أزهرنا الشريف مثل كنسيتنا القبطية، كلاهما قطعة من روح مصر، وكلاهما حصن للإيمان السمح، والتدين الفطرى الذى منح العالم الرهبنة ثم التصوف، ففى كليهما حكمة رواقية وسمو روحى لا يخرج إلا من أرض عتيقة وشخصية عريقة وضمير وثاب يتجذر فى الأزل وينشد الأبد. نعم تبقى فى المؤسستين بعض هنات، وقد يخرج من صفوفهما متشدد هنا أو متعصب هناك، ولكنه أمر لا ينبع فقط من قصور يعتريهما بل من عوامل أخرى تتعلق بالسياق المحيط بهما، خاصة ذلك التراجع العام فى نمط الحياة المصرى المتمدين أمام نماذج الحياة المتسلفة، وجميعها عوامل تتعلق بطبيعة الدولة والتاريخ والعالم، ولا سيطرة للأزهر أو الكنيسة عليها. اليوم نجد حملة شعواء على الأزهر من قبل إعلاميين أغرار، ومثقفين صغار، ومتنطعين ينسبون إليه الإرهاب لأنه رفض تكفير داعش، وما لم يعلمه هؤلاء أن دخول الأزهر إلى ساحة التكفير هو حلم لكل الدواعش الذين يكفرونه أصلا، وسيفرحون بتكفيرهم له حتى تتساوى الرءوس، وتسقط المرجعيات، ولو فعل لكانت سابقة استحلها الآخرون وأحسنوا توظيفها إلى يوم الدين، ناهيك عن أن الأزهر هدف دائم للإخوان والسلفيين، يتمنون سقوطه كى ينتشر فقه الجماعة الأممى وإسلام الجماعات السياسى بديلا عن فقه الإسلام الوسطى وتدين مصر الحضاري، ما يعنى أن أولئك النفر يحاربون المعركة الخطأ فى التوقيت الخطأ. أما الكنيسة التى تحتفل بعيد القيامة المجيد رغم آلامها فنطيل وقفتنا اليوم عندها، ليس فقط تهنئة لها بل امتنانا لدورها وحدبها على ذلك الوطن الذى وجد أعظم تجسيد له فى القول الشامخ للأنبا العظيم الراحل شنودة الثالث، (مصر وطن يعيش فينا ولا نعيش فيه). وفى القول الأكثر شموخا للأنبا تواضروس الثانى (نصلى فى مساجدنا إذا أحرق المتطرفون كنائسنا) فكلاهما قول يصدر عن روح لا تعشق وطنها فقط، بل تؤمن به خيارا مطلقا ينطوى على حدود الحياة كما يستبطن أفق الموت. كان هذا الإيمان بالوطن حاضرا لدى الكنيسة القبطية العريقة، منذ نشأتها بالإسكندرية فى القرن الأول الميلادى على يدى القديس مرقس، أحد حواريى السيد المسيح عليه السلام، وأحد كتاب الأناجيل الثلاثة المتوافقة (متي، ومرقس، ولوقا)، ومن ثم فقد سعت عبر تاريخها الطويل إلى أمرين: أولهما تأكيد مركزيتها، واستقلالها داخل العالم المسيحى مع الكنائس الكبرى خصوصا فى روما والقسطنطينية وأنطاكيا، وهو ما تبدى فى اعتناق مذهبها (المونوفيزيتى)، المؤكد الطبيعة الواحدة (الإلهية) للسيد المسيح، استنادا إلى خصوصية تاريخية قوامها الحكمة المصرية والدين المصرى القديم وقيم الشرق الأدنى الأخلاقية والروحية. وثانيهما ريادتها التاريخية فى الذود عن العقيدة المسيحية ضد الحركات التى اُعتبرت هرطوقية خلال القرون الثلاثة التالية: خصوصا اللوقيانية والأريوسية والنسطورية، حيث كان البابا إسكندر (296 328) أسقف الإسكندرية هو من تصدى لهرطقة الوقيانوسب وكان سببا فى انفضاض الجمهور المسيحى عنها. كما كان القديس إثناسيوس، قبل أن يعتلى سدة الأسقفية بخمس سنوات، هو أبرز المتصدين لهرطقة «آريوس» الأكثر خطرا فى تاريخ المسيحية، لرفضها القول بألوهية المسيح، وتأكيدها بشريته الخالصة، وتقريرها أن الآب وحده هو الإله، حيث تمكن إثناسيوس عبر جدل ناجح مع آريوس من توحيد الصف المسيحى خلف قانون الإيمان الذى قبله مجمع «نيقية» المسكونى المنعقد عام 325م، بدعوة من الإمبراطور الرومانى قسطنطين، ليكون العقيدة السائدة، وهو المجمع نفسه الذى اُتفق فيه على أن يكون الصليب رمزاً للمسيحية، وتولى الأسقف وظيفته الروحية كسلطة مطلقة فى أمور الدين، وأدخل نظام التعميد والقرابين المقدسة، وتقنين آلية المجامع المسكونية حيث يجتمع أساقفة العالم كله ليُقِّروا العقائد والتعاليم المتعلقة بكل أمور الكنيسة والعقيدة. هكذا أضافت الكنيسة القبطية للشخصية المصرية، فضلا عن الطبقة الجيولوجية العميقة من الروحانية التى بدأت بالرهبنة المسيحية وتواصلت فى التصوف الإسلامي، دورا دينيا وثقافيا رائدا لجزء كبير من العالم خصوصا فى إفريقيا حيث خضعت كنيسة الحبشة (الإثيوبية) للكنيسة المصرية حتى نهاية الخمسينيات، ناهيك عن دول كثيرة من العالم ينضوى بعض من شعبها تحت لواء العقيدة المونوفيزيتية، سواء من مصريين مهاجرين إلى تلك الدول، أو من رعايا هذه الدول نفسها. وأما دورها الوطنى الأكثر سموا فى التاريخ، فقد تمثل فى الدفاع عن استقلال مصر ضد جميع محتليها، من دون وقوع فى غواية شراكة هؤلاء المحتلين لها فى الإيمان المسيحي، بدءا من الهجمات المتنكرة فى صورة صليبية، ثم المقاومة السياسية والثقافية التى حاولت تزيين الاحتلال الغربى الحديث بدعاوى نرجسية مراوغة تبرر الهيمنة. هكذا أدركت الكنيسة معنى الوطن، بينما عجز أشقياء الإرهاب من الدواعش وأذنابهم عن إدراك معناه، ومعنى الدين الذى يدعون انتسابهم إليه، فالبادى أن نسبهما زائف، وعلاقتهم حرام بهذا وذاك. أما المفارقة الحاسمة فتكمن فى المسلمين السبعة ضحايا الكنيسة المرقسية، الذين كانوا يحرسونها، وعلى رأسهم المرأة الشماء نجوى الحجار التى فقد ابنها فى حادث مشابه قبل سنوات فلم ينل استشهاده من عزمها، والمقدم عماد الركايبى الذى أوقف الانتحارى وتلقى ضربته فى صدره، ما يكشف عن عمق التداخل بين الكنيسة والوطن، فالكنيسة تذود عن مصر، ومصر تحرس الكنيسة. الأقباط يموتون على مذبح الوطنية المصرية، بينما المسلمون يموتون حراسا لكنيستهم الوطنية، فى اختلاط عميق وتداخل نادر يصعب فصل وشائجه أو فصم عراه، يكشف عن استعصاء سيناريو الفتنة والانقسام، رغم تكرار المحن والآلام، ولعل هذا أحد الأسرار الخالدة فى الشخصية المصرية عبر التاريخ، حيث الفناء يظل بعيدا جدا، رغم أن الآلام قريبة جدا وكثيرة جدا.. كل عام وكنيستنا بخير وأشقاؤنا الأقباط دون ألم. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;