«التباعد بين الواقع والعقيدة المسلم بها في العالم الاقتصادي» أو «الهروب الأنيق من الواقع» نتيجة للضغوط المادية والاجتماعية وموضة الزمن، هي الفرضية الأساسية والمحور العام الذي يستند إليه عالم الاقتصاد الأمريكي الراحل جون جالبرث في آخر كتبه وهو يبحث عن الدور المشبوه الذي تقوم به إدارة كبري الشركات في التلاعب بالأسواق والمستهلكين والحياة الاقتصادية بل والسياسية. وسنكتشف بقراءة التفاصيل والنتائج أن هذا الكتاب، ذي العنوان الجريء والذكي والمنطوي علي تناقض «اقتصاد الاحتيال البريء» والذي صدر عام 2004، كان نبوءة بالأزمة الاقتصادية العالمية التي دهمت العالم مؤخرا. يقول د. محمد رضا العدل مترجم العمل الصادر لدي مكتبة الأسرة: «في ضوء هذا الكتاب تبدو الأزمة الاقتصادية التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي والعالم حاليا، نتيجة طبيعية للطريقة التي يشتغل ويدار بها هذا الاقتصاد». ومن هنا يراجع المؤلف في آخر الكتاب عنوانه الذي اختاره ويتحدث عن «نهاية البراءة». د. محمود عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة في تقديمه للكتاب اعتبر ما احتواه من أفكار وتأملات هو الوصية والحكمة الأخيرة لهذا المفكر الكبير الذي رأس جمعية العلوم الاقتصادية الأمريكية، وكان سفيرا للولايات المتحدة في الهند في ظل إدارة كينيدي. وأنه كتبه بدون أي تدليس فكري أو تجميل للأنظمة الاقتصادية، أو تمرير صور مثالية علي أساليب عالم المال والأعمال والسياسة الخارجية. ولهذا السبب اعتبر جالبرث في أعين ممثلي الاقتصاد الرسمي من »المارقين«. أما المترجم فيري أن كتابات جالبرث وتحليلاته من ذلك النوع الذي يميط اللثام عن عدد من الخرافات والأحكام المبررة لأوضاع اقتصادية معينة. يمكننا أن نحيل تطبيق هذا الكلام إلي الفصل الثاني من الكتاب وعنوانه «إعادة تسمية النظام»، الذي يتتبع فيه المؤلف المحاولات الدءوبة لتجميل النظام الرأسمالي رغم التاريخ البشع لسلطة الملكية وما شابها من سلبيات الاستغلال والاحتكار، وذلك عبر استبداله بتعبير آخر هو «نظام السوق»، وكأنه لا يحمل في طياته مفاهيم السيطرة والقوة والاحتكار. وبالنسبة لجالبرث كان تعبير «نظام السوق» هذا الذي اخترعه رجال الأعمال والخطباء السياسيون وحتي بعض الصحفيين «لطيفا لكن بدون معني»، وأسلوبا عبقريا في عمليات الاحتيال البريء علي الجمهور، إلا أنه علي أية حال كان تعبيرا ناجحا علي نحو ما في تصحيح سوءات الرأسمالية وإنقاذ سمعتها، بعدما تكشف لأنصارها قابليتها لتدمير نفسها. في إطار تقديم نظرة نقدية للأوضاع الاقتصادية المعاصرة، لا يغفل المؤلف الإشارة إلي بنية النظام الاقتصادي الأمريكي، واعتماده علي هيمنة نظام الشركات المساهمة التي يراها المؤلف ظاهرة بيروقراطية ومركز للقوة، أتاحت انتقال السلطة من الملاك إلي الإدارة وكرست هيمنتها. ويخصص الفصل العاشر من الكتاب لتحليل فضائح تلك الظاهرة باعتبارها نهاية الحياة الاقتصادية الأمريكية. يقول المترجم: «في هذا الكتاب يريد الكاتب أن يقول إن الاقتصاد الأمريكي في حاجة إلي إصلاح اقتصادي كبير وإصلاح سياسي أكبر». فيما يكشف جالبرث في فصول أخري زيف المؤسسات المالية والسماسرة والمستشارين الماليين، عبر تحايلهم وإدعائهم بامتلاك الحقيقة والقدرة علي التنبؤ بمستقبل أسواق المال، وبالفعل بعدها بسنوات جاءت عاصفة «وول ستريت» في 2008 وفضيحة «مادوف» الشهيرة لتؤيد تلك المحاولة التي قام بها جالبرث..الداعي للتفكير، تلك المقارنة التي يفترضها المترجم بين الأوضاع الاقتصادية في الدول النامية والمتقدمة، ومنها يفسر أهمية نقل مثل هذا الكتاب إلي العربية. وتقتضي هذه المقارنة المساواة بين مظاهر ومستوي «الفساد» في الدول النامية ومظاهر «الاحتيال البريء» في اقتصاديات المجتمعات المتقدمة. ما يعالجه هذا الكتاب فضلا عما سبق استعراضه من الرؤي الطقوسية للحياة الاقتصادية المتعلق أغلبها بخدمة المصلحة الذاتية المادية والموضة الجارية، هو شروع مؤسسي الاحتيال البريء في عالم الاقتصاد إلي خدمة هذا التوجه بدون دراية، هم أصلا كما يؤكد المؤلف «مجندون» دون أن يعرفوا كيف وبأي طريقة تشكلت رؤاهم تلك. يقول جالبرث: «تأتي استجابتهم ليس عن علم بخرق القانون، بل من عقيدة شخصية وقناعة اجتماعية، وليس لديهم إحساس بالذنب أو المسئولية. أخيرا يفند الكاتب الآثار السلبية المترتبة علي اقتصاد الاحتيال البريء مثل التلوث واقتناء الكثير والكثير من الأسلحة المميتة، وتدمير الطبيعة وصحة الناس، يقول جالبرث: «لا يمكن للإنسان أن يشك في أن الحروب تهديد حديث رئيسي للوجود المتحضر، ولا في أن الشركات المساهمة العملاقة تمنح الشرعية وفضيلة البطولة للموت والتدمير».