"مش باقى منى غير شوية لحم ف اكتافى بلاش يتحرقوا فى قطر الصعيد ف العيد"!. شتاء القاهرة الساعة السابعة صباحًا! تهم السيدة سعاد (البالغة من العمر) 52 عامًا - بعد إجازة مرضية طويلة- بالنزول من بيتها للذهاب إلى عملها بالمدينة الجامعية بالعباسية. سعاد اعتادت أن تبتسم لنفسها فى المرآة صباح كل يوم، يشعرها هذا بأنها أصغر وأنشط!. سعاد لم تتزوج –بعد- لأنها أيقنت أنها لن تشعر بالسعادة إلا حينما تتحقق فى داخلها.. وهى بعد لم تتحقق ثم كيف تأتى بمخلوقات سعيدة فى وسط كل هذا البؤس الذى يحيطها من كل ناحية!. سعاد تعيش بمفردها فى شقة متواضعة بها جهاز تليفزيون صغير، وراديو حديث بعض الشيء أهداه لها صديقاتها فى العمل حينما أتمت الخمسين. هل هذه مناسبة تستحق الاحتفال وتبادل الهدايا؟! رُبَّما.. سعاد تبدأ يومها فى الخامسة صباحًا تستيقظ فتُصلى فجرها، ثم تبدأ بتعلية صوت الراديو لتستمع إلى ابتهالات الفجر، وقد سكن كل شيء من حولها.. إلا من زقزقات العصافير وأصوات خافتة -عميقة الأثر فى نفسها- تأتى من صوت المشائين فى الظُلَمِ الذاهبين لآداء الصلاة هذه الأصوات تُشعرها بالطمأنينة البالغة كيف لا تهدأ حينما تسمع "سبحان ربى الحليم .. سبحان ربى الكريم سبحان من هو بحال العبادِ عليم.. سبحانك.. سبحانه وتعالى.. سبحان الله" كم كانت تود أن تقابل الشيخ محمد عمران وتشكره على صوتهِ الذى يتبدد بهِ ظلام ليلها كل يوم! ولكنها كانت تدعو له كثيرا.. وتقول أنها حتمًا ستقابله فى الجنة –فجرًا- أيضًا!. كان كل حلم سعاد فى هذه الحياة -أو لنقل ما تبقى من أحلامها- أن تذهب فى رحلة للحج ..ويقبض الله روحها هناك فى هذه الأراضى الطاهرة.. تجتاحها تلك الأمنية كل يوم فى اللحظة التى يعلو فيها صوت الابتهال: "الصلاة والسلام عليك .. عليك يا من إذا مشى يسبقه النور الصلاة والسلام عليك.. وعلى آلك وأصحابك أجمعين" وتأتى (الله أكبر .. الله أكبر) فتسرى قشعريرة باردة بين أضلُعها تنُم عن شوقٍ بالغ لهذا الحلم البعيد فلقاء للأحبة هناك فى العالم الآخر.. تبدأ بتجهيز فطورها الزهيد وتجهز أوراق عملها وملابسها البسيطة للذهاب إلى عملها مبكرًا.. سعاد لديها الكثير من الصديقات فى العمل –وهى ولله الحمد تأخذ لقب الموظفة المثالية كل عام – عن جدارة.. ظلت حياة (سعاد) على هذا الحال أيامًا وشهورًا وسنين عديدة. وستعجب حينما تعرف أن سعاد قدمت فى حج القرعة هذا العام ووقع عليها الاختيار، ولكن كان ينقصها فقط بعض التدابير (مصاريفها هناك، ومبلغ من المال لم تكمله بعد.. كانت تدخره كل شهر لتهبه كصدقة جارية على روحها إذا جاء الأجل هناك فى الأرض الطيبة). (هناك متسع من الوقت احنا فين والحج فين يا بنتى).. تخبرها جارتها الحاجة "زينب"67 عامًا، والتى تعمل خيّاطة فى الشقة المقابلة لها. كانتا تتشاركان كل يوم فى وقت العصر شرب الشاى المظبوط فى شرفة الحاجة زينب، ويحلو الحديث مرةً، ويكون مُرًا مرة أخرى حينما يمس جرحًا قديمًا غائرًا. ولكنها (سعاد) كانت تجد فى الحاجة زينب عِوضًا كبيرًا عن الراحلين عن عالمها من عائلتها.. وتدعو لها بدوام الصحة والعافية والمدد من الله. حتى كان صباح يوم من أيام فبراير وقد استيقظت سعاد متأخرة هذا اليوم.. ولم تسمع ابتهالات الفجر ولا خطوات المصلين ولا زقزقات العصافير!. انقبض قلبها قليلًا ولكن قدر الله وما شاء فعل. أدت فرضها، ثم توجهت مسرعة إلى عملها ولم يكن هناك وقت لتلقى السلام على (الحاجة زينب) كعادتها كل يوم.. وقالت بينها وبين نفسها أنها حينما ترجع من عملها ستذهب أولًا لها ثم تذهب إلى بيتها.. كانت قد ادخرت المبلغ اللازم لتكاليف رحلة الحج.. ولكن بيتها غير آمن لتضع فيه هذا المبلغ.. فاستقرت على أن تضعه فى بنك الجامعة –هذا هو التصرف السليم-! كانت السابعة والنصف والجو به نسمة برد خفيفة سعاد اعتادت ركوب المترو للذهاب إلى عملها اليوم الأحد بداية الأسبوع تُفاجأ سعاد بأنه لا يوجد مكان لها على المحطة وأن محطة المترو ممتلئة عن آخرها والقطارات تمر من أمامها وسط صيحات الركاب بأن توقف أيها السائق لنركب ونلحق بأعمالنا تستغفر الله وتأخذ في قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" مرات عديدة عربات السيدات ممتلئة عن آخرها، وعربات الرجال مُفتَّحة الأبواب ويطل منها أطفال صغار على ظهورهم حقائب المدرسة وقد فُتحت وتساقطت منها أقلامهم وكراريسهم من شدة الضغط والتدافع داخل العربة وهناك سيدة بجوارها يرتفع صوتها لأن الأخرى قد منعتها من الركوب وجذبتها من شعرها. لا حول ولا قوة إلا بالله لا حول ولا قوة إلا بالله تُرددها بقوة هذه أول مرة تتأخر عن عملها إلى هذا الحد تشكر الله على نعمته بانها وحيدة لم تتزوج، ولم تلد.. كانت ستموت كل يوم ألف مرة حين تتخيل أن صغارها سينتهى بهم الحال بين عربات المترو حتى يلحقوا بالحصة الأولى، وأنها لو كانت أنجبت بنتًا لربما تعرضت لمئات محاولات التحرش اللفظى وربما أكثر من ذلك فى وسط هذا الزحام الخانق. وفى وسط كل هذه الأفكار المتدافعة تشعر بشدة خفيفة فى حقيبتها.. ثم تجد شخصًا يهرول ليختفى فى ثوان عن لمح البصر فى هذا الزحام. ترتعد خوفًا.. وتتفقد الحقيبة لتجد أنه قد سرقها بالفعل! لم تجد محفظتها التى قد أودعت بها مصاريف الحج، والصدقة الجارية التى قد عزمت على أن تُخرجها قبل الذهاب للحج، وصورًا قديمة لأبيها وأمها، وللحاجة زينب فى شبابها. هذا الشخص قد سرق حلمها قد سرق ما تبقى من ذكرياتها "أوقفوووووه..." تصرخ بأعلى صوتها.. لم يلتفت إليها أحد.. أو بالأحرى لم يسمعها أحد ولن يسمعها أحد.. كان الزحام شديدا والأصوات متداخلة وكل شيء كان يُنبئ عن يوم ثقيل على سعاد! لا حول ولا قوة إلا بالله الفلوس راحت الحج خلاص أبويا.. أمَّا.. مش هشوف صورتكم تانى يا حاجة زينب.. يا حاجة زينب تسقط سعاد مغشيًا عليها.. تلتفت إليها طالبة بالفرقة الأولى بكلية الطب وكانت تعرف القليل عن الإسعافات الأولية فتصرخ فى الواقفين: "فى واحدة أغمى عليها هنا.. فى واحدة أغمى عليها هنا" ساعدونى ارفعوها معايا. تمر ربع ساعة.. ثم تفيق سعاد من إغمائها لتجد نفسها على أحد كراسى المحطة وتقول لها هذه الفتاة: "يا ماما انتى كويسة"؟! ماما تقع هذه الكلمة على قلب سعاد وقع الصاعقة.. أول مرة يناديها أحد بهذا اللقب.. وما أحلاه. لم تكن تذكر أنها قد سُرقت فى هذه اللحظة فلقد أنساها اللقب ما حدث تمر خمس دقائق أخرى وهى بين أذرع الفتاة وتتفقد حقيبتها لتخرج منديلًا تُخفى به دموعها.. فلا تجد المحفظة، فتتذكر السرقة وآخر ما تذكره كان ندائها "يا حاجة زينب.. يا حاجة زينب" فتنتفض من رقدتها وتهرول إلى البيت لتجد شرفة الحاجة زينب مُغلقة على غير العادة تصعد السلالم بكل ما أوتيت من قوة وتطرق الباب فتجده مواربًا.. فتدخل لتجد الحاجة زينب جثة هامدة بجوار سجادة الصلاة وفى يدها مسبحتها الخضراء وقد ارتسمت على وجهها بسمة لن تنساها سعاد أبدًا. يا حاجة زييييينب... يا حبيبة... يا غالية... هتسيبينى لمين من بعدك... ياااااااااااارب.. رحمة من عندك.. يااااارب.. لطفك عليها يااااارب. يسمعها الأستاذ أحمد جارهم الذى يسكن فى الطابق العلوى وهو ذاهب إلى عمله، فيدخل ليرى ماذا حدث، فيعرف على الفور .. ويحاول تهدئة سعاد. "بسمة" فتاة فى الثامنة عشر من عمرها -تسكن فى العمارة المقابلة لعمارة الحاجة زينب كانت تكتفى بمشاهدة الحاجة زينب كل يوم عصرًا تجلس مع سيدة أخرى –هى سعاد- ! ولكنها لم تكن تعرف اسمها حينئذ. لاحظت أن هناك صراخًا فى شقة الحاجة زينب فخرجت إلى الشرفة لترى ماذا حدث. ماتت الحاجة زينب!! يا الله... تهم بالنزول لتودعها الوداع الأخير، ولكن حين تصل لباب البيت تتذكر أن والدتها قد أغلقت الباب بالمفتاح حتى لا تخرج وتجلس للمذاكرة، فهى فى الثانوية العامة. تبكى كما لم تبك من قبل. ما الذى يحدث الآن فى شقة الحاجة زينب كيف هيئتها الآن؟ هل ستدخل الجنة؟ هل يُعقل أنها لن تودعها؟ ........ فى اللحظة التى ماتت فيها الحاجة زينب هناك لص قد سرق سعاد وأم قد أحكمت غلق الباب على ابنتها لتذاكر وأب يضرب ابنه لأنه يتمارض حتى لا يذهب للمدرسة وشيخ كبير يختنق بعربة المترو وصديقة تتصل بصديقتها تأتمنها على سرها وصديقة تذيع سر صديقتها بين زميلاتها بالجامعة وسائق ميكروباص يأخذ جرعة الحشيش التى تكفيه ليبدأ يومه ومريض بالسرطان يتلوى من الألم فى أحد المستشفيات ومريض بالوسواس القهرى يعيد غسل يديه أكثر من عشر مرات وسيدة تتسول وقد كشفت عن ساقها المبتورة حتى تستعطف المارة وطفل يُفتِّش بين أكياس القمامة عن كسرة خبز تسد جوعه ورجل يضع عطرًا ثمينًا، ويركب سيارة فارهة يرمق بواب العمارة لأنى يجلس حافى القدمين! وهناك سُعاد المَكلومة وبسمة المُحتَجَزة والحاجة زينب !!