بقلم: أحمد هشام صديق تمهيد: أعُلن ظهر السبت الموافق 21 من أغسطس من العام 2010 عن سرقة لوحة الفنان الهولندى فان جوخ ، زهرة الخشخاش ، من متحف محمد محمود خليل بالدقى ، وكشفت التحقيقات أن السرقة جاءت وسط الغياب الأمنى وتعطل معظم أجهزة المراقبة والتصوير ، نتيجة الإهمال الذى يعانى منه المتحف. جاءت اللوحة إلى مصر على يد محمد محمود خليل ، الذى أدى دوراً هاماً في الحياة الثقافية في مصر, حيث كان راعياً للحركة الفنية التشكيلية بها ، وكان محمود خليل يجول بلدان العالم باحثا عن لوحات أشهر الفنانين لينتقى منها ما يشتريه ويجلبه لمصر, وفي النصف الأول من القرن العشرين, كان له دورا هاما في التبادل الثقافي والفني بين مصر وفرنسا, جعله ينال في ذلك الوقت أرفع الأوسمة والنياشين الفرنسية اعترافا بدوره في هذا المجال. تقدر قيمة لوحة زهرة الخشخاش بما يزيد على الخمسين مليون دولار ، وهى لوحة لزهرية تحمل أزهار صفراء وحمراء ، وتأتى قيمتها الفنية من الروعة فى إستخدام الألوان والمعنى الباطن داخل الفكرة الأساسية من اللوحة. * * * على رصيف المحطة ، وقف إبراهيم منتظراً المترو للذهاب لعمله كما يفعل كل يوم ، وعند وصوله ؛ كان المترو مزدحماً كعادته ، ولم يجد إبراهيم مقعداً شاغراً ، فظل واقفاً فى الزحام كما يحدث فى أغلب الأحيان. لفت نظره أسرة كانت تركب معه نفس العربة ؛ مكونة من أب وأم وإبنهما ، الإبن فى حوالى الثانية عشر من عمره ، أما الأب والأم فكانا تقريباً فى منتصف الأربعينات. بدا على الأب تأثر صحته بفعل مرض مزمن ، فكان يجلس ويقف بجانبه زوجته وإبنه. وسط الزحام سمع إبراهيم الأم تقول لإبنها :"بس أنا زعلانة منك عشان مصطفى وعمر جابوا أعلى منك ، و مطلعتش الأول زى الترم إللى فات." رد الإبن:"ماهو يا ماما مصطفى وعمر بيغشوا ، عايزانى أنا كمان أغش؟" تدخل الأب فى الحوار قائلاً:"أوعى يا محمود فى يوم تغش ، من غشنا فليس منا" وأضافت الأم:"وكمان يا محمود اللى يغش دة ممكن يعمل أى حاجة بعد كدة.. يكذب ، يسرق ، يعمل أى حاجة ، أنت فاهم ولا لأ؟ ما تقول له يا خليل.." قال الأب:"يا محمود الرسول عليه الصلاة و السلام قال : يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر ، واديك شايف ، كله بقى بيغش ويسرق ويكدب ويرتشى ، الناس بقت تعمل كل حاجة ، عايز تبقى زيهم كدة؟" نظر الإبن للأسفل و قال بصوت خافت:"لأ طبعاً" ، إبتسم الأب وربت على كتف إبنه برضا وضمته أمه إليها وقبلته على رأسه ، تأثر إبراهيم بذلك المشهد وإرتسمت على وجهه إبتسامة خفيفة. فى ذلك التوقيت كان المترو قد وصل للمحطة التى ينزل إبراهيم عندها ، وعندما نزل منه ، كانت أمامه مسافة طويلة بعض الشىء ليمشيها ، ولكنه كان يجد المتعة فى المشى صباحاً.ووسط زحام أفكاره تراءت له صورة محمود وأبويه ، بدوا فى خياله كأزهار جميلة نادرة ؛ قابعة فى ظلام بستان يملأه الردىء من أشكال الزهور وقبيحها. رن هاتف إبراهيم المحمول عندما كان فى إنتظار المصعد الذى يقله لمكتبه ، أخرجه من جيبه فوجد المتصل أسامة زميله فى العمل ، الذى يلتقى به أحياناً فى المترو أثناء ذهابهما صباحاً ، رد إبراهيم فسمع صوت أسامة عالياً ؛ فيه نوع من القلق ويشوبه صوت زحام:"أيوة يا إبراهيم أنت فين؟" ، رد إبراهيم:"أنا وصلت وواقف مستنى الأسانسير" ، فسأله أسامة وقد هدأ قلقه قليلاً : "يعنى نزلت من المترو خلاص؟" ، رد إبراهيم:"أيوة نزلت ، خير فى إيه خضتنى؟" ، "أبداً أنا صحيت النهاردة متأخر ، لسة واصل المحطة من شوية عشان أركب المترو لقيت الدنيا مقلوبة ، بيقولوا فى مترو خرج عن مساره وإتقلب جوة النفق ماحدش عارف إيه إللى جرى له.." ، "يا ساتر يا رب دة حصل إمتى دة؟" ، "يادوبك مافيش عشر دقايق ولّا حاجة ، عشان كدة باكلمك أطمن عليك" ، رد إبراهيم بصوت مضطرب:"أنا كويس الحمد لله ، إطلع أنت إركب أى حاجة وخلّى بالك من نفسك لغاية ماشوفك ، سلام" ، "سلام". أصيب إبراهيم بالذهول من كلام أسامة ، خرج من المبنى ليرجع للمحطة حتى يتأكد بنفسه مما سمع ، كان يهرول فى المشى أو كانت خطاه أقرب للجرى للرجوع لمحطة المترو ، وعندما وصل كانت هناك حالة هرج وفوضى فى نفس المكان الذى غادره قبل قليل ، زحام وناس تخرج وعربات شرطة وإسعاف ، فجأة تذكر محمود وأبويه ، فخفق قلبه وشعر بغصة فى صدره ، وأحس أن ما يراه فى تلك اللحظات أشبه بالحلم ، ولم يكن يدرى ماذا يفعل أو كيف يتصرف ، وجد شاباً واقفاً فسأله:"هو إيه إللى حصل؟" ، فرد الشاب:"فى مترو بعد ما طلع من المحطة دى وهو ماشى خرج عن مساره وإتقلب جوة النفق" ، إلتفت إبراهيم والشاب لصوت جاء من وسط تلك الجموع المحتشدة لرجل أخذ يصيح :"الله يخرب بيتهم ، الله يخرب بيتهم ، الله يخرب بيت الفساد على بيت الإهمال على بيت ولاد الحرام اللى عملوا كدة فى البلد". نظر الجميع إليه فى إشفاق ، وقال الشاب فى حزن:"لا حول ولا قوة إلا بالله". لم يستطع إبراهيم التحمل أكثر من ذلك ، إستدار ومشى عائداً لعمله ، وهو مذهول مما حدث ، وهذه المرة أثناء مشيه كان أيضاً يفكر فى محمود وأبيه وأمه ، وظل طوال الطريق يحاول الإجابة عن سؤال واحد أخذ يجول بخاطره .... مين حايجيب لمحمود خليل حقه من الفاسدين والمهملين؟؟