(1) في الطريق إلى السويس كان ماجد يشعر أنه محل عناية آلهية خاصة، ففي الوقت الذى أعياه فيه الضيق ولم يكن يتمنى سوى شرفة في مكان بعيد تطل على مشهد غير مألوف، تلقى دعوة من يوسف زميله السويسى في الكلية لقضاء الإجازة الرسمية معه في غرفته التي ترى «القنال»، خاصة أن الأب و الأم سيغيبان عن المنزل لحضور مناسبة عائلية في إحدى مدن الصعيد. كان ماجد يشعر بالضيق لأنه أغترب و استقر في العاصمة بحثا عن انطلاقة جديدة لحياته من الكلية التي لا تحمل أية ميزة سوى وجودها في العاصمة، لكنه بعد مرور أربع سنوات لم يجد مفتاح هذه الانطلاقة، كان يشعر أن الوقت يمر و أن الشهور المتبقية على نهاية الدراسة في هذه الكلية ليست كافية للعثور على هذا المفتاح، كان يضايقه أنه سينهى دراسته قريبا و لن يجد حجة تقنع أهله بالاستمرار بعيدا عن مدينته التي لا يحلم بالعودة إليها. (2) في صباح اليوم التالى استيقظ و رفض النزول مع يوسف لشراء الإفطار، اختار ان يبدأ يومه بسيجارة و قليل الشاي في الشرفة التي كان يتمناها، كان يتأمل القنال وهو يبحث في فايل محمد منير عن الأغنية التي كانت على مدى السنوات الأربع الماضية تظلل عقل خطواته، رفع ماجد الصوت و فتح الباب أمام منير « لفوا بينا .. قالوا لينا .. قالوا بينا ع المدينة .. لما جينا التقينا .. كل شيء فيها ناسينا». سمع ماجد صوت طرقات عصبية على الباب، فتح فوجد شخص قصير القامة في بداية الثلاثينيات، كانت نظرته متوترة سأله بدون مقدمات عن يوسف فأخبره أنه على وصول، ثم سأله عن هويته فقال له إنه ابن صاحب البيت، ثم دفع الباب بقوة و دخل يلف و يدور في الشقة كالمجنون. كان ماجد لا يعرف ما الذى يجب أن يفعله بالضبط، قال له ابن صاحب البيت: « فيه واحدة غريبة طلعت عندكم دلوقتى .. هذه ليست أول مرة يفعلها يوسف في غياب أهله.. هي فين؟»، نفى ماجد تماما هذا الاتهام طالبا من الرجل أن ينتظر وصول يوسف ليفتش البيت لكن بإذن صاحبه، أصر الرجل قائلا: فيه واحدة دخلت العمارة انا لسه شايفها، قال له ماجد ربما تكون قد صعدت إلى شقة أخرى، قال ابن صاحب البيت :لا يوجد فى هذه العمارة سوى عائلتى و أهل يوسف واستراحة البنك. فكر ابن صاحب البيت ثم طلب من ماجد أن يصحبه، اعترض ماجد فقال له صاحب البيت: «ماتخافش». كان ماجد يصعد درجات السلم قلقا بينما صوت منير يأتى من الشرفة محافظا على ثباته. في الطابق الأخير كانت هناك شقة على بابها لافتة تقول إنها استراحة العاملين في أحد البنوك، طرق ابن صاحب البيت الباب بجنون، كان واضحا أن هناك حركة مرتبكة بالداخل. بعد دقيقة فتح الباب شخص على وجهه علامات تقول إنه في وضع حرج، دخل ابن صاحب البيت يفتش كالمجنون في الاستراحة ثم خرج من إحدى الغرف بسيدة متوسطة الجمال كان واضحا أنها كانت تحاول ارتداء ملابسها، طلب ابن صاحب البيت من ماجد ألا يسمح لأحد بالخروج، ثم فتش غرفة أخرى فخرج برجل ثالث شبه عار.كان الذهول يغطى نظرات الجميع، أخرج ابن صاحب البيت تليفونه المحمول و كان واضحا أنه يتصل بالشرطة، بدأت حملة من الاستعطاف، كان الموجودون يحاولون تحاشى فضيحة سيكون أثرها مضاعفا في مدينة هادئة صغيرة، تبتلع المدن الكبرى مثل هذه الفضائح لكن لا أمل في ذلك هنا. كان ابن صاحب البيت يكرر جملة واحدة طول الوقت : «هذه ليست أول مرة» . كان ماجد يراقب الموقف في صمت و التقت عيناه عينى المرأة فشعر بغصة جعلته يدير وجهه بعيدا، لمح في وجه المرأة صفاقة ما، كانت أكثرهم هدوءا، و كان باديا أنها ربما تكون محترفة. وصلت الشرطة و قال ماجد كل ما حدث نصا، و عرف أثناء وجوده في القسم أن العامل المسئول عن الإستراحة يؤجرها لراغبى المتعة و يقدم لهم هذه المرأة مستغلا أن الاستراحة شاغرة معظم الوقت. قضى ماجد فترة طويلة في قسم الشرطة لاحظ خلالها عودة ابن صاحب العمارة إلى طبيعته مع شعوره بتحقيق إنتصار ما، سأله لماذا لم يفكر أن يستر على من ضبطهم،قال إنه بيت العائلة، قال ماجد هذا أدعى أن تبتعد بسمعة البيت عن هذة الشوشرة، قال له ابن صاحب البيت أنه فكر أن يطردهم ويبلغ إدارة البنك و ينهى الموضوع لكن شيئا ما لا يعرفه قد منعه. طلب ضابط الشرطة من ماجد أن يكون حاضرا تحقيق النيابة في الصباح الباكر. (3) في صباح اليوم التالى كان ماجد يقف أمام المبنى في انتظار موعد النيابة، وصلت السيارة التي تقل المتهمين، نزلت منها المرأة و مشت خطوات قليلة، و قبل أن تصل إلى الباب ظهرت امرأة أخرى أربعينية نحيلة نظرت إلى المتهمة و أخذت تصرخ « بنتى فين ؟ .. بنتى فين؟» و أمسكت برقبتها بعنف ثم فقدت وعيها و سقطت في مكانها. (4) بعد ظهور نتيجة نهاية العام فكر ماجد في الدراسات العليا كحجة للبقاء في العاصمة، كانت حجة مقنعة بالنسبة لأهله. كان يؤمن بصدفة ستقوده إلى المفتاح الضائع، مثل الصدفة التي قادت السيدة النحيلة التي أغشى عليها أمام مبنى النيابة للإمساك بجارتها فى أحد أسرة عنبر مستشفى حكومى، كانت السيدة النحيلة قد وضعت طفلتها الثانية، وفى غفلة منها اختفت جارتها و الطفلة، ثم ظهرت الجارة بعد خمس سنوات مقبوضا عليها فى قضية آداب، واعترفت أنها خطفت الطفلة وباعتها لأسرة في الشرقية. لم تكن تلك الطفلة لتعود لأمها لولا فضيحة أصر عليها ابن صاحب العمارة، أما درجات السلم التي صعدها ماجد إلى الدور العلوى و فى الخلفية صوت منير فقد كانت بالنسبة له درسا في عدم فقدان الأمل. ....................................................................... ع المدينة : غناء محمد منير- كلمات عبد الرحيم منصور- ألحان أحمد منيب- توزيع يحيى خليل – إنتاج عام 1981