تميز عام1958 بإثارة سؤال محوري: إلي من يتجه الانتاج؟ إلي الجماهير الفقيرة أم إلي القلة الثرية؟ وجاء الجواب عن هذا السؤال من عالم الاقتصاد الأمريكي جون كينث جالبرث(1908-2006) في كتابه المعنون مجتمع الرفاهية. والذي دفعه إلي تأليف هذا الكتاب ما لاحظه من أن أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت ثرية في القطاع الخاص فقيرة في القطاع العام. وبصدور كتابه انتهي الاقتصاد التقليدي الذي أسسه كل من آدم سميث(1723-1790) وديفيد ريكاردو(1772-1823) وتوماس مالثوس(1766-1834). فهؤلاء الثلاثة كانوا قد أصدروا مؤلفاتهم في زمن كان الفقر هو السمة البارزة والمهيمنة, ومن ثم كان الاهتمام بكيفية إشباع الحاجات الأساسية للانسان أمرا ضروريا. وسبب هذه الضرورة مردود إلي اختلال التوازن بين قوتين متناقضتين: السكان والانتاج. فعدد السكان يزداد بلا حدود, أما الانتاج فالزديادة لها حدود. ومن هنا اتفق علماء الاقتصاد الثلاثة علي أنه اذا ظل السكان في ازدياد فلن يكون الطعام كافيا, ومن ثم يتوقف النمو. ومن هذه الزاوية قيل عن علم الاقتصاد إنه علم كئيب. وقد حاول جون كينث جالبرث إزالة هذه الكآبة ولكن لم يكن في وسعه سوي تغيير اتجاه ذلك العلم. فبدلا من أن يكون متجها نحو حل مشكلة انفجار السكان أصبح متجها نحو الفئة الثرية من السكان. ومع هذا الاتجاه الجديد صك جاليرث مصطلحين: الحكمة العرفية ومجتمع الرفاهية. كانت الحكمة العرفية في القرن التاسع عشر تفكر في الاصلاح الاقتصادي من زاوية الفقر, وكانت تنظر إلي الأزمات الاقتصادية علي أنها ظاهرة طبيعية. ولكن مع نشأة الثورة الصناعية لم تعد هذه الحكمة العرفية صالحة وذلك بسبب بزوغ ظاهرة جديدة اسمها الاعلانات التي كان من شأنها إيجاد سلع استهلاكية جديدة تبدو كما لو كانت مدعمة لزيادة الانتاج ولكنها لم تكن كذلك, إذ كانت سمة أساسية لمجتمع جديد هو مجتمع الرفاهية, وهو مجتمع يحدث زيادة مصطنعة في طلب المستهلك تتجاوز حاجاته الأساسية. وهنا يحدث تداخل بين الشركات الكبري وقوة السوق, ولكن الشركات هي القوة الحاكمة في هذا التداخل لأنها هي التي تحدد الأسعار أو بالأدق هي التي تصنع الأسعار. وقد أيد جالبرث في هذا الاتجاه عالم اقتصادي أمريكي اسمه ولت وتمان روستو(1916-2003) في كتابه المشهور والمعنون مراحل النمو الاقتصادي في عام.1959 وهذه المراحل خمس: تبدأ المرحلة الأولي من نشأة الحضارات القديمة المصرية والفينيقية والصينية وتتميز بالبطء في عملية التغيير مع محدودية الانتاج. وتعقبها المرحلة الثانية وهي مرحلة العلم الحديث ومآثره المصحوبة بتعدد الاختيارات, و نشأة الدولة المركزية مع تمدد التجارة كوكبيا وتأسيس البنوك لتحريك رأس المال. ثم تأتي المرحلة الثالثة ويسميها روستو مرحلة الاقلاع وهي تستلزم أمرين: موجة عارمة من التكنولوجيا ونخبة منظمة سياسيا وعلي وعي بأن تحديث الاقتصاد مسألة سياسية من الدرجة الأولي. وفي المرحلة الرابعة يرقي هذا الوعي إلي درجة النضج. أما المرحلة الخامسة والأخيرة فهي المرحلة التي يتحكم فيها كل ما هو كيميائي وكهربائي. وقد قيل عن كتاب روستو إنه كتاب زمانه إذ كانت الحرب الباردة في أعلي مراحلها فقد تم بناء سور برلين وحدثت أزمة الصواريخ الكوبية وسباق التسلح وسباق الفضاء. واللافت للانتباه هاهنا أن كلا من جالبرث وروستو كان مؤثرا في سياسة البيت الأبيض, وأن كلا منهما لم يكن راغبا في تقدم شعوب العالم الثالث ولكن من زاويتين متباينتين. فجالبرث كان معارضا لغزو أمريكا لفيتنام أما روستو فكان مؤيدا لذلك الغزو. وانتصر رأي روستو وقامت الحرب وهزمت أمريكا, وبقي رأي جالبرث مشروعا ومن ثم اتخذت أمريكا مسارا آخر. والسؤال اذن: ماهو هذا المسار الآخر؟ جواب هذا السؤال في المقال القادم. المزيد من مقالات مراد وهبة