بيت على طراز القباب بمجرد أن تصل عربتك إلي إحدي قري النوبة تستنشق رائحة البخور والمسك والحنة ، تجد الرجال بجلاليبهم البيض ذاهبين إلي عملهم في الصباح الباكر ، نساؤهم يرتدين الجرجار من التل الشفاف يتعطرن بعطر "الُخمٌرة" فلنسافر في رحلة قصيرة إلي عالم النقاء لنستنشق الهواء النقي علي ضفاف النيل ونتعرف علي أهل النوبة الطيبين في قرية غرب سهيل النوبية . حيث تجد بيوتهم أسطورة يمكن أن تحُكي علي مدار السنين بنوها بفن وإتقان وكأن من يشيدها مهندس متخصص، مصممة علي طرز فنية رائعة بقباب وعليها رسومات ولوحات فنية تحكي قصة حياتهم ويتكون البيت النوبي من أربع حجرات وحوش كبير ففي بلاد الكنوز يكون البيت علي طراز القباب فهذا الطراز غير أنه يضفي جمالاً فإنه يرطب البيت الذي يتكون من المندرة وهي غرفة الجلوس والخوخة وهي تشبه غرفة المعيشة وبها قباب يجلسون فيها في الصيف لأنها مصممة علي أن تمنع الشمس وتسمح بمرور الهواء بالإضافة إلي غرفة النوم وحجرة الخزين التي يضعون فيها السون والمحاصيل وصندوق خشبي أثري الشكل لوضع الأشياء الثمينة . وعلي الرغم من دخول المدنية عالمهم إلا أن هناك بعض العادات والتقاليد المتداخلة عبر الحقب الزمنية و التاريخية التي لازالوا محتفظين بها حتي الآن بدايةً من الزي النوبي والحلي، مروراً بالأكلات النوبية، وعادات الأفراح والمناسبات السعيدة. وتقام الأفراح علي إيقاع الدفوف والأحباب يغنون للنيل والصحبة والغربة بلغة الكنوز ولنقتحم اسرار هذا العالم لمعرفة هل عادات النوبيين في الزواج اختلفت عن زمان؟ وهل يعانون من تعقيدات الزواج كما نعانيها في العاصمة؟ هذا ما أجابت عنه نهي عبداللطيف عن مراسم وطقوس الزواج النوبي التي تبدأ باختيار العروس من داخل العائلة أو القرية وتذهب أم وأخت العريس لأهل العروس للاتفاق معهم وعند الموافقة يذهب والد العريس ورجال العائلة لطلب العروس من والدها ويكون غالباً الرد سريعاً نظراً للتقارب بين العائلات ومن هنا تبدأ المراسم من إجراء الخطوبة ثم الفرح ولكن الأفراح في النوبة القديمة كانت تقام في موسم خاص من كل عام و كان النوبيون يتجنبون إقامة الأفراح في أيام محددة في الأسبوع أو في شهور معينة من التقويم الهجري خاصة الفترة بين العيدين لأنها كانت تعتبر أياما منحوسة عندهم وفقا لاعتقادات قديمة وفيها يتشاءم النوبيون من الزواج في شهر صفر من التقويم الميلادي نظراً لما يعتقدون أنه يؤثر علي الإنجاب فلا يحددون أي فرح في هذا الشهر ولكن مع الوقت تغيرت هذه المعتقدات والآن لا يعتد أحد بهذه المعتقدات ويحدد يوم الفرح حسب ظروف العروسين. و يبدأ بيوم "الشعرية " وهو يوم واحد في بيت العروسة تقوم أم العروس بدعوة النساء لإعداد الشعرية يدوي وتقوم النساء بعجن العجين وبرم الشعرية علي أيديهن ووضعه علي الجريد في الشمس حتي يجف ثم تخزينه لطهيه في الفطور طيلة مدة الفرح السبع ليال مع العلم أن الفرح النوبي القديم بطيء بعض الشيء حيث كانت المراسم تمتد لمدة سبعة أيام قبل ليلة الزفاف وخمسه أيام بعد الفرح حيث كانت تستمر الأغاني والرقص كل مساء طوال هذه الفترة ، ومع قرب يوم الفرح ببضعة أيام تعزم الفتيات أهالي القرية والرجال في المسجد للعرس وبعد ذلك يتم تحديد يوم لتنظيف الغلة والاستعداد للطحن وكانت النساء يدعين كبار السن وبعد طحن الغلة يتم جمع أكبر عدد من "الدوكة " وهو الصاج للخبيز ، ومن يوم إعلان الزواج تدخل العروس الدخان "الكوكوب" وهي حفرة صغيرة في غرفة النوم داخلها مبخرة تحتوي علي عطور الصندل وعطر الُخمرة وهو عبارة عن تركيب مجموعة عطور مختلفة وتترك هذه التركيبة لمدة طويلة حتي تكتسب لونا أسود مميزا وتدهن العروس جسمها بهذه التركيبة ويستمر الإعداد لعطر الخُمرة ثلاثين يوما، ثم يعقبه يوم "الشيلة" وهذا الاسم يطلق عند الكنوز أما الفاديجا فيسمي "الآبا " وهو عبارة عن مسيرة من بيت العريس حتي بيت العروس وتنقل محتويات شنطة الآبا علي الحمير وحديثاً في السيارة وتحتوي الشنطة علي عدد 2 قماش غير مخيط و2 فستان وطرحتين وجرجار وحذاء وبعض العطور من المحلب والصندل وكل لوازم العروس وتسلم بعد عقد القرآن مع الشبكة إلي وكيل العروس ويوضع معه في طبق يسمي "الشوور" التمر والفشار وبعض العائلات تقيم شنطة الآبا في الخطوبة وفي الفرح حسب إمكانياتهم . أما في ليلة الحنة حيث تذبح الذبائح (عجول او خرفان) في أول النهار حسب المقدرة وبعد صلاة العصر تبدأ النساء في عجن الحنة وملء الأزيار ثم البدء في الطبخ بأوان ضخمة وتقدم في" الفالكا" وهي آنية ضخمة من الفخار يقدم بها الطعام، والعشاء فتة وعليها الدمعة وقطعة اللحم وتقام الحنة في بيت كل من العريس والعروسة بعد العشاء ثم يذهب أهل العريس إلي بيت العروس ثم تبدأ "الأراجيد " وهو الرقص النوبي وترقص أم العريس" بالأجُل " وهو الوعاء الذي يوضع فيه عطر الخُمرة ويرتدي العريس الجلابية ويضع الحنة في يديه وقدميه ومع الكرباج والسيوف مع أصحابه المقربين وترقص أم العروس بطبق الحنة وتضع لكل البنات الحنة وفي اليوم التالي للإعداد ليوم العرس وبعد المغرب تبدأ الاحتفالات والأراجيد حتي يصل العروسان وتعزف الموسيقي الإيقاعية بالدف أو الطار، علي ألحان السلم الموسيقي الخماسي ويؤدي الجميع الأراجيد وهناك قائد للفرح ينظم الصفوف ويختار الإيقاع المناسب للوقت بحسب النشاط أو الفتور، يرقص الجميع في صفين متقابلين بينما يرقص أهل الفرح والمقربين وسط الصفوف مرتدين الحلي النوبي الاصيل وهو "الشفي " وهي حلي تلبسه المرأة حول رقبتها و"البييه" اكبر من الشفي ويتكون من حلقات كبيرة الحجم " والجكد" أكبر من الاثنين بالتدريج ومؤخراً "كرسي جابر " وهو حلي بطول الجسم ويربط من الوسط ولكن هذا الذهب لا ترتديه إلا أم العريس بالأخص توارثته عبر الأجيال من والدتها وجدتها لأن هذا النوع من الذهب الخالص لا يصنع الآن ، والفرح النوبي هو الوحيد علي مستوي العالم الذي تغني فيه أغانٍ وطنية بسبب عشق النوبيين لبلادهم خاصة بعد تهجير النوبيين من أراضيهم القديمة في العصر الحديث ومن أشهر هذه الأغاني« فخور أنا بحضارتي نوبتي إن جارت الأيام يوما" . أما بالنسبة لجهاز العروسين فيتكفل العريس بكل المصاريف بما فيها الملابس والذهب ولكن مع ضآلة ثمن المهر والشبكة والمؤخر ومتوسط المهور في النوبة من ربع جنيه إلي أقصي شيء عشرة جنيهات، وهذا المبلغ حتي الآن حتي مع استحداث بعض الأشياء في الجهاز ومساهمة العروس في بعض أغراض البيت ولازال المهر كما هو لأن عائلة العروس لا يهمها سوي نسب العريس وأصوله وليس ماله، ولا يغالي أهل العروس في متطلبات الزواج لأن العروسين من نفس العائلة أو نفس القرية أو نوبي علي الأقل حيث يحظر علي الشاب أو الفتاه أن يتزوجا شخصا غير نوبي ورغم التقدم واختلاط النوبيين بالبلدان المختلفة إلا أن هذه العادة لا تزال حتي الآن ، وفي بعض قري الكنوز يعيش العريس في بيت أهل زوجته عكس ما يحدث في المدن حيث يبني الأب بيتاً لابنته وليس لابنه ، ولكن البعض الآخر يكتفي بقضاء السبوع عند أهل الزوجة ثم ينتقل إلي بيت الزوجية ، ولكن في البندر (المدينة ) اختلف الوضع تماماً فالشيوخ النوبيون قرأوا الفاتحة واتفقوا علي تسهيل إجراءات الزواج للشباب والاكتفاء بالدبلة والمحبس وتقديم تسهيلات للعريس بمبلغ رمزي للمهر . أما عن أشهر المأكولات التراثية النوبية فهي المديد وهي عبارة عن دقيق ولبن يوضع عليه سمن بلدي وملح ، والأتر "الجكوت" هو عبارة عن ملوخية بطريقة مختلفة أو الأتر الشتوي بالخضراوات مثل الكسبرة والشبت ، والأسلاد هي لحمة مجففة يوضع عليها الملح وتوضع علي الشوور في الهواء لمدة يوم ثم يطهي بالطاجن دون أية إضافات. كانت هذه رحلتنا في إحدي القري النوبية في بلاد الكنوز .