عاش أهل النوبة القديمة الأرض المصرية الطيبة ومارسوا دفء الحياة البسيطة الخالية من المنغصات وتحملوا مشقاتها عن طيب خاطر. وما زادتهم العزلة الطويلة والبيئة القاسية إلا تمسكا بالمبادئ الاجتماعية العظيمة، والصفات الإنسانية الرفيعة التى شكلت هويتهم التى ميزتهم عن غيرهم، وأصبح لعاداتهم وتقاليدهم خصوصية لا مثيل لها. .................................................. عند زواج الشاب النوبى فى القرى القديمة كان الجميع يتكاتفون لبناء بيت للعريس، ويتقاسمون أعباء إقامته، فيتولى البعض الحفر، وآخرون يجلبون الطمى من النيل، وغيرهم يحملون الحجارة، ثم يأتون بجريد النخيل لتسقيف البيت، وتقوم النساء والفتيات بتزيين البيت، حيث يرسمن مثلثات ومربعات بألوان زاهية، والورود على واجهة البيت، وبعد الانتهاء من البيت يبدأ الشاب النوبى التفكير فى اختيار العروس. ولم يكن لكلمة حب وجود فى حياة الإنسان النوبى، فالموروث الأخلاقى والدينى يمنع ممارسته والبوح به، وإذا وجد النوبى ميلا نحو فتاة بعينها فعليه أن يكتم هذا النزوع النفسى داخله، فلا يجرؤ على قول أى عبارات تكشف حبه لفتاته، وعليه فقط أن يسلك طريق الزواج. ومراسمه تبدأ بعرض الشاب النوبى رغبته فى الزواج على والديه وغالبا ما ترشح الأم فتاة بعينها، فإذا وافق الشاب تبدأ الأم بجس النبض بطريقة غير مباشرة وبسرية تامة، فإذا لمست قبولا تبدأ مهمة الأب فى طلب يد الفتاة من والدها، ويقوم والد الفتاة بعرض الأمر على أم العروس لأخذ رأيها، والمرأة النوبية تشارك الرجل الرأى، ويستنير الرجال بآراء النساء فى كثير من الأمور خاصة زواج البنات. وعند الموافقة النهائية يعطى والد العريس مبلغا بسيطا من المال لوالد العروس، وهذه الخطوة تسمى فى بعض قرى النوبة القديمة «الوجاهة»، ويليها إعلان الخطبة فى القرية، حيث تقوم إحدى سيدات القرية بحمل صينية بها قمع سكر وبعض القمح، وتطوف البيوت واحدا تلو الآخر لتعلن الخطبة. ويجتمع أهل العريس من النساء والرجال فى منزله لحمل «الشيلة» إلى منزل العروس، والشيلة هى هدايا العريس للعروس، وكانت تضم مجموعة «أسبتة» فيها ملابس وأقمشة وأدوات زينة، ودقيق وأرز ومكرونة وسكر وشاى وأقماع سكر، ويقابل أهل العروس حاملات الشيلة بالزغاريد والأعناق وتدخل الشيلة حجرة العروس. وبعد أيام قليلة ترد أم العروس واجب الشيلة بأن تذهب لمنزل والد العريس ومعها ذبيحة وبعض الخضراوات والأرز واجبا وهدية من والد العروس، وفى ليلة الحنة تبدأ العروس بالتزين وتساعدها الماشطة بتوجيه من الأم وتدهن العروس جسدها بالحناء، وتظل لمدة ساعتين وتوزع بقايا الحناء على فتيات العائلة، وتتعطر العروس بعطور نوبية مصنوعة من الصندل والدلكا والمحلب. وكذلك يحنِّى العريس قدميه ويديه، ويبدأ بزيارة الاضرحة والأولياء طلبا للبركة، ويأتيه حلاق القرية ليحلق شعره أمام البيت، وبعض القرى النوبية كانت تقدم واجب النقوط للعريس أثناء حلاقة شعره. ويوم الزفاف يرتدى العريس ملابسه الجديدة، ويحمل سيفا ويمتطى جملا، ويسير فى موكب من الأهل والأقارب إلى بيت العروس، وفى الطريق يعرج على بيوت أعمامه وعماته وأخواله وخالاته ويقابلونه بالدفوف والغناء والزغاريد وينثرون الروائح فوق رأسه ويواصلون السير معه فى موكبه حتى منزل العروس، وهناك يتصدر العريس المجلس ويعقد المأذون القران بصوت مسموع، ويقرأ الجميع الفاتحة، ويقدمون التهانى والتبريكات، وينثر الفشار والتمر فوق الرءوس، ويبدأ الغناء والرقص الجماعى الذى يجيده الجميع على أنغام الدفوف و الطبول. ، وتصطف النساء فى صفوف منظمة، تقابلها صفوف الرجال، ويرقصون على أنغام الدفوف فى تناغم بديع، وتقدم صوانى العشاء للجميع، والكرم صفة لاصقة بالنوبيين، وتقدم الولائم والذبائح فى كل المناسبات النوبية، سارة أو غير سارة. وتعد أم العروس حجرة العروسين، ومن العادات الموروثة أن تضع أم العروس تحت سرير الزوجية بعض أنواع الخضراوات لمنع وإبطال السحر والحسد، وقبل دخول العريس حجرة الزوجية يقدم له وعاء به لبن رائب يرشف ثلاث رشفات فقط، ويشرب الأصدقاء والأقارب بقية الوعاء. ثم يدخل العريس حجرته ويصلى ركعتين، ثم يمسح بكلتا يديه على رأسه ورأس العروس التى تدير وجهها عنه ولا تبادله الحديث، فقد أوصتها أمها ألا تفتح فاها بالكلام إلا بعد أن يدفع لها بعض المال وهى عادة قديمة يسميها أهل الكنوز «أجل بين» يدرك العريس ذلك الأمر فيدفع سعيدا راضيا. وتستمر الأفراح سبعة أيام يذهب فيها العريس للنيل كل يوم لغسل وجهه بماء النيل، وكان العريس يعيش فى بيت أهل زوجته حتى المولود الأول، وإذا لم تكن مشيئة الله فى الإنجاب يستمر إلى تمام العام، ولا يجوز للزوج حضور مخاض زوجته، ولا يرى المولود إلا بعد ثلاثة أيام، ويعمل فى أرضه الزراعية بانتظار خبر ولادة زوجته، فإذا حضر من يبشره بالمولود أدرك أنه ذكر ويعطى من بشره مبلغا من المال، وإذا كان أنثى فلا يذهب إليه أحد ليبلغه، فالخبر غير سار حسب المعتقدات القديمة ويظل الرجل يعمل فى مزرعته لمدة سبعة أيام لا يذهب فيها لبيته، وبعض القرى فى النوبة القديمة كانت لا تقيم سبوعا للمولودة الأنثى، أما المولود الذكر فيقام السبوع، وحلقات الذكر وتنشد المدائح النبوية وتذبح الذبائح وتقام الولائم.