياكله إلا القليل .وهذا ما يمارسه أصلان في كتاباته .. كتابة " تستبعد كل ما هو ليس ضروريا" ..وتكره أن تفكر بدلا من قارئها أو ان تقدم له أجوبة جاهزة. لذا يؤمن أن كل ما يمكن استبعاده يجب أن يستبعد، والمكتوب لا يكون مهما في حد ذاته ولكن اهميته في قدرته علي التعبير عن كل الاوجاع غير المكتوبة لان ما هو حقيقي غالباً يكون عصياً علي الكتابة.
مع الكومبيوتر. اكتشف أصلان ما يتيحه هذا الجهاز من إمكانية في "الحذف"... يقول أصلان: أهرب عادة من الكتابة بتمزيق أو مسح ما أكتب ولكن بعد أن تعلمت الكتابة علي الكمبيوتر اكتشفت انه سهل علي مهمتي أكثر اقصد مهمة المسح والالغاء وليس مهمة الكتابة يشبّه أصلان ما يقوم به مثالين الأول: الروائي مثل البستاني في علاقته بالحديقة أو النحات في علاقته بالتمثال. يوضح أصلان : النبتة الصغيرة عليها ان تزيل الحشائش الضارة والأعشاب وكل ما يعوق نموها وهذا بناء يقوم علي الاستبعاد لانه بناء يتعلق بما هو حي وكل بناء حي من شجر وانسان وحيوان عمل فني، لو تأملت الأمر ستجده لا ينحو إلا نحو استبعاد ما يعوق هذا النمو وهذا يكون شرطاً اساسياً لبناء أي كائن حي والعمل الفني هو كائن عضوي في نهاية الأمر وبدايته.
المثال الثاني: النحات الذي يتعامل مع قطعة من الحجر وفق تصوّر ما لديه، بينما نحات آخر يستشعر عبر العلاقة الحميمة بينه وبين الحجر أن كائناً ما أو شكلا ما داخل هذا الحجر يُريد أن يتحرر منه، وتكون مهمة النحات المساعدة علي إظهاره، أو إتاحة الإمكانية لتحرّر ذلك الشكل الكامن داخل الحجر، حتي لو جاء غير مُتلائم مع قواعد التشريح.
هذان المثالان حددا علاقة أصلان بالكتابة: "نحن لا نكتب حياتنا وإنما نكتب بها... وأي نص يستمد قيمته وقدرته علي التأثير ليس مما هو مكتوب ولكن من قيمة الزاد أو الطاقة الروحية التي كتب بها".
ولكن منذ المجموعة الأولي " بحيرة المساء" وحتي أحدث كتبه " حجرتان وصالة" ما ثوابت التجربة ومتغيراتها؟
ليس لدي " الأستاذ خليل" من يكاتبه!
" حجرتان وصالة" أحدث أعمال إبراهيم أصلان . هي ليست رواية ك " مالك الحزين" أو " وردية ليل" أو " عصافير النيل"، كما أنها ليست مجموعة قصصية مثل " بحيرة المساء" أو " يوسف والرداء"، أو " حكايات من فضل الله عثمان" ..كما أنها ليست نصوصا واقعية يستفيد فيها أصلان من تجاربه الشخصية أو يكتب فيها عن شخصيات واقعية عرفها هو وقارئه أيضا مثل كتابيه " خلوة الغلبان" أو " شيء من هذا القبيل". هي نصوص تصلح منفردة لكي نسميها قصصاً، أو نلمح فيها خيطا يربط أحداثها ، مما يجعلها أقرب إلي رواية حيث الشخصية الأساسية طوال النص واحدة: الأستاذ خليل الذي أحيل إلي التقاعد، يجلس منفردا في البيت بعد زواج الأطفال، ثم ترحل الزوجة في منتصف الكتاب، بينما يواجه " الأستاذ خليل الحياة منفردا".
هذه النصوص كتبها أصلان استجابة لحالة ملحة وغامضة. يوضح:" حالة تريد أن تكتسب وجودا، أنا استجيب لهذه الحالة وأكسبها هذا البناء كوسيلة قادرة أن تحقق هذا الوجود". هكذا يقول أصلان: " قد لا تصدق أن الكتاب كتب نفسه بنفسه، بل إنه اختار عنوانه أيضا". ولكن لماذا اختار أصلان أن يطلق علي هذه النصوص " متتالية منزلية"؟ ألا يشغله التصنيف الأدبي المستقر والمتفق عليه؟ يجيب:" منذ البداية أضع تصورا عاما، أنني أريد أن أكتب كتاباً، هذا الكتاب له شخصيته المستقلة والواضحة ، ومادام أصبح شخصية مستقلة ، يصبح بالتالي له قدرة علي التأثير، ليس مهما بالتالي ماذا يسمي ، هل رواية أم مجموعة قصصية؟ ليس مهما التصنيف ، قد يراه البعض أقرب لرواية »ماشي« قد يرآه آخرون أقرب لمجموعة قصصية »معنديش مانع« لأي تسمية. ولكن في كل كتبي ألتقط دوماً النثار اليومي الذي لا ينتبه إليه أحد، وبالتالي ينحو كل كتاب الي اتجاه مختلف، كي نصل أنا والقارئ إلي نقطة مشتركة، وهذه برأيي طريقة مثالية جداً لتجنّب فكرة الأدب الهادف الذي يريد أن ينقل إلي القارئ رسالة معينة، وفي الحقيقة لا أجد نفسي في هذه الكتابة الكلاسيكية، ولا أري أن وظيفة الأدب هي تقديم الرسائل".
يضيف أصلان: " رغم تباين قصص مجموعتي الأولي " بحيرة المساء" إلا أن هناك سعي لإحداث نوع معين من التأثير، يعني " ألملم" حالة علي بعضها .. وهذا ما يعطيها القدرة علي أن تصبح مستقلة في كتاب"
هل يستبعد أصلان ما لا يلائم الحالة التي يحاول لملمتها؟ يجيب:" كثير من قصص " يوسف والرداء " من " بحيرة المساء" لأنها لم تكن مناسبة . رأيت أن هذه القصص تمثل مرحلة أخري، ربما مرحلة انتقالية بين عالمين". يوضح أصلان: " عمليات التطور في الآداب والفنون لا تتأتي بقرار ، ثمة عناصر مستجدة تطرأ عليك، تشعر بهذه العناصر حتي لو كنت تستخدمها للمرة الأولي.. أحس بها وأستغربها ولكن أحتفي بها ..ومن هنا يأتي إحساسك بأن ما تكتبه مختلف عما سبقه".
هذه الاختلافات أو التطورات يعيها أصلان جيدا .. يقول: " في بحيرة المساء كنت أسعي للسيطرة علي حركة الشخصية داخل النص، أسعي للسيطرة علي " الجو" داخل " حيز" القصة" ، يضحك: " يعني مجموعة من المساعي الحميدة" في لحظة ما تجد أن العمليات التي تم السيطرة عليها بقيت شبه موجودة، ثم عليك أن تتلمسها في عملية التطوير وتظل في بالي عندما أبدأ عملاً آخر من أجل اختبارها وإتاحة الفرصة لها". يوضح أصلان رؤيته بمثال:" فالحوار بعد " بحيرة المساء أخذ صيغة أخري، أصبح أقرب إلي الناس".
ولكن ما ثوابت التجربة وما متغيراتها؟
يصمت قبل أن يجيب: من الصعب أن أقف خارج عملي وأرصد أشياء مثل هذه. ولكن هناك شيئا أتنبه له منذ بداية ممارستي للكتابة وهو نفوري الكامل من حض المتلقي علي عدم التفكير. هذا شيء شبة مقدس بالنسبة لي. وهذا هو الثابت الوحيد الذي أحرص عليه في تجربتي". ويضيف: " العمل الفني الحقيقي هو ذلك العمل الذي لا يُفكّر به لأحد، ولا يتخيل بدلا من احد ولكن يوفر الامكانية الوحيدة والقادرة جماليا علي ان تتيح للآخرين أن يفكروا لأنفسهم".
داخل كل إنسان كتاب مهم
بدأ أصلان الكتابة مثل سائر الكتاب، بالخواطر، ثم نشر مسرحية قصيرة في مجلة "الثقافة". وتجمعت لديه عشر قصص قصيرة نشرها من بينها " الساعة الواحدة" , " عصفور علي أسلاك الترولي" وهي القصة التي تحولت إلي مدخل لرواية " عصافير النيل" فيما بعد. لكنه كان يشعر أن هذه القصص تشبه قصص " الآخرين" لا تشبهه، كان قراره أن يمزقها، وعاد إلي القراءة .. ما كتبه هنري جيمس، هيمنجواي، مارك توين ..وبدأ يكتب عن هؤلاء الكتاب في مجلة" الثقافة الجديدة" ولكن بداية من 1965 بدأ في كتابة قصص "بحيرة المساء" بعد أن شعر أنه وجد صوته الخاص. كيف كان قراره بالاختلاف عن السائد وقتها؟ يجيب:" لم أقصد علي الإطلاق أن أكون مختلفا أو أكتب كتابة مختلفة، فقط كنت أريد أن أكون " أنا". يضحك أصلان:" إذا كان لي أن أنصح أصدقائي من الكتاب الشبان ، وأنا لا أعرف كيف أنصح، أن يسعوا لكي يكونوا أنفسهم لأن الجديد يتأتي من هنا". في تلك الفترة التي بدأ أصلان فيها الكتابة كان هناك محمد عبد الحليم عبد الله، وأمين يوسف غراب، إحسان عبد القدوس ، ويوسف السباعي .. الكتابة علي طريقتهم أكثر إغراء وشهرة ومالاً..وفي الجانب الآخر يحيي حقي ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ربما كانوا الأكثر تجريبا ، ولكن لا يوجد مردود مادي اختار هو أن يكون " جديدا" ومختلفا ..ولكن كيف يمكن أن يتأتي الوعي بالاختلاف؟ يجيب:" عندما أقول " تحاول أن تكون نفسك" هذه جملة علي المستوي النظري ليس لها معني كيف أكون " أنا" ، أعني بها أن تكتب القصة كما تحب أن تقرأها ، يعني أن تكتب علي النحو الذي تحبه. ولهذا في كتبي كلها لم أسع لكتابة كتاب من الكتب التي أقرأها، ولكن أسعي لكتابة الكتاب الذي يشبهني ، مؤمنا بأن في داخل إنسان كتابا مهما جدا .. الموهوبون من الكتاب يقضون حياتهم بحثا عن هذا الكتاب المهم والجميل...وأنا أسعي وراء هذا الكتاب".
لا يتحدث أصلان عن آباء له في الكتابة، إنما "كتّاب" استوقفوه. يقول " هيمنجواي استوقفني بسبب تقنيات الكتابة لديه. ولا يمكن أن يستوقفك إلا ما يتجاوب مع مطالب داخلية عندك، أنت تبحث لها عن حلول. وقد عشت حياتي كلها الكتابة، عندما تتجاوز مشكلة من هذه المشكلات تظهر مشكلة أخري وهكذا.. الآن أستطيع أن أوصّف التجربة إلي حد ما، أستطيع أن أقول أيضا إنني تجاوزت هيمنجواي ، تجاوزت هذه الحالة وأصبح لدي حلول شخصية لهذا النوع من مشكلات التعبير، واستطعت أن أصل إلي بعض المبادئ التي يمكن أن تفيد التجربة".
" رحلة التكوين" كانت شاقة، يقول أصلان: " علاقتي بالقراءة كانت " حمي مستمرة" ، كنا نتباري في اكتشاف الكتب ، وهذه مسألة تكشف لك جدية الكتابة بالنسبة لكتاب الجيل". ويفسر أصلان الأمر:" ربما بسبب أنني لم أتعلم بشكل منتظم، وأنا لا أرضي علي نفسي أن أكون أقل معرفة من أحد بلغ حدا كبيرا في التعليم". في رحلة القراءة قرأ أصلان كل ما وقع عليه بصره من أعمال مترجمة، ولكن بالنسبة للكتاب المصريين حدد هدفه منذ البداية :" قالوا لي يجب أن تقرأ كل ما يكتبه نجيب محفوظ ويحيي حقي، ويوسف إدريس ، أما بقية الكتاب كنت أقرأ بناء علي توصية، قيل لي مثلا أن رواية " أنا الشعب" لمحمد فريد أبو حديد أفضل أعماله، فاكتفيت بقراءتها ..". لعب محيي الدين محمد دورا بارزا في توجيه أصلان نحو القراءة المكثفة.
يوضح أصلان: " كان محيي مراسلا لمجلة الآداب في مصر، وصديقا للسياب وأدونيس والبياتي .. وعرفت منه أعمالهم، في تلك الفترة كنت شغوفا بأشعار المتنبي وابن الرومي .. وبعض مسرحيات هنريك إبسن .. ولكنه أعد لي قائمة بما ينبغي أن أقوم بقراءته ..وهكذا رشح لي أعمال دوستويفسكي وقال نجلس عندما تنتهي من القراءة". تشيكوف كان حكاية أخري : "قرأته ككاتب مسرحي، وانبهرت به تماماً، وخاصة في مسرحيات "الشقيقات الثلاث"، و" بستان الكرز" وبدأت أستكمل قراءته والتعرف علي عالمه بشكل فيه قدر من التكامل، فقرأت مختارات قصصية ترجمها له محمد القصاص، أول قصة قرأتها له كان "موت موظف"، تلك القصة الشهيرة، وبمجرد أن قرأتها انتابني الإحساس بأني كاتب قصة قصيرة، وأن القصة القصيرة هي الإطار الذي من الممكن أن أودعه أحلامي ويستوعبها، وما يستوقفني من شئون هذا العالم الذي أعيش فيه." وهذه كانت البداية التي اكتشف أصلان عبرها صوته الخاص.
ولكن هل كان يمكن أن يتغير مصير أصلان لو لم يلتق بمحيي الدين محمد الذي كان له الأثر الأكبر في تكوينه؟ يجيب: " معظم الكتب التي قرأتها بعد مرحلة البدايات كانت من اكتشافي الخاص، كانت لديّ أسئلة عديدة أحاول أن أبحث لها عن إجابات، ولذا انشغلت لفترة طويلة بالقراءة في علم النفس. كل الهواجس التي كانت تنتابني، ولا تفسير لها لديّ وجدت في علم النفس تسميات لها. وقرأت كثيرا في التاريخ وخاصة كتاب ويل ديورانت " قصة الحضارة" وفي الفلسفة وغيرها من مجالات، لأنني كنت مؤمنا أن وظيفتي الأساسية في تلك الفترة هي " قارئ". قارئ يكتب بين الحين والآخر ، ومشغول بأشياء يريد التعبير عنها والبحث لها عن إطار.
نقيض للمعني ..ولفعل القراءة
في " حجرتين وصالة" يغادر أصلان عالمه الأثير ، بعيداً عن النهر، وإمبابة، وناسها وحكاياتهم ..يختبر أدواته في رقعة ضيقة ، كأن هذا العمل " محاولة للعب" ، ولكنه " لعب جاد" ..يقول:" هناك شيء دائم في تجربتي، كلما ضيقت المادة والرقعة التي تتحرك فيها كلما استنفرت قواك الإبداعية لعمل شيء من هذا القليل ، أو أن تسعي لعمل شيء مما يهمله الناس ويظنون أنه مشغولا بفكرة مشكلات التعبير في فنون عدة وليس فقط غير قابل للتناول الإبداعي". هل مبدأ أصلان في الكتابة التركيز علي كل ما هو مهمل؟ يجيب:" أنا لا أسعي إلي ذلك ، طبيعتي الشخصية تستجيب لأشياء قد لا تلفت نظر الكثيرين ، أحيانا تستوقفني عبارة ، ومشهد عابر، وأنا أحيانا أندهش لماذا هذه الأشياء بالذات هي التي تجذبني؟« أسأله: يبدو أن فكرة التحولات تشغلك.. لم يعد النهر هو النهر .. والشخصيات تصطادها في لحظات عبورها وتحولاتها؟
يجيب:" الكتابة لا تقوم عندي علي أساس فكري، أبدأ دائما من إحساس، وغالبا أسعي نقيضا للمعني، ليست لديّ معان أو رسائل كبري أريد إيصالها للقارئ ، لأنني اظن أن كل المعاني وصلت وانتهي زمانها، أسعي بما أعرف نحو أفق أبعد وخصوصا أنني اعتمد علي عينيّ". يشرح أصلان فكرته:" ذاكرتي بصرية بالأساس، وهذه ما جعل هناك اهتمامي ينصب نحو كل الفنون البصرية. ذات مرة قال لي يحيي حقي جملة وجدت صدي كبيراً لدي. قال " حتي تغني الوسيط الذي تعمل فيه، وهو وسيط له إمكانيات تعبيرية محدودة لابد أن تتعرف علي الإمكانيات التعبيرية الموجودة في وسائط أخري". اللغة بالنسبة لي ليست هي الوسيط الأمثل لتقديم شيء مرئي، أنت تقرأ وتنتقل من جملة إلي أخري بينما أنا في مواجهة مشهد، لو أنت في سينما ستري المشهد بأكمله ، لو تتأمل لوحة ستتأمل أيضا المشهد بأكمله، ولكن مع اللغة تغيب تفاصيل المشهد مع عملية القراءة. لذا أريدك وأنت تقرأ أن تري أيضا وكأنك أمام كادر حقيقي ، لذلك في علاقتي باللغة أتعامل مع الكلمات كعناصر أولية ، الكلمات هنا ليست مادة للقراءة لأنني أسعي نقيضا لفعل القراءة، أريدك أن تري، لا أن تقرأ، أسلط الضوء بالكلمات علي المشهد، وأمامك حياة وحركة حية".
يضيف أصلان: " أنا لا أتعامل مع الناس والأشياء كحالة فوتغرافية، وإنما أتعامل مع الحالة التي تكون عليها الأشياء والناس، وأسعي لاستبعاد كل ما يمكن استبعاده مادام هذا المستبعد سيكون موجودا كإحساس". ربما لهذا يكون أصلان نقيضا للبلاغة والمجاز في الكتابة..يضحك موضحا :" قال لي مرة جابر عصفور أنه قرأ "بحيرة المساء" ولم يجد تشبيها واحدا فيها ". يتوقف قليلا قبل أن يوضح فكرته:" أنا يؤرقني الشيء كشيء، عندما أشبه كل شيء بآخر فأنا لا أحتاج أن أكتب اساسا، عندما تكون في مواجهة مقعد من المقاعد ، فمن المؤكد أن هناك شخصا ما أودع هذا المقعد أجمل ما فيه ورحل، ولكنه ترك المقعد ، الكرسي إذن ليس مجرد كرسي من الخشب وإنما أودعت به روح جميلة، مهمتي أن أبحث عن هذه الروح". ولكن رغم ذلك ..يبدو أن أصلان دائما ما يخوض معركة مع اللغة.. عبر تخليصها من الشوائب والبلاغة والتاريخ القديم.. يقول:" اتجهت بمعركتي مع اللغة إلي البحث عن عناصرها الأولية، إذا جاز التعبير أن تصبح " مفردات مغسولة" ليست محملة بدلالات وإلا سيصبح العمل كله برهنة علي هذه الدلالات ، أنا أبحث عن دلالة ، وأن يرتقي العمل ككل إلي مستوي الدلالة".
الناس " اللي تحت"
عندما بدأ أصلان الكتابة لم يكن يحلم _ مثل جيله _ بتغيير العالم، هو من القلائل الذين لم ينضموا إلي تنظيمات سياسية سرية أو علنية..وهو ما انعكس أيضا علي كتابته ، وإن كان من الصعب القول إن هذه الكتابة بعيدة تماما علي السياسة بمفهومها الأشمل ... يقول:" رغم أني لم أنضم لأي تنظيم سياسي إلا أنني تربيت وسط اليسار المصري، ومواقفي كلها وجدتها توافق مع مواقفهم ، ولكن علي المستوي العضوي لم أستطع ، ان أكون فردا في جوقة تؤدي لحنا واحدا. ربما بطبيعة تكويني لا أستطيع أن أتعايش في ظل توجيهات أيا كانت طبيعتها أو أهميتها. يضحك: " أعطني الآلة التي سأعزف بها، ولكن سأبتعد قليلا في الظل حتي وإن كنت سأعزف نفس اللحن". يفسر أصلان هذا الموقف:" ربما بحكم التعليم، لقد انتزعت ثقافتي طوال الوقت بجهدي، ولذا كنت أعرف ما يليق بي كرجل وما لايليق ". ولكن ألم يحاول الاقتراب من القضايا الكبري؟
يجيب:" القضايا الكبري هي كبري بسبب تأثيرها في طبيعة العلاقات الإنسانية " اللي تحت" وهي العلاقات التي أسميها " المياة الجوفية للمجتمع" . في نظري القضايا الكبري يليق التعامل معها علي المستوي النظري، هذا أكثر فائدة ومباشرة ووصولا إلي الناس.ولكن المفترض أن العمل الفني أغني من هذا. أري أن العمل الفني يسعي داخل هذه المياه الجوفية للتعبير عن طبيعة هذه العلاقات الإنسانية ، وهذا يجعل العمل في حقيقة الأمر أغني، وقابلا للقراءة في مستويات عدة. سيجد القراء انفسهم فيه، وسيجد عالم الاجتماع والمؤرخ والسياسي والفيلسوف جوانب هامة لدراستها.وهكذا"
ولكن هل يعتبر أصلان هزيمة 67 هي النقطة الفاصلة التي صنعت جيل الستينيات ..يقول:" 67 كانت نقطة فاصلة علي مستوي البلد كلها، ونحن أفراد داخل البلد، لكن أريد القول أن كتابات الستينيات كانت قبل النكسة تحمل نذراً بوقوع كارثة ما، المباغت في الأمر أنها كانت بهذا الحجم المروع. عندما تقرأ أمل دنقل في زرقاء اليمامة، تشعر بذلك، كنا نتوقع كارثة، ولكن لم نتوقع أن تكون بهذا الحجم المروع. وهي بالتأكيد لعبت دورها بشكل غير مباشر في هذا . علي مستوي المياه الجوفية »اتعمل فيها دا« والسعي داخل هذه المياه الجوفية يحتمل التعبير عن 67 وعن الهزيمة وعن القضية الفلسطينية ..ولكن ليس بشكل مباشر.وهناك أعمال تناولت هذه القضايا بشكل مباشر وكانت جيدة ، أنا عندما أتحدث لا اتحدث عن الطريقة المثلي للكتابة. إنما عما يتعلق بي أيا كانت أهميته".
لم أختر بني آدم بمواصفات معينة
كيف يختار أصلان شخصيات رواياته؟ أسأله.. يجيب : أنا لم اختر بني آدم بمواصفات معينة. لا الشيخ حسني هو الشيخ حسني الحقيقي، وبعدين الشيخ حسني الحقيقي كان اسمه الشيخ محسن، كانت له أشياء كثيرة جميلة، ومعروفة في إمبابة ، ومعروفة بين أصدقائي، وكان أصدقائي هم قرائي الحقيقيين، ولم يكن من اللائق أن أحكي لهم حكايات هم يعرفونها. كل الناس كانت تعرفه ، عارفه دا، ومن الممكن ألا يعتبروني كاتبا في هذه الحالة . سمعت مرة أنه كان راكب عجلة تحولت في الرواية إلي موتوسيكل.
هل كان في نيتك أن تكتب جزءاً ثانياً من الرواية؟
يجيب: آه نويت فعلا، وحثني الكثير من الأصدقاء لاستكمال الرواية، عبد الفتاح الجمل قال لي دي فيها رؤوس موضوعات، مثل الأقماع وممكن تبدأ من فوق وتتعمق ، كان في نية للعمل في هذه المنطقة. ولكن نجاح الفيلم جعلني أحجم عن ذلك، حتي لا يقال أنني أستثمر نجاح الفليم.
(هامش):
في كتابه " شيء من هذا القبيل" عاد أصلان إلي شخصيات الرواية يتتبّع مصائرها . ما الذي جري لشخصيات مثل الشيخ حسني الضرير وابنه يوسف والعجوز تاجر المخدرات وتاجر الطيور... وغيرهم؟
يقول أصلان: "بعدما خرج تاجر المخدرات من سجنه جلس مع زوجته التي كانت جميلة. وضعت رأسها علي كتفيه وارتاحت قليلاً ثم ماتت. انتابه هلع كبير ولم يخرج من بيته لشهور. ثم أطلق لحيته ووضع عمامة كبيرة، وأمسك بعصا طويلة، وصار يغادر البيت قبل صلاة الفجر، يجوب يومياً حواري إمبابة يدقّ الأرض بعصاه وينادي: "الصلاة خير من النوم". وما إن تبدأ الصلاة حتي يعود إلي البيت ولا يدخل الجامع أبداً.
أما المعلّم تاجر الطيور كما يقول أصلان فهدم المقهي بعد شرائه وشيّد مكانه بنايةً كبيرةً. لكنّ مرضاً عضالاً أصابه في حنجرته، فسافر إلي لندن للعلاج، حيث وضعوا في رقبته ثقباً معدنياً للتنفّس »للصفارة«. وبعدما عاد إلي مصر، كان يجلس كعادته في محله لبيع الدجاج يشرف علي عمّاله وهم أو ينتفون الدجاج. وحدث أنّ الزغب المتطاير في أجواء المكان سدّ هذه »الصفارة« واختنق المعلم، ليموت علي أبواب دكانه.
أما الشيخ حسني الضرير، الشخصية البديعة التي جسّدها الفنان محمود عبد العزيز فكان الطالب الأول في معهد الموسيقي العربية. كان يعشق عبد الوهاب ويحفظ المواعيد التي تبثّ خلالها الإذاعات أغنياته. وكان يعمل مدرّساً للموسيقي، لكنّ إدمانه "للمسائل" وهو الاسم المهذب الذي يختاره أصلان للحشيش والمخدرات، وعدم اهتمامه بمظهره جعل إدارة المدرسة تتخلّي عن خدماته وتطلب منه أن يرسل شخصاً في أول كل شهر لقبض مرتّبه.
هكذا يتتبّع أصلان مصير شخصياته، في كتابة رائقة، تقترب في مناطق منها من الشعر، وتجمع خصائص أسلوبه الذي تميز به، من الإيجاز الذي يصل إلي حد التقطير لكنّه محمّل بالدلالات، إلي الجمل القصيرة العارية بلاغياً التي تصل في بعض الأحيان إلي السخرية المريرة. كل هذا ليصوغ لنا لقطات بالغة الذكاء والإحكام والانضباط، من أجل النفاذ إلي الجوهر. وهذا سر كتابة أصلان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.