تمر مصر الآن بمرحلة اقتصادية حرجة جاءت نتيجة الثأر في الثلاثة عقود الماضية بالإضافة إلي ما أصابها من شلل وركود اقتصادي في فترة ما بعد الثورة وما تلاها من تعطل نسبي في كل نواحي الأنشطة الاقتصادية. إن مصر بعد الثورة في حاجة إلي تطبيق فكر اقتصادي قادر علي معالجة اختلالات البنيان الهيكلي والاختلالات التابعة التي نتجت عن تبني أنظمة اقتصادية متخبطة في العهود السابقة, ولا يجوز لهذا الفكر في الدستور المقبل أن يكون حسيبا لنظرية معينة أو ضحية لمصالح أصحاب النفوذ ورأس المال, بل يجب أن يكون واعيا لظروف مصر الاقتصادية والاجتماعية وأمينا علي مصالح الشعب كلها, وعليه يتعين علي واضعي الفصل الاقتصادي والمالي في الدستور الجديد مراعاة ثنائية الوجود( الجماعة والفرد) بحيث يدخل النظام الاقتصادي المطلوب في حساباته مصلحة الجماعة ومصلحة الفرد معا حتي تتحقق الرفاهية العامة لجموع شعب مصر. بناء علي ما تقدم فإن صياغة الفكر الاقتصادي المصري في الدستور المقبل يجب أن يقوم علي التوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة من خلال نموذج للنمو والتطور في ضوء عدة ضوابط حاكمة أراها كالتالي: أولا: وضع نموذج اقتصادي مختلط وسطي متوازن يوفق بين تدخل الدولة وقوي السوق الحرة, وبين قطاع الأعمال العام( ذي الطابع الاجتماعي والمحقق لقدر من العدالة الاجتماعية), والقطاع الخاص( ذي الطابع الرأسمالي والمحقق للمصلحة الفردية), وذلك في إطار التخطيط الشامل علي أن يكون التخطيط إلزاميا لقطاع الأعمال العام وتوجيهيا وإشرافيا فقط للقطاع الخاص. ثانيا: يجب أن توضع السياسات العامة للدولة وكل القوانين والقرارات في ضوء الهدف الأساسي وهو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية( في إطار مبدأ العدالة الاجتماعية وحماية الفقراء),بما يتطلب ذلك من ترشيد الاستهلاك العام والخاص وضغط الاستيراد غير الضروري بالمرحلة وزيادة المدخرات وتوجيهها لتمويل الاستثمارات المحلية القادرة علي تحقيق تنمية مستدامة واستيعاب البطالة. ثالثا: يجب إعطاء أولوية ودفعة قوية للإنتاج والتصنيع الزراعي والتوسع في التصنيع المحلي لا التجميع المحلي فقط لإعادة التوازن لبنيان الإنتاج القومي. رابعا: تحديد كل الاستثمارات بما في ذلك الأجنبي منها في ضوء الخطة الشاملة علي أساس أولويات تمليها احتياجاتنا من خلال اتفاقات دولية عادلة يصدق عليها من المجالس النيابية. خامسا: حماية الصناعة الوطنية إداريا بمنع نسبي باستيراد السلع المنافسة أو بوضع حماية جمركية مؤقتة في ظل ظروف المرحلة الانتقالية. شريطة أن تكون هذه الصناعة قادرة علي النجاح, وننبه هنا أن استيراد الاستثمار الأجنبي أفضل جدا من المنتجات الأجنبية وهو ما يعني أن نشرع القوانين علي أن تكون الشراكة مع الجانب الأجنبي إنتاجية لا تجارية فقط وهو ما يفيد الصناعة الوطنية بشكل خاص والاقتصاد القومي بشكل عام. سادسا: مع تقديم المصلحة العامة فإن مبدأ التوازن يسمح بقدر كبير من المصلحة الخاصة ويعطي مجالا كبيرا للحوافز الفردية علي ألا تكون مستغلة, وفي اقرار مبدأ التفاوت بين الدخول تبعا للعمل وتبعا للملكية غير المستغلة وهنا ما ينصرف إلي إعطاء كل بحسب خدمته أي أن يأخذ كل بقدر العمل الذي يقدمه, وأن يأخذ كل بقدر ما يعطيه وهذا هو التوزيع العادل, مع الحفاظ علي تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية. سابعا: إن العدالة الاجتماعية التي يجب أن توضع في الدستور تعني أن يكون لكل مواطن قادر علي العمل فرصة عمل شريفة وأن يأخذ مقابلا عادلا علي عمله أو لملكيته, شريطة أن نضمن لكل مواطن في حدود الامكانات المتاحة المستوي اللائق للمعيشة الذي يكفي لتغطية نفقة الإنسان المعاصر المادية والمعنوية من الغذاء والملبس والمسكن إلي الخدمات العامة الضرورية خاصة الصحية والتعليمية لأكبر قدر من الشعب المصري. ولمزيد من إيضاح مفهومنا عن العدالة الاجتماعية نؤكد أن المستوي اللائق للمعيشة الذي نريد أن نضمنه لكل مواطن يرتفع به بالضرورة من(حد الكفاف) الذي يعيشه إلي( حد الكفاية) الذي تستلزمه تعاليم الأديان السماوية من إسلام ومسيحية وهو حد متطور بطبيعته تبعا لظروف التغيرات الاقتصادية المتلاحقة. ثامنا: إسقاط مبدأ احتكار القلة وسيطرة مجموعة محددة بعينها علي عوامل الإنتاج وسوق رأس المال, وتبني مبدأ تكافؤ الفرص ودعم المؤسسات المالية لكل المنظمين ورجال الأعمال دون التمييز من أجل مصلحة مجتمع الملايين لا مجتمع أصحاب الملايين فقط. تاسعا: تكوين وسائل تمويل جديدة غير تقليدية( خاصة بعد الأزمات المالية العالمية المتتالية التي ضربت الأنظمة المالية والبنكية في أغلب دول العالم في الفترة السابقة) في ضوء احتياجات التنمية وبما لا يضر بمستوي معيشة الطبقات الفقيرة, وهو ما يلزم حسب تصورنا إذن: 1 التوسع في الضرائب التصاعدية خاصة مع أصحاب الدخول المرتفعة والذين يتسرب لهم قدر كبير من الدعم المخصص للطبقات الفقيرة, والتوسع في الضرائب علي السلع الترفيهية والكمالية وعدم التوسع في الضرائب علي السلع الأساسية. 2 عدم لجوء الدولة إلي الاقتراض الداخلي أو الخارجي إلا بغرض تمويل العجز الموسمي في الميزانية. 3 تفضيل القروض الأجنبية متوسطة الأجل وطويلة الأجل علي القروض قصيرة الأجل علي أن تخصص هذه القروض لتمويل الاستثمارات التي ترفع من قدرة الاقتصاد القومي علي الإنتاج. عاشرا: ربط خطط التنمية بآمال الشعب بحيث تضمن لهم فرص عمل حقيقية وتضمن له أيضا توافر السلع اللازمة بحيث توفق بين رغبة أصحاب رأس المال في الربح وحاجة الفقراء للعمل والعيش حياة كريمة. إننا نريد إذن نظاما اقتصاديا مختلطا وسطيا متوازنا يستند إلي الدولة, وإلي قطاع الأعمال العام, وإلي القطاع الخاص, ونريده في مرحلة النمو منفتحا علي العالم الخارجي لاتابعا له, اقتصادا يعمل بتخطيط الدولة ويقوي السوق الحرة في إطار توافقي بين الدولة والبواعث الخاصة. وليس ما نطالب به هنا باسم أيديولوجية معينة وذلك أن الأمر أخطر كثيرا من الخلافات الأيديولوجية. ومنه نخلص إلي نموذجنا الاقتصادي المنشود في دستورنا الجديد دستور ما بعد الثورة. المزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب