تفضل السيد/ عمرو موسى فدعانى لحضور حفل توقيع مذكراته التى صدرت أخيرا باسم »كتابية«، وطلب منى أن أكون أحد المتحدثين فى الحفل، لكن وجودى خارج البلاد فى ذلك الوقت حال دون تلبيتى لدعوته الكريمة، والتى كنت أحرص عليها، فقد كنت أحد الذين دعوا عمرو موسى فى مناسبات متعددة لكى يكتب شهادته التاريخية عن فترة مهمة من تاريخنا الحديث كان فيها طوال عشر سنوات مهندس السياسة الخارجية المصرية، ثم كان طوال عشر سنوات تالية قبطان سفينة التضامن - أو عدم التضامن - العربى، قبل أن يدخل السياسة من بابها الأوسع بعد ثورة 25 يناير 2011 رئيسا لجبهة الإنقاذ، ثم مؤسسا ورئيسا لحزب المؤتمر، ثم مرشحا لرئاسة الجمهورية فى أول انتخابات بعد الثورة، وهى الفترة التى توجها برئاسته للجنة الخمسين التى وضعت الأساس لدولة المستقبل التى من أجلها قامت الثورة. وقد حدثنى عمرو موسى فى أكثر من مناسبة بعد ذلك عن المذكرات حين بدأ يكتبها، بل وسألنى فى إحدى هذه الجلسات فى الصيف الماضى بمنزله بالساحل الشمالى عن تواريخ وملابسات بعض التفاصيل المتعلقة بإعلان الرئيس السادات اعتزامه زيارة اسرائيل، واستقالة وزير الخارجية السيد/ اسماعيل فهمى التى أعقبتها، حيث كنت أحدثه عن مذكراتى الشخصية التى ستصدر الشهر القادم والتى كنت مازلت بصدد كتابتها فى ذلك الوقت، وكانت هذه الزيارة مما اهتم به كل منا فى مذكراته، هو من موقعه الدبلوماسى وقتها، وأنا من موقعى الصحفى، ثم كانت مناسبة تالية شاركت فيها الصديق ابراهيم المعلم فى حث عمرو موسى على الإسراع بمراجعته للنص حتى تدخل المذكرات معرض الكتاب القادم وقد أخذت مكانتها على خريطة اهتمام القراء، وكان تقديرى أنه لو تأخرت المذكرات حتى معرض الكتاب فإن بؤرة الاهتمام مع قدوم العام القادم ستتركز بالضرورة على انتخابات الرئاسة وليس على مذكرات تتحدث عن فترات تاريخية سابقة. لذلك كانت سعادتى بالغة يوم أبلغنى عمرو موسى بأن الكتاب قد صدر أخيرا ودعانى مشكورا الى حفل توقيعه الذى لم يدهشني أنه لاقى حسبما سمعت إقبالا هائلا، ولكنى دهشت من متابعتى أخباره عن بعد أثناء وجودى فى الخارج لبعض ما قال البعض أنه ورد فيه من هجوم ضار على جمال عبد الناصر، ذلك أن مواقف عمرو موسى السياسية كلها والتى نال بها شعبية لم يسبقه اليها وزير خارجية آخر فى تاريخ مصر منذ بداية انشاء الوزارة قبل أكثر من 200 عام فى عهد الوالى محمد على باسم «ديوان الأمور الإفرنجية»، ثم بعد أن تحولت الى «نظارة الخارجية»، كى تتحول بعد ذلك الى وزارة بالمعنى المعروف أوائل القرن العشرين... أقول إن المواقف التى أكسبت عمرو موسى شعبيته كانت فى مجملها مواقف ناصرية، وبامتياز أيضا، فدوره فى مواجهة اسرائيل، والتصدى لسياساتها، وعدم قبوله بسياسة الأمر الواقع التى تجيد تل أبيب فرضها على العالم كله، هى صلب السياسة الخارجية الناصرية، وكذلك دفاعه عن القضية الفلسطينية وعدم قبوله التنازل عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، والذى أدى الى اتهامه بأنه هو الذى أفشل - بتأثيره على ياسر عرفات - الاتفاق الذى كانت تريد اسرائيل فرضه على الفلسطينيين فى ثمانينيات القرن الماضى، يضاف الى ذلك التعامل مع الدول الكبرى، خاصة الولاياتالمتحدة، من موقع الندية وعدم قبول كل ما تفرضه علينا. إن أمامى مقالا للكاتب الصحفى اللبنانى سمير عطاالله نشره فى جريدة «الشرق الأوسط» ثم نقلته عنها جريدة «المصرى اليوم»، يتحدث فيه عن دور عمرو موسى فى إعادة مصر الى الساحة العربية بعد القطيعة التى سببتها سياسة السادات فى السبعينيات، وما دور مصر العربى الذى حرص عليه عمرو موسى، إلا ركن أساسى من أركان السياسة الناصرية، وإذا كان صحيحا كما يقول عمرو موسى فى كتابه أن السياسة العربية لمصر بدأت قبل عهد عبد الناصر بتأسيس جامعة الدول العربية، فإن عبد الناصر مضى بها الى آفاق غير مسبوقة، أما دور مصر الرائد فى قيادة دول العالم الثالث فهى استحداث ناصرى أصيل، وقد كان عمرو موسى - حسبما كتب سمير عطاالله - هو الذى حال دون إخراج مصر من منظومة دول عدم الانحياز فى قمة هافانا الشهيرة. لقد اتسمت السياسة الخارجية لعمرو موسى ببعد شعبى لم تعرفه وزارة الخارجية من قبله ولا بعده، وقد كتبت مقالا هنا فى »الأهرام« فى نفس الأسبوع الذى ترك فيه عمرو موسى وزارة الخارجية بعنوان »مدرسة عمرو موسى الدبلوماسية« قلت فيه إن أسلوبه فى إدارة السياسة الخارجية المصرية اعتمد على استلهام الحس الشعبى، وضربت مثلا على ذلك بمعركته ضد اسرائيل فى اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية والتى حولها عمرو موسى الى قضية رأى عام رغم ما يحيط بها من خصوصية تقنية تستعصي على رجل الشارع، فمن أين أتى عمرو موسى بهذا البعد الشعبى الجديد على عالم الدبلوماسية إلا من شعوبية عبد الناصر التى يقول فى الكتاب إنه تأثر بها فى شبابه مثل جيل كامل من المحيط الى الخليج. لكن ما نشره البعض عن الكتاب أوحى لكل من لم يقرأه، بأن عمرو موسى هاجم جمال عبد الناصر قائلا إنه كان يستورد طعامه من سويسرا، وأن المظاهرات التى خرجت تطالبه بالبقاء بعد تنحيه على أثر هزيمة 1967 كانت كلها معدة ومرتبة، وأنه كان دكتاتورا وحكمه كان حكما فرديا لا مشاركة فيه لأى من مؤسسات الدولة، لذلك فبمجرد عودتى من الخارج بحثت عن الكتاب لأستجلى هذا الأمر، لكنى وجدته قد نفد من المكتبات فطلبته من عمرو موسى قائلا: أين الكتاب الذى تهاجم فيه عبد الناصر؟ فرد على بإجابة دالة قائلا: لا وجود له، لكن لدى نسختك من مذكراتى، ثم تفضل فأهدانى الكتاب بإهداء كريم منه. ...وقرأت الكتاب فوجدته كتابا مهما وقيما وممتعا، ووجدت فيه من التحليلات والآراء السياسية ما يمكن أن نختلف فيه مع المؤلف، ووجدت أيضا بعض ما نقل عنه بشكل غير دقيق، لكنى لم أجد فيه ما يمكن أن يوصف بأنه هجوم على عبد الناصر، وهذا هو موضوعنا فى الأسبوع القادم. لمزيد من مقالات محمد سلماوى