يعتبر كتاب "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان" للدكتور عبد الوهاب المسيري (رحمه الله) واحدًا من أهم كتب الدكتور أهمية, ففيه يشرح الأرضية الأساسية الفلسفية التي يتناولها في معظم كتبه, فهو يتحدث ويشرح فكرة "الفلسفة المادية" وما يستتبعها من مصطلحات, وتلك الفكرة لها صفات محددة تظهر في أشكال متعددة ومختلفة في حياتنا. إن تجليات الفلسفة المادية في حياتنا لا تخطر على بال, وقد نتصور أنَّ فعلًا معينًا نفعله فقط هكذا, ولكن بالتدقيق نجد أن فيه ظل من ظلال الفلسفة المادية. وفي العرض الذي بين أيديكم, فإني قد ألقيت الضوء على العناوين التي احتواها الكتاب, وبالطبع اضطررت– آسفة – إلى إغفال العديد من العناوين الهامة, والتي تعطي للكتاب بعده وتشرح تلك الأفكار بالأمثلة والتمعن في دراسة الظاهرة, وأتمنى أن يدفع هذا الاستعراض السريع القارئ الكريم لاقتناء الكتاب وقراءته. وهذا الكتاب تتبدى أهميته في شيئين أساسيين هما: أنه يصف بدقة الفارق بيننا وبين الآخر, فكثيرًا نقع في تقليد الآخر لأننا لا ندري أساسًا ما هم وما نحن, وكيف نتمايز عنهم, وإن لم نعرف أنفسنا ضعنا في فلسفات وتفكير الآخرين. أيضا يعطي لنا الكتاب موازين فكرية حياتية يمكن لنا بها أن نزن أي أمر يمر علينا (مقالة, قصة, فيلم, أو حتى سلوك بشر في مجتمعنا), نعرف هل هذا الشيء أو الفعل أو القول له خلفيات مادية دون أن ندري, أم هو يرجع للفلسفة الإنسانية التي تنظر للإنسان بمنظور مادي وروحي في آن واحد (منظور متعدد الأبعاد ومركب). ويتكون الكتاب من ثمانية فصول, فيشرح الفصل الأول: الإنسان والمادة, والفصل الثاني: إشكالية الطبيعي والإنساني, الأرضية والركيزة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب. فيهما يشرح المسيري أن الإنسان يتكون من جانب مادي (مثله مثل الحيوان), وجانب إنساني, وهذا الجانب الإنساني الذي يتمايز به عن بقية المخلوقات الطبيعية/المادية يكون في أن الإنسان لديه أخلاق ويعرف معنى الجمال والدين والاجتماع، وأنه يطرح التساؤلات عن علل الخلق والوجود الأولى (لماذا خلقنا ووجدنا في تلك الحياة) وبالتالي يبحث عن غرض وجده في الكون. هذا الإنسان قادر على التجاوز, يعني أنه يتجاوز الأمر الواقع المفروض ويحلم بشيء مغاير له ويسعى لتحقيق هذا الحلم, (وأعتقد ان أروع مثل موجود حاليًا يبين معنى الحلم وتجاوز الواقع هو الثورة المصرية, فلم يكن أحد يتوقع أنها قد تتحقق, ولكن كل شخص شارك فيها كان لديه حلم ولو بسيط, وقد تحقق ولو جزئيًا, وأيضًا من أمثلة التجاوز في الأحلام الانتفاضة الفلسطينية, فصمود الفلسطينيين العزّل أمام الكيان الصهيوني هو درب من الجنون من المنظور المادي). يعتبر المسيري أن الإنسان صاحب إرادة وحرية، ولديه تاريخ يروى (فالتاريخ هو فعل إنساني بامتياز فهو تجسيد لحرية حركة الإنسان في الزمن والمكان). و قادر أيضاً على تطوير منظومة أخلاقية غير نابعة من القانون المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية. الأمر الآخر أن كل فرد في المنظومة الإنسانية يتميز بالتفرد, صحيح أن هناك إنسانية مشتركة (فالجميع لديهم عينان وأنف وأذنان ووجه) ولكن ليس الجميع متشابه في القدرات العقلية ولا القدرات الاجتماعية والحسية, فقد يتربى طفلان توأم في نفس البيت ويكون لكل منهما سلوك مختلف تمامًا عن الآخر؛ وهنا يظهر مصطلح الإنسانية المشتركة (هو مصطلح إنساني ينظر للإنسان من جانبه المادي المشترك عند الجميع ويراعى أن هناك اختلافات وفروق فردية), في مقابل مصطلح الإنسانية الواحدة (وهو مصطلح مادي يرى أن كل البشر وحدة واحدة يسري عليها نفس القانون في كل مكان، وإن فشل هذا القانون في مكان ما فهو يرجع لخلل من طبقوه وليس لأن هناك عوامل أخرى تتحكم في هذا الأمر). يستعرض الكتاب أيضًا سمات الطبيعة/المادة, ويقول أنها بلا ثغرات ولا ثنائيات وأن كل شيء له تفسير داخل القانون المادي ولا نحتاج شيء من خارج القانون كي يشرح ما يحدث. وأن لكل علة سبب, فهذا السبب يؤدي لنفس النتيجة في كل مكان (الماء يغلي في كل الأماكن عند 100 درجة، والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان). وبالتالي فالقوانين حتمية أي ستحدث أيا كان الأمر (فالماء دائمًا يغلي والتفاحة دائمًا تسقط). ويفترض القانون المادي أيضاأن الطبيعة تتحرك بشكل تلقائي وأن تلك الحركة التلقائية، ولا يوجد لها غاية أو تجاوز من أي نوع. ثم يتعرض الدكتور للمشاكل التي تواجه الفلسفة المادية, وأيضًا يشرح جاذبية الفلسفة المادية لتفسير الظواهر رغم المشاكل التي تواجهها. في الفصل الثاني يقارن لنا بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية, ويقول أن الظاهرة المادية تهدف إلى الوصول إلى تعميمات دون دراسة عميقة للظاهرة, كما يذهب البعض إلى أن هذا النموذج (النموذج المادي) هو النموذج الأمثل لدراسة العلوم الإنسانية مثل الأدب والفلسفة وعلم الاجتماع. ويرصد الدكتور حوالي 10 فوارق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية, ثم يتعرض لكلمتي الشرح, والتفسير وأن الأولى تنتمي للفلسفة المادية لأنها تشرح ما تراه فقط أمامها, أما الثانية فهي تنتمي للعالم الإنساني فهي تحاول البحث عن الأسباب والتعمق بها ولا تكتفي بالنظرة السطحية للأمر. ثم يجيب الكاتب عن سؤال "لماذا فشل النموذج المادي في تفسير الظاهرة الإنسانية؟", ويتناول موضوع هام جدًا أفرد له الفصل السابع كاملًاً وهو المساواة والتسوية وكيف أن الأولى تنتمي لعصر الحداثة (أي أن مرجعية تلك الكلمة هي الإنسان) أما الثانية فهي تنتمي لعصر ما بعد الحداثة (أي أن المرجعية للكلمة الثانية هي القانون الطبيعي وليس الإنسان). وتظهر تجليات الفلسفة المادية في عدة موضوعات يتم تناولها, ففي الفصل الثالث العقل والمادة يتناول المسيري العقل من منظور الفلسفة المادية, ويرى أن هناك نوعان من العقل؛ العقل المادي (الذاتي – الإجرائي – غير المتجاوز – الجزئي), والعقل الأداتي (الكلي – المتجاوز – النقدي – موضوعي). ينتقد المسيري العقل الأداتي بوضوح في عدة نقاط, فهو من وجهة نظره، محكوم بحيز التجربة المادية فقط ولا يمكنه تجاوزها، وهذا يؤدي بالعقل إلى أن يصبح جزء من الطبيعة المادية وليس الشيء الذي يميز الإنسان عن الطبيعة. وهذا العقل هو عقل محايد يرصد الحقائق فقط ولكنه لا يمكنه رصد الحقيقة أو تكوين صورة كليه نقدية. كما أن هذا العقل تكنوقراطي يقدس اللوائح والقوانين في حد ذاتها منفصلة عن القيمة.وهذا العقل هو عقل تافه لا يسأل الأسئلة الكلية والنهائية, يهتم بالأمر الواقع فقط، كما أنه ينزع القداسة عن أي شيء وكل شيء بما في ذلك الإنسان. في الفصل الرابع يتناول المادية في التاريخ, ويستعرض الأساس للفلسفات المادية الموجودة في العالم الغربي اليوم, وهي الدارونية الاجتماعية, وهي تطبيق لنظرية عالِم الحيوان الإنجليزي تشارليز دارون, وتلك الفلسفة لها بعض السمات؛ فالقيمة الأساسية هي قيمة البقاء, وهو يكون من خلال الصراع (الأقوى يفترس الأضعف والأسمى يتطور مع الزمن والأضعف ينقرض) كما أن الضعيف يستحق ذلك لأنه لم يثبت جدارة بالصراع, فاستحق الفناء أو أن يستخدم من قبل القوي, وأن كل من المنتصر والمنهزم يورث صفاته لأبنائه ويصبح التفوق والضعف وراثي وحتمي. وفي الفصل الخامس "الترشيد والقفص الحديدي", يقول المسيري أن هناك مصطلحان, "الترشيد" بالمعنى التقليدي وهو هام جدًا فلا يجب أن يتعامل المرء مع الواقع بشكل ارتجالي لكن لابد أن يتعامل معه بشكل منظم منهجي، وواضح للغاية، ويتسم بمجموعة من المفاهيم والأخلاق وأن الأعمال العظيمة لم تكن لتتم لولا هذا النوع من الترشيد. ولكن هناك ترشيد من نوع آخر ينتمي للمنظومة المابعد حداثية (متحررة من أي قيمة), وهذا النوع من الترشيد يوجه نحو أي هدف يحدده الإنسان, فيتم بالتدريج سحب الأشياء من عالم الانسان ووضعها في عالم الأشياء (نزع القائية عن كل شيء) ثم يتم سحب الإنسان نفسه من عالم الإنسان, ويستخدم الاعلام لإعادة تشكيل أحلام الإنسان ليتبناها طواعية ويتخيل أنه اختيار ذاتي حر, من نماذج ترشيد الانسان هي أفران الغاز النازية (فهي كانت تتصور أن أجناس معينة لا أهمية لها وبالتالي التخلص منها أفضل شيء يمكن أن نفعله معها). ويتناول الفصل السادس "إشكالية نهاية التاريخ من منظور فرانسيس فوكوياما.. ومن منظور صموئيل هنتنجتون": الأول صاحب كتاب "نهاية التاريخ", قال أن العالم بأسره وصل إلى ما يشبه أن "الإجماع الديمقراطي الليبرالي" كنظام صالح للحكم بعد هزيمة الايديولوجيات المنافسة, فلابد للناس جميعًا أن يصلوا إلى تلك الصورة المثلى وبذلك لن يكون هناك تاريخ (لا يوجد صراع لأننا وصلنا إلى أفضل صورة). الثاني (صموئيل هنتنجتون) صاحب نظرية "صدام الحضارات", فهو يقول أن الدولة القومية بشكلها الحالي قد تراجع دورها, وبدأ يظهر ما يسمى بالحضارات, فالغرب لم يعد اللاعب الوحيد في الحلبة, ولكن ظهرت حضارات أخرى, ويقول أن الحضارات مختلفة من مكان لآخر بسبب التاريخ واللغة, وأهم شيء هو الدين, وهو يقسم العالم للغرب والآخر the west and the rest. وهنتنجتون يمجد من يتجه نحو الغرب مثل الكاتب الجامايكي الحاصل على جائزة نوبل 2001 نايبول, واوزال رئيس تركيا, وبطله الأكبر هو أتاتورك الذي محى تاريخ تركيا الإسلامية, عاصمة الخلافة, وأسس لتركيا العلمانية. ويؤمن هنتنجتون أن هذا الصراع هو صراع مؤقت بين المنظومات العلمانية والمنظومات الأخرى, وسيتم حسم الصراع في النهاية لصالح النموذج المادي. وفي الفصل السابع "عنصرية التفاوت وعنصرية التسوية", يقول المسيري أنَّ عنصرية التفاوت تنتمي لعصر الحداثة فهي تؤمن بتفاوت الأجناس البشرية, فهناك أجناس أرقى ومتفاوته عن أجناس أدنى أخرى, وهذه الأجناس من حقها أن تفعل ما تشاء بالأجناس الأدنى (الانسان الأوروبي الأبيض فعل ما فعل في مسلمي الأندلس, ثم استدار ليتوغل في العالم الجديد فأباد ملايين من سكان الأمريكتان وأستراليا), وهذا أيضًا يظهر جليًا في النموذج النازي وما فعله بالأجناس التي تخيل أنها أدنى منه. أما عنصرية التسوية فهي عنصرية تنتمي لعصر ما بعد الحداثة, حيث لا مرجعية من الأساس, هذه العنصرية موجهه ضد الإنسان بالأساس, فهى تنادي تلك العنصرية بأن تسوي بين البشر وبين كل الأشياء الأخرى جمادات أو حيوانات, هي عنصرية تهدف إلى إلغاء المعيارية البشرية, تصر على الاستخدام غير الطبيعي لكلمة أقلية, فالمرأة أقلية والأطفال أقلية والمسنون أقلية والمعاقين أقلية والشواذ أقلية والبدينون أقلية, فلا توجد أغلبية (صورة كلية) من أي نوع, بل جزئيات صغيرة متشظية في حالة صراع دائم مع بعضها البعض. وفي الفصل الثامن والأخير المادية والإبادة, يتناول د. المسيري الإبادة كنموذج كامن في الحضارة الغربية, فهي ليست دخيلة عليها ولكنها متجذرة فيها, فبدء من أفلاطون وكتابة الجمهورية الحقوق للسادة فقط أما العبيد والمرأة فلا حقوق من أي نوع, فكما أصلت الدارونية الاجتماعية لمبدأ أن الصراع هو لغة البقاء, فمن حق الأقوى أن يبيد الضعيف متى قرر ذلك, ويظهر ذلك جليًا في الإبادات التي شهدها العالم من الغرب تجاه الآخرين (الأسبان ضد المورسكيين في الأندلس, الأسبان ضد الهنود الحمر, الأوروبيين ضد الهنود الحمر, إبادة سكان استراليا الأصليين, المذابح التي أقامها قياصرة روسيا ضد الأتراك المغول المسلمين, ويظهر أيضا في اللحظة النازية النماذجية, ويتجلى في المذابح التي يقيمها الصهاينة لسكان فلسطين, من تهجير وإبادة مباشرة وما شابه).