مرت منذ أيام الذكرى الأربعون للزيارة التى قام بها الرئيس أنور السادات للقدس، وهى الزيارة التى كانت دون شك علامة فارقة فى تطور الصراع العربى - الإسرائيلى ليس لأنها دشنت مصرياً مسار التسوية السياسية للصراع, فقد بدأ بقبول قرار مجلس الأمن 242 فى نوفمبر 1967, وليس لأنها حصرت هذا المسار فى الأدوات السلمية وحدها لأن ذلك حدث بموجب اتفاقية فض الاشتباك الثانى 1975 وإنما لأنها حسمت تطور الصراع عربياً فى اتجاه التسوية، فعلى الرغم من الرفض العربى الجماعى للزيارة ونتائجها فإن الدول العربية سرعان ما اعتمدت فى قمة فاس 1982 مبادرة ولى العهد السعودى آنذاك التى تضمنت رؤية لتسوية عربية شاملة مع إسرائيل حال استجابتها للمطالب العربية، ولا شك أن مرور أربعين سنة على حدث تاريخى ما يُمَكن من حكم أكثر هدوءاً عليه، وعلى سبيل المثال فإن كل من كان يوجعه أن تكون سيناء مقيدة التسلح لعله يشعر الآن بالارتياح من أن الجيش المصرى يتحرك بكامل حريته فى شمال سيناء فى حربه ضد الإرهاب، وقد يُقال إن هذا يتم بموافقة إسرائيلية غير أن المؤكد أن تغير الظروف, بمعنى ظهور خطر جديد على الأمن المصرى هو خطر الإرهاب حتم انتشار الجيش المصرى فى سيناء لدرء هذا الخطر بغض النظر عن الرضا الإسرائيلى، ولعل هذا يكون تطبيقاً غير تقليدى لدور «تغير الظروف» فى تعديل المعاهدات وهو فى حالتنا تعديل «واقعى» وليس «قانونياً». يتصور البعض أن قرار زيارة القدس قد اتُخذ فجأة ويتساءل كيف استجابت له إسرائيل بهذه السرعة، أما عن قرار الزيارة فقد جاء متسقاً مع رؤية السادات لإدارة الصراع التى كشف عنها فى حوارات معلنة قبل حرب أكتوبر بشهور وتتمثل فى أن يقوم بعمل عسكرى يجبر إسرائيل على التفاوض لإعادة الأراضى المحتلة فى 1967، ولم تكن هناك مشكلة فى هذه الرؤية مادام أن ميزان القوى لم يكن يسمح بتحرير كامل لسيناء، لكن المشكلة تمثلت فى إدارة التفاوض كما فى اتفاقية فض الاشتباك الثانى 1975 التى أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل قبل اكتمال تحرير سيناء, بما جعل هذا الهدف رهناً بالتفاوض مع إسرائيل، وكانت الاتفاقية هى المقدمة الطبيعية لزيارة القدس بعد أن أبدت إسرائيل تعنتها المعروف وأبدعت الإدارة الأمريكية فى دعمها حتى إنه يبدو أن تلميحات الرئيس الأمريكى كارتر للسادات بضرورة أن يقوم بشىء غير مألوف قد لعبت دوراً فى قرار الزيارة، من ناحية أخرى فإن القرار قد سبقته اتصالات مصرية - إسرائيلية فى المغرب كشف عنها المرحوم كمال حسن على فى مذكراته، وبالتالى فلا السادات اتخذ قراره فجأة ولا إسرائيل قد فوجئت به. حاول السادات ألا يجعل نتائج زيارته تقتصر على استرداد ما تبقى من سيناء فحسب وإنما يكون لها فضل التوصل إلى حل شامل للصراع، ولذلك حرص فى مباحثات كامب ديفيد على التوصل إلى اتفاقيتين أولاهما كانت بمنزلة «مُسَودة» لمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية بينما يُفترض أن الثانية كانت إطاراً للسلام فى الشرق الأوسط، غير أنها كانت إطاراً معيباً إذ لم يتضمن إشارة لسوريا كما أنه عالج المسار الفلسطينى بمنطق حكم ذاتى تتفاوض إسرائيل ومصر والأردن على شروطه، وقد رفض الأردن المشاركة فى المفاوضات وبالتالى انتهى الحال بها إلى أن تكون مصرية - إسرائيلية ودخلتها مصر بحسن نية, غير أن المفاوض المصرى تأكد من استحالة التوصل مع إسرائيل إلى ما يحفظ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية وبالتالى كان مآل المفاوضات هو الفشل، ومن المهم هنا الإشارة إلى الرأى الذى يُحَمل الفلسطينيين مسئولية هذا الفشل لأنهم رفضوا المشاركة فيها، وبغض النظر عن حقهم فى رفض مسار لم يستشاروا فيه فقد كان مستحيلاً أن تقبل إسرائيل بذلك لأنها لم تكن قد اعترفت بعد بوجود مكون فلسطينى فى الصراع, وإنما كانت تتعامل مع الفلسطينيين من خلال المسار الأردنى وهو ما ظلت تصر عليه حتى انعقاد مؤتمر مدريد 1991 فلم تقبل وجود وفد فلسطينى منفصل فى المؤتمر وإنما أصرت على وفد أردنى فلسطينى مشترك وإن برأسين حتى تتفاوض مع الفلسطينيين على حدة وتحاول الضغط عليهم وهو ما نجحت فيه باستدراجهم إلى مسار أوسلو الذى أنتج الاتفاقية الشهيرة فى 1993، وقد حاول السادات فى أول جولة مفاوضات بعد زيارة القدس فى مينا هاوس أن يؤكد الطابع العربى لمساعيه بوضع العلم الفلسطينى على مائدة المفاوضات غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بيجن علق لدى دخوله قاعة المفاوضات عندما شاهد العلم الفلسطينى بأنه يرى علماً غريباً ورفض بدء المفاوضات إلا بعد إزالته، ويعنى هذا أنه حتى لو كان الفلسطينيون قد قبلوا المشاركة فى المفاوضات فقد كان من المستحيل أن تقبل إسرائيل ذلك لأن هدفها الاستراتيجى آنذاك كان فصل مصر عن المسار العسكرى للصراع كى تتحرك بحرية فى إدارة الصراع بالوسائل العسكرية على باقى الجبهات العربية. حدثت قطيعة مصرية - عربية بعد زيارة القدس انتهت بالنهج الهادئ الذى اتبعه مبارك بعد اغتيال السادات فى إدارة العلاقات مع الدول العربية, ثم حُسم الأمر ببروز خطر إيران فى حربها مع العراق وتأكُد ضرورة استعادة الرقم المصرى فى معادلة الأمن العربى فأتاحت قمة عمان 1987 عودة العلاقات المصرية - العربية على الصعيد الثنائى ثم اكتملت العودة فى قمة الدار البيضاء 1989، ولم تفقد مصر اهتمامها يوماً بالقضية الفلسطينية بدليل دورها فى المصالحة الأخيرة لأن أمن مصر لا ينفصل عن أمن فلسطين. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد