يمكن ترسيم رحلة العقيدة الإلهية في التاريخ الإنساني كحركة باتجاه توحيد الألوهية وإنسانية الدين, في مواجهة الوثنية والعنصرية. وقد خاضت اليهودية ضد الوثنية معركة ناجحة استمرت سبعة قرون بين بعثة موسي, ونبوة أشعياء الثاني550 ق.م الذي دعا إلي توحيد الإله يهوه, مما كان له صدي عميق في الوعي الديني الإسرائيلي. غير أنها وقعت في أسر المفهوم القبلي للألوهية, فاعتبرت يهوه إلها للأسباط الاثني عشر, وليس إلها للعالمين, ما كان يحول دون مشاركة باقي شعوب الإنسانية في الميراث الروحي للوحي السماوي, ويغلق أمامهم طريق الخلاص. وهنا تأتي المسيحية كمحطة كبري علي طريق أنسنة الدين وفتح طريق الخلاص ليسع كل المؤمنين, كما تنطلق دعوة المسيح كثورة جائحة تعصف بالمادية اليهودية, والإيمان الطقوسي المزيف الذي جسده الفريسيون خصوصا, بحثا عن روحانية سامية تعيد وصل الله بالإنسان عبر صياغة عقدية جديدة وإن شابها نوع من التعقيد والتركيب, إذ تقول: أن الله واحد وفي الوقت نفسه هو ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر: الأب, والابن, والروح القدس. فالأب هو الذي خلق العالم بواسطة الابن, والابن هو الذي أتم الفداء وقام به, والروح القدس هو الذي يطهر القلب والحياة. غير أن الأقانيم الثلاثة تشترك معا في جميع الأعمال الإلهية علي السواء.- وقد احتلت الكنيسة المصرية العريقة, والتي نشأت بالأسكندرية في القرن الأول الميلادي علي يدي القديس مرقس, أحد حواري المسيح, وأحد كتاب الأناجيل الأربعة الصحيحة( المتوافقة), موقعا رئيسيا في هذه الصياغة العقدية مع الكنائس الكبري في روما والقسطنطينية وأنطاكيا, وكذلك في صونها ضد الحركات الهرطوقية التي ذاعت خلال القرون الثلاثة التالية: خصوصا الدوناتية, واللوقيانية والأريوسية والنسطورية, حيث كان البابا إسكندر(296 328) أسقف الأسكندرية هو من تصدي لهرطقة لوقيانوس وكان سببا في انفضاض الجمهور المسيحي عنها. وفي مواجهة الهرطقة الآريوسية الأكثر خطرا في تاريخ المسيحية, حيث رفض آريوس القول بألوهية المسيح, مؤكد بشريته الخالصة, مقررا أن الأب وحده هو الإله, مما كان يتعارض مع عقيدة الكنيسة المصرية( المونوفيزيتية), المؤكدة علي الطبيعة( الإلهية) للسيد المسيح, انبري القديس إثناسيوس وهو لا يزال قمصا في كنيسة الإسكندرية, قبل أن يعتلي سدة الأسقفية بعد خمس سنوات, لتحدي آريوس عبر جدل ناجح قاد إلي توحيد الصف المسيحي خلف قانون الإيمان النيقاوي الذي قبله مجمع نيقية المسكوني المنعقد عام325 م, بدعوة من الإمبراطور الروماني قسطنطين, ليكون العقيدة السائدة, والتي تؤمن بالثالوث: الأب والابن والروح القدس كأقانيم ثلاثة حقيقة وأبدية في طبيعة الله. وفي المجمع نفسه اتفق علي أن يكون الصليب رمزا للمسيحية, وتولي الأسقف وظيفته الروحية كسلطة مطلقة في أمور الدين, وأدخل نظام العماد والقرابين المقدسة, وتقنين آلية المجامع المسكونية حيث يجتمع أساقفة العالم كله ليقروا العقائد والتعاليم المتعلقة بكل أمور الكنيسة والعقيدة. وقد تمكنت الكنيسة القبطية من لعب هذا الدور لأنها كانت تخصبت بحكمة مصر والشرق الأدني القديم الأخلاقية والروحية, التي كانت قد غذت العقلية اليونانية ومكنتها من أن تفرز نظاما نظريا متكاملا للحكمة الفلسفية, استطاعت مصر البطلمية ثم الرومانية من خلال المدرسة السكندرية, التي ولدت في رحم مكتبتها, إعادة توظيفه في إطار سعيها الرائد للتوفيق بين العقل والإيمان, لصالح الاعتقاد المسيحي, كما استطاعت الثقافة العربية الإسلامية, بعد ذلك, استيعابه وإخضاعه لإلهام العقيدة الإسلامية في الوحدانية المطلقة. وعبر تاريخ طويل كانت فيه حاضرة مصر الأولي آنذاك, وحاضنة الكنيسة المرقسية حتي اليوم, رغم انتقال المقر البابوي إلي كاتدرائية العباسية منذ الستينيات, استمرت مدينة الإسكندرية شاهدة عصر علي حوار الثقافات, كأعرق جغرافيا للتسامح في العالم كله دون مبالغة. لعبت الكنيسة القبطية دورا كبيرا في تفتح الثقافة المصرية وتعددها. كما أضافت لشخصية مصر طبقة جيولوجية عميقة وكثيفة من الروحانية بدأت بالرهبنة المسيحية ولم تنته بالتصوف الإسلامي. بل إنها منحت للعبقرية المصرية دورا مضافا عندما جعلتها رائدا دينيا وثقافيا لجزء كبير من العالم خصوصا في إفريقيا حيث خضعت كنيسة الحبشة( الإثيوبية) للكنيسة المصرية حتي نهاية الخمسينيات, وكذلك في دول كثيرة من العالم ينضوي بعضا من شعبها تحت لواء العقيدة المونوفيزيتية, سواء من مصريين مهاجرين إلي الدول, أو من رعايا هذه الدول نفسها. وأما الدور الأكبر الذي يشهد به التاريخ, فكونها كانت دوما جزءا من نسيج الوطن, صارعت أعداءه وقاومت محتليه, فلم تذعن سواء لشراكتهم في العقيدة عندما تنكر هؤلاء في صورة صليبية, وأخفوا أطماعهم في معطف المسيحية عبر التاريخ الوسيط, أو لخطاباتهم الثقافية التي حاولت تزيين الاحتلال بدعاوي نرجسية مراوغة تبرر الهيمنة كما حاول المستعمرون الأوروبيون في العصر الحديث, أو حتي لمطالب أبنائها الروحية, حيث يكمن إغراء الحج إلي بيت المقدس علي جسد الحق العربي المسيحي والإسلامي في القدس, عندما حاولت الحركة الصهيونية التعمية علي احتلالها الاستيطاني لفلسطين بدعاوي توراتية أثرت للأسف علي الوعي البروتستانتي الغربي, وجعلت منه ركيزة للسطو والقهر باسم الله. واليوم, بعد نحو ما يقارب الألفي عام من نشأتها, وعبر مسيرة تناوبها117 أسقفا وبطريركا, تقوم الكنيسة القبطية بتنصيب بطريركها الثامن عشر بعد المائة, الأنبا تواضروس الثاني كخليفة للبابا العظيم شنودة الثالث الذي طالما عشقت مقالاته المسطورة علي صفحات هذه الجريدة الغراء, تلك المملوءة بروحانية الحب والسماحة, والمفعمة برحيق الانتماء للوطنية المصرية, ولشخصيتها الحضارية الثرية.. وإذ أقدم تهنئتي بهذه المناسبة لإخوتي الأقباط, بل للمسيحيين عموما, والمصريين جميعا, يدفعني أمل واثق, بأن البابا الجديد سوف يمتح من النبع الرائق ذاته, ويواصل الرسالة الكنسية نفسها, دعما للعقيدة والوطن معا. المزيد من مقالات صلاح سالم