فى سنة 2007 لفت انتباهى زميلى الدكتور محمد بشير صفار الى تقرير أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع وزارة الصحة ومكتب السكان، حمل هذا التقرير عنوان: «لماذا تعتبر شيخوخة السكان قضية مهمة: رؤية عالمية»، وفى العام التالى والذى يليه أصدرت وزارات الخارجية فى كل من الدنمارك وبلجيكا تقارير مماثلة. وقد كان لافتا للنظر أن هذه التقارير تصدرها أو تشارك فى اصدارها وزارات الخارجية، بما يعنى أنها ستؤثر فى السياسة الخارجية لتلك الدول، أو أنها ستحدد توجهاتها. وقد توقفت عن الغوص فى مزيد من التحليل لتلك التقارير حينها مخافة الاتهام بنظرية المؤامرة. قدم هذا التقرير العديد من الحقائق الخطيرة التى ستؤثر على مستقبل البشرية، وفى القلب منها العالم الغربى وامتداداته فى اليابان وأستراليا، فقد عرف البشر طوال تاريخهم أن نسبة الأطفال تفوق كثيرا نسبة كبار السن فى جميع المجتمعات، ولكن هذه الحقيقة انتهت فى الدول المتقدمة، فقد تراجعت نسبة الأطفال الى كبار السن بصورة كبيرة، وسيكون ذلك التراجع دراماتيكياً فى عام 2050 وثانيا: ارتفاع مستويات المعيشة مما يدفع الأسر الى إنجاب أعداد أقل من الأطفال، وثالثاً: طبيعة الحياة العصرية وتعقيداتها التى تجعل العديد من الأسر لا ترغب فى الانجاب بل تستبدل ذلك بتربية القطط والكلاب، ورابعاً: انتشار قيم الحرية الجنسية والشذوذ التى تحول دون فكرة الزواج ذاتها. وفى المقابل سيزداد عدد من هم فى سن الشيخوخة وغير القادرين على الكسب بصورة تهدد تقدم المجتمعات المتقدمة، وتضعف معدلات التنمية فيها، وذلك لأنه سيكون 20% من السكان يعلمون ليعولوا 80% فى سن الشيخوخة، وهذا سيقود الى أعباء كبيرة على الاقتصاد، وسيحوِّل أوروبا وأمريكاواليابان الى دور مسنين كبيرة، بل إن بعض الدول ومنها روسيا على سبيل المثال بدأت تشهد تناقصا شديداً فى السكان والأخطر من ذلك أن الجنس الأبيض الأوروبى سوف يتعرض للفناء والانقراض، وهذه قضية خطيرة تهدد العرق الأبيض الذى يرى أنه أرقى أعراق الأرض.هنا تصبح قضية الشيخوخة قضية خطيرة تنشغل بها وزارات الخارجية لأنها تتعلق بالأمن القومى للدول الغربية المتقدمة، وتتعلق كذلك بمصير ومستقبل الحضارة الغربية، وهنا يمكن القول إنه ستظهر هناك سياسات ديموغرافية جديدة تشكل توجهات السياسة الخارجية للدول الكبرى، وتحدد تحركاتها العالمية، وهنا نجد أن هذه الأبعاد الديموغرافية قد أصبحت أحد أهم أبعاد السياسة الدولية فى القرن الحادى والعشرين، ونستطيع أن ننظر للأزمات الكبرى فى العالم الثالث خصوصاً القريب من أوروبا فى العالم العربى وافريقيا من منظور ديموغرافي، ويمكن كذلك مقاربة الأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية من منظور ديموغرافى أيضاً. وإذا نظرنا الى حالة الفوضى التى اجتاحت العالم العربى بعد عمليات تغيير النظم الدكتاتورية ابتداءً من العراق وانتهاءً بسوريا فسنجد أن الأبعاد الديموغرافية حاضرة بشدة فى قلب المشهد، بل أحيانا تكون هى العامل الأكثر تأثيراً وفعالية: أولا: تقدم حالة العراق نموذجا واضحاً لدور الأبعاد الديموغرافية فى حالة الفوضى التى شهدها هذا البلد منذ الغزو الأمريكي؛ الذى بداً برؤية ديموغرافية تجعل التركيبة السكانية هى المحدد الأساسى لشكل النظام السياسي، والدستور، والدولة ومؤسساتها، وكأن كل عملية التغيير انما تمت لأسباب ديموغرافية؛ تتعلق بنسب مكونات الشعب العراقي، وهذا لا يوجد فى أى بلد حتى أمريكا، كان العراق ومازال مسرحا لإعادة تشكيل الهيكل السكانى، فمنذ الاحتلال فى 2003 استقرت مناطق الشيعة ومناطق الكرد، ولكن مناطق السنة خضعت لعمليات تدمير وتهجير بصورة مستمرة، وانتقلت من تنكيل القاعدة وداعش الى تنكيل الحشد الشعبي، والهدف واضح وهو إما القضاء على هذا المكون من حيث الكم من خلال التهجير وإحلال شيعة ايرانيين محلهم، أو القضاء عليهم من حيث الكيف والنوعية من خلال تدمير جيل كامل تم حرمانه من التعليم. ثانيا: ما أحدثته الثورات العربية فى ليبيا ومصر واليمن وسوريا، من عمليات تفكيك للمجتمع، تحولت فى بعض هذه الدول الى حروب أهلية على أسس عرقية وجهوية فى ليبيا، ومذهبية فى اليمن، ودينية ومذهبية وعرقية وأيديولوجية فى سوريا، وقد أوشكت مصر على الدخول فى هذا النفق بعد أن بدأ نظام الدكتور محمد مرسى فى تقسيم الشعب المصرى على أسس أيديولوجية، كل ذلك أحدث وسيحدث متغيرات ديموغرافية على المدى المتوسط والبعيد، فقد حدث بالفعل خلل ضخم فى تركيبة المكونات المسيحية فى العراقوسوريا موطن المسيحية التاريخي، فقد تم تفريغ هذين البلدين من أكثر من 75% من المسيحيين الذين كانوا موجودين قبل الحروب الأهلية، وتم تهجير هؤلاء الى أوروبا، كذلك تم احداث تغييرات ديموغرافية لا يعرف أحد أبعادها داخل سوريا خصوصا بين السنة من جانب والعلويين والشيعة من جانب آخر. ثالثاً: استمرار حالة الفوضى فى ليبيا وتونس وتحركها غربا الى الجزائر يثير الكثير من المخاوف من أن تكون هذه الحالة ضمن استراتيجية أوروبية تتعلق بالتوازن الديموغرافى على ضفتى المتوسط، وهذا بدوره يعيدنا الى تقرير الشيخوخة السابق الاشارة اليه. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;