«أنجلو جولد أشانتي» تضخ استثمارات جديدة بمنجم السكري خلال الفترة المقبلة    يلا كورة يكشف.. موعد انطلاقة ريفيرو مع الأهلي    يغيب عن باقي الموسم.. فيران توريس يخضع لعملية جراحية    اجتماع الانظباط.. الأهلي وبيراميدز ينتظران مصير نقاط القمة.. والزمالك خارج الحسابات    بوكيه ورد وإعادة المعاش.. هيئة المعاشات تعتذر للفنان عبد الرحمن أبو زهرة    ترامب: يمكن أن أسافر إلى تركيا في حال حدوث شيىء ما    وزير خارجية العراق: نؤكد دعمنا لخطة مصر بشأن إعادة إعمار غزة    توقيع بروتوكول تعاون بين صندوق تطوير التعليم ومعهد بحوث الإلكترونيات لدعم الابتكار والتكنولوجيا    وزير النقل: وصول أول قطار مكيف للخط الأول لمترو الأنفاق لميناء الإسكندرية    وزير الإسكان ومحافظ الشرقية يبدآن جولة تفقدية بعدد من مشروعات المياه والصرف الصحي بالمحافظة    خالد بيبو: حمزة علاء تهرّب من تجديد عقده مع الأهلي    مصرع شخص صدمه قطار بأسوان    ضبط مالك مطبعة بحوزته 52 ألف مطبوع تجاري بدون تفويض في القاهرة    قمة بغداد.. أبو الغيط: نتطلع لرسالة موحدة بوقف حرب الإبادة الإسرائيلية فورا    المهرجان القومي للمسرح يعلن فتح باب المشاركة في مسابقة التأليف المسرحي ضمن دورته 18    مفاجأة بشأن شكل الامتحانات الإلكترونية للمتقدمين لوظائف معلمي الحصة    وفاة إسرائيلية متأثرة بإصابتها خلال عملية إطلاق نار في الضفة الغربية أمس    حكم قضائي جديد يخص طلاب الثانوية العامة| بماذا حكمت المحكمة؟    تفاصيل عودة اختبار السات SAT لطلاب الدبلومة الأمريكية بعد 4 سنوات من الإلغاء «القصة الكاملة»    محمد البهي رئيس لجنة الضرائب: التسهيلات الضريبية في صالح الصناع..    تفاصيل جولة محافظ الدقهلية في شوارع المنصورة..صور    البدري وخشبة على رأس العائدين.. وصول الوفد الأول من الرياضيين المصريين القادمين من ليبيا    منتخب مصر للدراجات يقترب من التتويج بلقب البطولة الأفريقية    وزارة التضامن تقر قيد 4 جمعيات في 3 محافظات    لليوم الثاني.. 21 ألف طالب وطالبة يؤدون امتحانات الابتدائية والإعدادية الأزهرية بالمنيا    طقس مائل للحرارة في شمال سيناء    اليوم.. طلاب الشهادة الابتدائية الأزهرية يؤدون امتحان الدراسات الاجتماعية في الإسكندرية    أولى جلسات محاكمة نجل الفنان محمد رمضان.. بعد قليل    نظر طعن المتهم بقتل «فتاة البراجيل».. ونيابة النقض توصي ب تأييد الإعدام    ننشر توصيات مؤتمر البيئة الطبي بجامعة قناة السويس    جديد عن ليبيا| اقتحام السجون.. وحفتر للليبيين: انضموا إلينا أو الزموا بيوتكم    الليلة.. عرض فيلم «الممر» في دار الأوبرا برعاية مهرجان الأقصر    قبل افتتاح المتحف المصري الكبير.. ما هي أبرز الجوائز التي حصل عليها؟    جامعة بنها تواصل قوافلها الطبية بمدارس القليوبية    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بأسيوط    آيزنكوت: لقاء ترامب مع أحمد الشرع نذير سوء لإسرائيل    مشتريات العرب تصعد بالبورصة في مستهل نهاية جلسات الأسبوع    ترامب: بايدن أسوأ رئيس للولايات المتحدة.. ولدينا أقوى جيش في العالم    تعرف على مدة إجازة رعاية الطفل وفقا للقانون    الصحة تنظم مؤتمرا طبيا وتوعويا لأهمية الاكتشاف المبكر لمرض الثلاسميا    أمين عام الناتو: لدينا تفاؤل حذر بشأن تحقيق تقدم فى مفاوضات السلام بأوكرانيا    حظك اليوم الخميس 15 مايو وتوقعات الأبراج    هانئ مباشر يكتب: بعد عسر يسر    كيف تتخلص من ارتفاع ضغط الدم؟ 3 طرق فعالة دون أدوية    نماذج امتحانات الصف الخامس الابتدائي pdf الترم الثاني جميع المواد التعليمية (صور)    تباين آراء الملاك والمستأجرين حول تعديل قانون الإيجار القديم    أيمن بدرة يكتب: الحرب على المراهنات    ريهام عبد الحكيم تُحيي تراث كوكب الشرق على المسرح الكبير بدار الأوبرا    حريق بمدفن سعد زغلول بمنطقة الخليفة    تصاعد التوتر في ليبيا.. محتجون يقتحمون محيط مقر الحكومة في طرابلس    «5 استراحة».. اعثر على القلب في 5 ثوانٍ    موعد إجازة وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    سالي عبد السلام ترد على منتقديها: «خلينا نشد بعض على الطاعة والناس غاوية جلد الذات»    اللقب الثالث.. بولونيا يقهر ميلان ويتوج بكأس إيطاليا    رابطة الأندية تدعو فرق الدوري الممتاز لعقد اجتماع لهذا السبب    حكم الأذان والإقامة للمنفرد.. الإفتاء توضح هل هو واجب أم مستحب شرعًا    الكويت: سرطان القولون يحتل المركز الأول بين الرجال والثاني بين الإناث    ب«3 دعامات».. إنقاذ مريض مصاب بجلطة متكاملة بالشريان التاجى في مستشفى شرق المدينة بالإسكندرية (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قضية الابداع الفلسفى

يحق لمصر أن تفخر بأنها استطاعت فى فترة وجيزة تمتد من أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين ذ أن تستورد وتتقن عددا من المنجزات الحضارية. لم يكن لدينا فن للرواية، وإن كانت لدينا فنون موروثة للقص أو السرد؛ ولم يكن لدينا فن مسرحى مصرى حقا حتى ظهر لدينا الفنان الروائى والمسرحى فى صورة ناضجة فى بدايات القرن العشرين. ويحق لمصر أن تفخر بتوفيق الحكيم، هذا البوهيمى العبقرى الذى كتب رواية زعودة الروحس وأنشأ فن المسرح المصرى فى صورة مكتملة.
وكانت لدينا كتابات نثرية رائعة آلت إلينا من عصور الأدب العربي الزاهية ثم أصاب النثر الفساد فى عصور الانحطاط، فأحيينا فن الكتابة النثرية فى صورة سليمة ناصعة. وبفضل هذه النهضة النثرية عادت اللغة العربية إلى احتلال مكانتها اللائقة بين لغات العالم، ويرجى لها كما حلم لويس ماسينيون أن تصبح من جديد لغة للإنسانية كما كانت فى ذروة مجدها.
ونستطيع أن نقول ما يشبه ذلك فيما يتعلق بفن الشعر وإحيائه على يد البارودى وشوقى. وعندما عاد الشعر إلى الحياة، حقق قفزة أو طفرة، فتخلى عن «الأغراض» التقليدية للشعر، وأضاف إلى الشعر الغنائى الشعر الدرامى. وكلمة زالطفرةس تعبر أفضل تعبير عن ضخامة المنجزات التى حققتها النهضة المصرية. فما حدث فى غضون عقود قليلة لا يمكن أن يكون إلا تغيرا غير عادى؛ فكأن مصر عندما أفاقت من عصور الانحطاط قررت ألا تنهض إلا رافعة الرأس ناظرة إلى الأمام متأهبة للعدو فى مضمار الحضارة. وإذا كان الإنسان يتميز بأنه الحيوان الناطق، فيبدو أن مصر عندما أفاقت قررت أن تمتلك بسرعة القدرة على النطق الجميل.
غير أننا قصرنا فى بعض مجالات الإبداع الأخرى. وأخص بالذكر مجالين: الموسيقى والفلسفة. فلدينا فى الحالة الأولى موسيقى شرقية زاهرة وموسيقى مصرية مطعمة بعناصر غربية، ولكن الموسيقى فى الحالتين ظلت مرتبطة بالغناء والرقص، ولم تتحرر بعد من لغة الكلام ولغة الجسد والإشارة المباشرة إلى الواقع الملموس لكى تصبح لغة فى حد ذاتها تستطيع بفضل تحررها أن تتحرك فى آفاق رحبة بلا نهاية. والموسيقى من هذه الناحية تشبه الفلسفة، ولكنى أرجئ الحديث عنها إلى مناسبة أخرى.
أما فيما يتعلق بالفلسفة، فإنا نلاحظ كثرة تردد السؤال: لماذا لا نبدع فلسفيا؟ وما سر عقمنا فى هذا المجال؟ أصبح لدينا فى القرن العشرين أساتذة كبار يعلمون طلابهم تاريخ الفلسفة، ولكنهم لا يتفلسفون. وقد سئل زكى نجيب محمود ذات يوم عن فلسفته، فأجاب بموضوعيته المعهودة بأننا ما زلنا على أبواب الفلسفة. فلماذا نقف عند الباب ولا ندخل؟ ولماذا نقف على شاطئ الفكر ولا نسبح؟والجواب عن ذلك بصفة جزئية هو أن الفلسفة لدينا كانت وما زالت موضع عداء مزمن وإن لم يكن صريحا أثر على تصميم مناهجها وطرق تدريسها.
عندما أنشئت الجامعة المصرية فى سنة 1908، كانت نواتها الأساسية كلية للآداب، وكانت الفلسفة إحدى المواد الرئيسية التى درسها الطلاب الأوائل مثل طه حسين، والأخوان مصطفى وعلى عبدالرازق، وطالب آخر اتخذ منه طه حسين بطلا للرواية المأساة «أديب». واستمع هذا الرعيل الأول من الطلاب الذين جاء بعضهم من الأزهر لدروس فى الفلسفة قدمها مستشرقان: أحدهما إيطالى هو دافيد سانتلانا، والآخر فرنسى هو لويس ماسينيون.
ومن عجائب الصدف أن كلا منهما روى على الطلاب المصريين قصة عن الفلسفة الإسلامية تتناقض تماما مع قصة زميله الآخر. فقد أخبرهم سانتلانا الذى كان متأثرا بنظريات إرنست رينان العنصرية عن قصور العقلية السامية أن المذاهب الفلسفية الإسلامية تخلو من الأصالة لأنها ليست إلا صورا مشوهة من مذاهب أصلية يونانية. أما لويس ماسينيون فقد تتبع رحلة المصطلحات الفلسفية منذ صكت فى اليونان، وكيف انتقلت إلى الثقافة الإسلامية فعربتها وأعادت تعريفها وفقا لاهتماماتها، ثم نقلها المسلمون إلى أوروبا فتفرعت وتطورت فى مذاهب شتى. وهذه القصة التى ترتكز بادئ ذى بدء على مفردات الفلسفة وتصف دورتها الكبرى حول البحر المتوسط تبث رسالة أخرى عميقة، وهى أن ثمة تراثا فلسفيا إنسانيا واحدا أدت فيه اللغة العربية والثقافة الإسلامية دورا أساسيا.
وكانت الصورة التى قدمها ماسينيون أقرب إلى الحقيقة ويبدو لأول وهلة أنها كانت أقرب إلى نفوس مستمعيه ولكن الغريب والمؤسف أن الصورة الأخرى المقللة من شأن الفلسفة الإسلامية ومن قدرة المسلمين على الإبداع هى التى انتصرت فى النهاية وكانت لها اليد العليا لدى المصريين.وأصبح من الشائع فى الأوساط الجامعية الفلسفية أن أصالة الفلسفة الإسلامية لا تلتمس فى أعمال الكندى والفارابى وابن سينا وابن رشد، بل ينبغى أن تلتمس فى علم الكلام أو التصوف أو أصول الفقه؟ فكيف نفسر هذا اللغز؟ لماذا صدق المصريون سانتلانا، ولم يترسخ فى نفوسهم الاقتناع بأنهم قادرون على التفلسف كما بشر ماسينيون؟
تأثير المستشرق الإيطالى لا يفسر إلا بأنه وجد فى البيئة الثقافية التى استقبلته تربة مستعدة لتقبله. والتربة التى أعنيها هى معاداة الفلسفة كما تغلغلت لدينا طيلة قرن منذ كفر الغزالى الفلاسفة. فلما غاضت ينابيع الفلسفة فى الشرق لاذت بمعقلها الأخير فى الأندلس. وهناك كان «توحدها» (أى تغربها) على حد تعبير ابن باجة، أو تخفيها على طريقة ابن طفيل عندما صاغ آراءه الفلسفية على شكل خرافة رمزية فى قصة «حي بن يقظان» أو خوضها معركة فدائية أخيرة للدفاع عن نفسها كما حدث فى حالة ابن رشد. وكان ابن خلدون (القرن الرابع عشر) آخر المتخفين، فقد كان فيلسوفا مبدعا، ولكنه أنكر الفلسفة وتبرأ منها طلبا للنجاة، وكان موقفه الملتبس بمثابة الأشعة الأخيرة الرائعة التى ترسلها الشمس قبل الأفول. ومن الغريب أن هذا الفيلسوف المتنكر استطاع أن يرى الشمس الآفلة فى بلاده وهى تشرق من الغرب.
وبفضل تلك البيئة الثقافية المعادية انتصرت آراء سانتلانا وضعف تأثير ماسينيون، إلا ما كان من دوره فى توجيه الشاب طه حسين نحو آراء نضجه فى ثقافة البحر المتوسط. وانعكس هذا التفكير المعادى على تعليم الفلسفة فى الجامعات المصرية. كان الطالب أيام كنت طالبا فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى يتخرج من قسم الفلسفة دون أن يعرف إلا قشور القشور عن الفلسفة الإسلامية بينما يجد فى حصيلته جرعة كبيرة من علم الكلام والتصوف.كأن الغرض من دراسة الفلسفة هو تخريج علماء كلام (علماء لاهوت بالمعنى الغربى) ومتصوفة.
والوضع الأمثل هو أن تخصص مادة من مواد الدراسة لإجراء شرح مفصل على كتاب من أمهات الكتب الفلسفية، شرح يقدم للطلاب، ولا سيما الذين يجرى إعدادهم للدراسات العليا. ويعنى هذا الشرح أن يقرأ الأستاذ عليهم نص المؤلف فقرة فقرة ويحلله ويحاوره وينقده إذا لزم الأمر. فبذلك يشاهد الطلاب نموذجا حيا على الجدل الفلسفى ويدربون على القراءة النقدية. وهذه الطريقة فى التعليم طريقة إسلامية أصيلة نقلها الغربيون عنا (عن ابن رشد على وجه التحديد) وصارت متبعة عندهم فى التأليف والتدريس. وإذا لم تتوافر الكفاءات اللازمة لأداء تلك المهمة، فينبغى العمل على إعدادها.
ولا أحسب أن وضع الفلسفة فى الجامعات المصرية قد تحسن عما كان عليه فى القرن الماضى.فتصميم المناهج وفقا لاهتمامات الأساتذة وما قد يجودون به ما زال قائما. وظلت أساليب التدريس كما كانت فى القرن الماضى تعتمد على التلقين وتقييم أداء الطلاب وفقا لما حفظوا، بدلا من تشجيعهم على البحث والتحليل والنقد. ومن المعروف أن تقديس الحظ وترديد كلام الأستاذ ومعاداة روح البحث والنقد اتجاه راسخ فى ثقافتنا، وكان قائما عندما كنت طالبا وأحسبه قد استشرى.كان لدينا ما يسمى الكشاكيل، وهى كراسات كانت تنسخ فيها أقوال الأستاذ فى المحاضرة كلمة بكلمة، وكانت هذه الأقوال ترد إلى الأستاذ بكل أمانة فى أوراق الامتحان. وكان الطالب لا يعطى درجة «جيد جدا» أو «ممتاز» إلا إذا أظهر فى الإجابة أنه فهم واستوعب أقوال الأستاذ وصدقها وبها آمن وسلم تسليما. وكان الأساتذة بصفة عامة يضيقون بالإجابات التى تخرج عن النص بسبب تدخل القراءة الخارجية والرجوع إلى مصادر أخرى غير الكشكول المقدس. ولكن ينبغى أن أذكر أن زكى نجيب محمود كان هو الاستثناء الوحيد للقاعدة.
ومن الواضح إذن أن روح التساؤل والنقد ينبغى أن تغرس فى نفوس الطلاب منذ البداية، وألا يرجأ ذلك لمرحلة متأخرة من الدراسة، فسيكون الأوان قد فات لإعداد المعلمين الممتازين، ناهيك عن إعدا فلاسفة المستقبل. ومن الواضح أيضا أن هؤلاء الأخيرين محال أن يظهروا إذا كانت مناهج الدراسة انتقائية على نحو ما ذكرت، وإذا كان تدريسها يقوم على قمع الحرية: حرية البحث والنقد والتجديد. وللحديث بقية.
لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.