فى تحرك يعتبر هو الأول من نوعه، توجه وفد من النوبيين إلى مدينة جنيف السويسرية الشهر الحالى لعرض قضية عودة النوبيين إلى أراضيهم، على اجتماع المجلس الدولى لحقوق الإنسان. لا شك أن وحدة الشعب المصرى أقدم وحدة تمت لأمة ظهرت على وجهة الأرض وأقواها، سواها النيل وطميه، فالشعب الذى يفلح الأرض رتب معاشه حسب ارتفاع النيل وانخفاضه، وطريقة حياته على حركات الشمس والفصول، محققا أعظم نفع من طمى النيل وشمس مصر. لم تكن النوبة فى يوم من الأيام معزولة عن مصر، فالنيل كان يربطهما معا ربطا متينا، ذلك منذ العصر الحجرى القديم، هذا ما تشير إليه الكشوف الأثرية لما خلفه الأجداد وراءهم من رسوم صخرية منقوشة على جانبى النهر، فقد عرفوا صناعة الفخار وزراعة الحبوب وصيد الأسماك، ومع نهاية الألف الرابعة تم اختراع الكتابة فراحت أسماء وأماكن وقبائل النوبة تتردد فى النصوص المصرية، حيث كانت مركزا تجاريا به أفران لصهر خام النحاس، وتجمع لسلع أفريقيا الاستوائية مثل البخور والأبنوس والعاج وجلد الفهد، والتى كانت تصدر لمصر فى مقابل العسل والزيت والنبيذ والجعة والملابس الكتانية. وتعد ملامح النوبة الجيولوجية ظاهرة فريدة فارتباطها بوادى النيل من حلفا حتى أسوان بسبب عبور النيل النوبى، الذى شق واديه فى الصخور قبل وجود بحيرة ناصر، وفيما بين وادى العلاقى وأسوان حتى كلابشة، من ناحية أخرى ارتبطت النوبة بالصحراء من ادندان وكلابشة لتصل إلى مرتفعات كورسكو لتظهر الكثبان الرملية حتى جنوب أبوسمبل عند توشكى وحتى الحدود المصرية السودانية جنوبا، لذلك ارتبط النوبيون بقدسية النيل فى كل ألوان حياتهم، تلك القوة التى تأتيهم بالأعجوبة السنوية والتى تهيمن على عاداتهم منذ الولادة وحتى الموت. لقد أصبح الالتزام بالتنوع الثقافى فى السنوات الأخيرة مطلبا عالميا، وثمة مسح دولى واسع النطاق أجرى مؤخرا عن السياسات القومية فى كل العالم إزاء الالتزام بالتنوع الثقافى وأصبح مثارا للجدل والخلاف فى مسار حركة التنمية، من حيث حقوق تملك الأراضى أو التعليم أو استخدام اللغة أو الحفاظ على الهوية. وأخيرا عام 1992 تبنت الأممالمتحدة وثيقة الإعلان عن حقوق المنتمين إلى أقليات لغوية وعرقية، ويدرج الإعلان: الحق فى أن يستمتعوا بالثقافة الخاصة بهم، أن يستخدموا لغتهم الخاصة بهم، وكذلك الحق فى المشاركة فى صنع القرار المتعلق بالأقلية التى ينتمون إليها، وكان نصيب النوبيين عام 2004 منحة ضخمة من الأممالمتحدة باعتبارهم من الشعوب الأصلية من أجل تحقيق خطة تنموية بعيدة المدى اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وفى أواخر العام الماضى كانت أهم مرحلة فى الخطة لرصد الرموز التراثية، التى تتعلق بها وجوه حياة النوبة. كان علينا القيام بإقامة ورش عمل متتالية لرصد التقاليد والأعراف الموروثة والشعائر الروحية، ويبدو أن النوبيين كانوا يعتمدون اعتمادا مباشرا على ما لهم من أراض على ضفاف النيل كأساس مادى جوهرى لوجودهم، ويتسم التراث الشعبى النوبى بالعراقة والثراء والتنوع والخصوصية، فهو نتاج لجماعات ثلاث يتألف منها الشعب النوبى وهم الكنوز يتكلمون اللغة الماتوكية، والفديجة يتحدثون الفاديجية، وعرب العليقات الذين وفدوا من منطقة شبه الجزيرة العربية خلال القرن 18. ويتميز تراث النوبة عن الريف والواحات والصعيد، سواء فى المبانى أو الأثاث وحتى الصناعات والفنون والحللى والأزياء، وأيضا فى الموسيقى والغناء والرقص والأعراف الاجتماعية، وأجمل ما فى هذا التنوع هو ارتباطه بالنيل. هناك دلائل قاطعة على التصاق النوبيين بحضارة النيل وبالتراث المصرى القديم، فهم يعرفون زراعة العدس والشعير، وتوارثوا إتقان صناعة الحصير، وجدلوا من النخيل السلال، كما رسموا قصص حياتهم على جدران منازلهن مثل أجدادهم الفراعنة، وصنع رجالهم الدروع من جلد التماسيح، ومازلت النوبيات يتخضبن بالحناء تيمنا بعادات توارثوها من أجداد الأجداد، وكل شباب النوبة لهم مهارة فى التجديف وقيادة المراكب الشراعية، وكان البيت النوبى يبنى على مرتفعات الجبال ويساهم جميع الأقارب والجيران فى بنائه، بداية من عمل الطوب النيئ وتجميع سيقان النخيل، لقد اكتشف العالم أهمية القباب النوبية والقبوات التى عرفت بعمارة الفقراء، ويتفرد الديكور النوبى بالزينة التى كانت تتدلى من أسقف المنازل، كانوا يجمعون الودع ويخيطونه بدقة لتوضع فيه أطباق الخوص، فالبنات النوبيات يتعلمن صناعة الفخار والخوص من سن مبكرة، وقديما كن ينسجن على الأنوال الأقمشة القطنية والصوفية. ويعكس البيت النوبى القديم طريقة حياتهم فالحوش السماوى والبوابات تمثل عفوية الحس الفلكلورى، علاوة على قواعد بناء الطوب النيئ الذى ينتمى إلى العصور الأولى للمسيحية، وكان النوبيون يمارسون الصيد ولهم براعة فى تقديم أشهى الأطباق من السمك، خاصة المجفف منه (الملوحة)، وهى خاصة بأعياد شم النسيم التى توارثوها من أجدادهم الفراعنة، أما العيش الشمسى فهو فرعونى أيضا. كانت هذه حياتهم قبل هجرتهم بعيدا عن النيل، فالنيل كان يشكل عنصرا محوريا فى الثقافة النوبية، فيتعين على العروسين أن يهبطا إليه ليلة الزفاف ويغتسلا بمياهه أملا فى جلب الخير وإنجاب الأطفال، وبعد الولادة يقطع الحبل السرى للجنين ويوضع فى النيل وإن كان المولود ذكرا تذبح الذبائح فى السبوع أما إذا كانت المولودة أنثى فيقتصر السبوع على دعوة الأصدقاء ويذهبون بصحبة الوالدين على شاطئ النيل، وهناك يعطى للبنت اسمها. والنوبيات يرتدين الجر جار ذلك الزى النوبى، وهن مولعات بالحلى النوبية، قبل أن تندثر صناعتها حيث اختفت مع صناعها، فلم تعد هناك حياة نوبية مشتركة فالتهجير فرق أوصال وصلات النوبيين، فكانت تربطهم طبيعة إنسانية واحدة وبعد أن تم نقلهم للعيش بين مجتمعات أخرى فرضت عليهم ثقافات أخرى، وكان عليهم محاولة الاندماج فيها بشكل أو بآخر. كانت أمهاتهن وجداتهن تتزين بالمشغولات الفضية، التى صنعت خصيصا طبقا لمعتقداتهم، يقوم بها صناع نوبيون، فالمصاغ النوبى له تراث وعادات مرتبطة بثقافة وتاريخ النوبة القديمة. فترتدى المرأة النوبية «قصة الرحمن» توضع على جبين المرأة النوبية خوفا من الحسد، أما أساورها فشبيهة بمثيلتها فى شمال أفريقيا وجنوبها ولها نفس الدلالات، أما الأقراط ترتديها بطريقة مختلفة، فتستطيع الفتاة النوبية ارتداء أكثر من قرط فى الأذن الواحدة. أما فى الصدر تلبس قلادة تسمى «النجال» الهلال والنجمة، حيث ترمز حباته إلى حبات الشعير تشغل مسافات القلادة زخارف تحكى قصة إيزيس فهى رمز للبعث، أيضا «الحجاب» مزخرف بالأدعية للحفظ من الحسد أما «الجكد» فهو 6 أقراص مستديرة عليها رسوم زهرة اللوتس وردة النيل الشهيرة ويتوسطها «ماشاء الله» ليصل العدد 7 قطع رمز السبوع، ونلاحظ أن الأقراص هى رمز الشمس فى العقيدة القديمة «رع»، كما ترتدى النوبية «شاشاو» على جانبى الرأس ينسدل بجوار الأذنين، ويبدو أن مصدرا من أصل آسيوى أفريقى يوجد مثله بقرطاج (تونس) ثقافة الفينيقيين وسمى شاشاو من الصوت، الذى يحدثه أثناء الرقص فى مناسبات الأفراح، أما خزام الأنف فهو شائع فى أفريقيا. والنوبيات مولعات بالرقص والغناء، والرقص الشعبى النوبى جماعى وله تراث قديم، يشارك فيه الرجال والنساء من كل الأعمار، وكان مرتبطا بمواسم الزراعة والحصاد من أجل وفرة المحصول وسعة الرزق، وليالى الحنة وزفاف العروس مصاحبا الغناء والموسيقى، فالفرح 7 أيام أول يومين لتبليغ الأصحاب والأقارب، وثانى يومين يتم خبز العيش ويسمى (الكناور) العيش الشمسى، وهو طبق الأصل من الرغيف الفرعونى قرص الشمس، ثم ليلة الحنة «الكوفريية» توضع الحنة فى صينية مزينة بالشموع تمرعلى الضيوف، كل واحد يأخذ قطعة حنة ليضعها على باب منزله، ثم يوم الفرح (الشيلة) يذهب الأصدقاء لمنزل العريس ليقدمون له الغلة والكيروسين والزيت والشحم والكبريت والسكر والملح والشاى والشربات وأنواع الحلوى ويخرج موكب الشيلة من منزل العريس يتقدمه والده والمدعوون. وتسير خلفهم الدواب المحملة بالغلة ثم عدد من الفتيات يحملن على رءوسهن أطباقا من الخوص عليها أصناف الشيلة وفى الخلف السيدات يزغردن، إلى منزل العروس، ويعقد القران، ويوزع البلح المسمى «تيى» والفشار المسمى«اسلج» وتقوم إحدى أقارب العريس بفتح «الخرج» الذى أتى به العريس، وتخرج هدايا العريس لعروسه وتنطلق الزغاريد، ويتخلل هذه الاحتفالية رقص وغناء، والآن لم يعد الفرح 7 أيام زى زمان. وفى الصباحية يتوجه العريس مع اصدقائه إلى النيل ليرش وجهه بمائه ثم يأخذ نباتا أخضر، ويعود إلى منزل العروس ويستمر ذهاب العريس يوميا لمدة أسبوع إلى النيل كل صباح ومعه نبت أخضر متفائل، كانت تمارس كل الطقوس الاجتماعية فى النوبة القديمة مرتبطة بالنيل. لأهل النوبة طقوسهم وعاداتهم، وبعد التهجير الأول أيام الخزان والثانى أيام السد العالى، لا يزال النوبيون يحلمون بالوطن القديم ويشدهم الحنين إلى ضفة نهر النيل، الذى تظلله أشجار النخيل وتعطره رائحة أشجار الحناء، مصر صنعتها رواسب حضارات لا يعادلها فى الثراء إلا طمى نهرها الإلهى، والنوبة شاهدة على هذا الطمى.